من الواضح أن الإسلاميون المحسبون على فكر جماعة الإخوان المسلمين قد أحرزوا تقدما ملحوظاً، لا نبالغ إذا قلنا أنه غير مسبوق لتصدر حزب ما بهذا الشكل في إي من الديمقراطيات الحديثة، و هذا يضع الإسلاميين تحت مجهر التفتيش و النقد من قِبَل المناوئين من جميع الفئات؛ الليبراليون و العلمانيون و أتباع الأنظمة المخلوعة و حتى الإسلاميون السلفيون و الجهاديون و غيرهم. لم يُثِر فوز الإسلاميين استغراب خصماؤهم السياسون أو المراقبون في أي مكان سواء في البلاد العربية أو غيرها، إذا ما نظرنا إلى مواقفهم الحقيقية لأنهم يعرفون أنهم أقرب للشعوب منهم، و لكنها دفعتهم لوضع الإسلاميين تحت مجهر المراقبة من ناحية أدائهم و ماذا سيقدمون لشعوبهم و للعالم من الناحية الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و غيرها. هذه النظرة المراقبة للحاكم في البلاد العربية غريبة عن طبعه العالم العربي الذي عهد قمع الحاكم و السكوت عليه، و على المجتمع الدولي أيضاً الذي كان يدعم قمع هؤلاء الحكام لشعوبهم من أجل الاستمرار في خدمة أجندة تخدم سيادتهم و إحكام سيطرتهم على المنطقة.
و من القضايا التي يضعها المراقبون المحليون من الخصماء السياسيين و غيرهم تحت المجهر قضايا تنفيذ الوعود بالتنمية و توفير الأمن و حل المشاكل الاقتصادية و الاجتماعية و غيرها. و قضية أخرى هي قضية الفساد الإداري الذي يسلطون عليه الضوء و يجعلونه سبيل لمهاجمة الإسلاميين، و من ضمن هذه القضايا ما يعتبره هؤلاء الخصوم استئثار الإسلاميين بالسلطة و محاوولتهم (التكويش) على هيئات صياغة الدساتير و القوانين و غيرها. و لهؤلاء الخصوم أساليبهم الخاصة الذي يجدون فيها السبيل للمهاجمة و النقد.
أما المراقبون الخارجيون مثل الولاياتالمتحدة الأميركية و الدول الغربية، فهم يركزون على مدى البرغماتية التي، من وجهة نظرهم، يجب أن يقدمها الإسلاميون تجاه قضايا بعينها تخصهم و منها على سبيل المثال لا الحصر: علاقة الأنظمة الحاكمة الجديدة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي و موقفها من قضايا الإرهاب العالمي الذي صاغت الولاياتالمتحدة الأميركية و حلفاؤها قوانين مكافحته و بَصَمَت على التعاون معها الأنظمة الحاكمة قبل الربيع العربي دون نقاش، و تضمنت تلك القوانين شن حرب على العديد من الإسلاميين هنا و هناك بحجة دعمهم للإرهاب، و تضمنت أيضاً تلك القوانين، بطريقة غير مباشرة، محاربة الإخوان المسلمين حيث كان النظام المصري و الليبي و التونسي و السوري السابق، و نوعاً ما الأردني، يضطهدهم دونما انتقاد من هذه الدول و لا من المؤسسات الحقوقية الدولية بمثل الطريقة التي ما فتئوا يتعاملون بها مع قضايا أخرى. و ما حصل مع التفاعل الدولي مع فوز حماس، و التي هي حركة من رحم الإخوان بلا نقاش، في الانتخابات عام 2006 و حتى الآن، و ما يحصل في الإمارات اليوم دونما لفت انتباه من أي طرف دولي، إنما هو أيضاً دليل على أن قوانين الإرهاب موجهة أيضاً لمحاربة الإخوان المسلمين.
و لكن الزخم الأكبر و الأكثر تأثيراً من هذا الزخم الإسلامي الذي تستهدفه قوانين مكافحة الإرهاب قد أصبح حاكماً و حاكماً قوياً، إذ أنه تربع على عرش الحكم بطريقة شرعية و تمتع بأغلبية في معظم الأحيان. لذلك فإن الدول التي أشرنا إليها تشعر بالحرج من نتائج هذه الثورات، و بالتالي فهي تعيش مرحلة من التربص بالحكام الجدد من أجل تمكين أي طرف آخر مناوئ للتفوق عليهم في أي انتخابات أو تحركات سياسية أو شعبية قادمة. ولعل تقاعس تلك الدول عن الوقوف إلى جانب الثورة السورية كما فعلوا مع باقي الثورات هو خوفهم من مرحلة ما بعد الثورة التي ربما تأتي بالإسلاميين للحكم، و إن كان هناك أسباب أخرى لتقاعسهم عن نصر هذه الثورة، و لكن هذا يبقى سبباً جوهرياً.
قضية الوعود الانتخابية
فالوعود الانتخابية من القضايا التي يضعها المراقبون المحليون و الخصوم السياسيون تحت المجهر. على سبيل المثال في الشأن المصري، أطلقت بعض المؤسسات الإعلامية المصرية التابعة لأطراف معينة أقسام خاصة لمتابعة تنفيذ وعود الرئيس المصري الجديد محمد مرسي خلال المائة يوم الأولى، و وصل الأمر إلى أن أطلقت إحدى الجهات موقعاً خاصاً اسمه "مرسي ميتر" يشمل متابعة حثيثة و دقيقة لتلك الوعود، و هناك قنوات فضائية أطلقت برامج حوارية و نشرات خاصة لمتابعة الموضوع ذاته، منها ما وصل به الأمر إلى حد التهكم المبالغ فيه أو النقد اللاذع لشخص الرئيس أو حزبه السياسي، و منها ما اعتمد و بشكل مقصود على تلفيق أخبار كاذبة حول تصرفات معينة للرئيس مرسي.
بالطبع عندما أعد الرئيس مرسي و حزبه، الحرية و العدالة خطة المائة يوم، أعدوها للتنفيذ في جو من الحرية و الاعتراف بالآخر و الحرص على مصلحة مصر، و أيضاً أعدوها للتنفيذ في جو من التعاون مع الجميع. و لكن ما حدث هو بمجرد فوز الرئيس مرسي بعد ان فشلت محاولات إنجاح منافسه أحمد شفيق، و تلك مخططات لم تعد تخفى على أحد، فقد انقلب الوطنيون و اللبراليون و اليساريون و حتى بعض الإسلاميون عليه و على حزبه الحرية و العدالة و على جماعته، جماعة الإخوان المسلمون.
و ذلك بالضبط تكرار ما حدث مع حركة حماس عند فوزها في الانتخابات عام 2006. فقد واجهت حماس ضغوط كبيرة جداً من أجل المشاركة في الانتخابات، و بعد فرز الأصوات بطريقة شفافة و نجحت حماس، مباشرة رفضت جميع الفصائل الفلسطينية الإسلامية قبل اليسارية و العلمانية، و حتى كثير من المتخصصين، رفضوا مشاركتها في تشكيل حكومة تابعة للسلطة الفلسطينية و حاصرها الإسرائيليون و المجتمع الدولي تقريباص بأكمله.
و من مظاهر تلك الانقلابات هي رفض عدد مو الوجوه الوطنية المختلفة لتولي مناصب بعينها على الرغم ن الخبرات التي يحملونها في الملفات التي عرضت عليهم، و هذا أمر مهم في إضعاف عجلة الإصلاح، و منهم من وقف جانباً و اتخذ موقف المتفرج أو الناقد أو الباحث عن الثغرات أو المحرض على الإضرابات النقابية التي تشل أي عملية الإصلاح. هذا سبب جوهري كبير في قضية التباطؤ في تنفيذ الوعود.
و من القضايا الأخرى التي تؤخر عملية تنفيذ الوعود هي قضية التغييرات التي تطال الفاسدين إدارياً في مناصب عليا في أجهزة الدولة المختلفة، و هذه بدت أكثر صعوبة في تونس منها في مصر، حيث تقيم النقابات احتجاجات ضد التغييرات الإدارية التي تطال مسئولين كبار في أجهزة الدولة و التي وصلت بعض الاحتجاجات إلى الاعتداء بالضرب على أحد المرشحين لمناصب معينة مثلما حصل مع مدير هيئة التلفزيون التونسي التابع لسيطرة الدولة و التي من حق الحكومة أن تغير و تختار من تشاء في هذا المنصب، و قد اختارت شخصية ليست لها من قريب و لا من بعيد بحزب النهضة، بل هي من وجوه النظام السابق و لكنها استجابت و أبدت استعداداً صريحاً لخدمة البلد تحت لواء حكام منتخبين بحرية و نزاهة.
أقصد هنا أن الإسلاميون الذين دخلوا المعترك السياسي فعلياً و أصبحوا على المحك من خلال الثورات العربية، ليس لديهم الحنكة السياسية المتمثلة في المراوغة و الالتفاف على الشعوب. فالعادة عند السياسيين عندما يضعوا برامج الدعايات الانتخابية يضعوا في نفس الوقت الردود الجاهزة لعدم قدرتهم على تنفيذها، و هم لا يطلقون وعداً ما إلا إذا وجدوا له رداً سياسياً مقنعاً في حالة عدم تنفيذه، و ما يتم دراسته في أروقة صناعة القرار داخل الأحزاب السياسية قبل أن يظهر حتى إلى قواعد تلك الأحزاب، فضلاً عن عرضه على عامة الشعب فيما بعد. و لهذا، يجب على الإسلاميين الاستدراك في هذه الناحية قبل فوات الأوان، و نحن نعلم أن التفكير بهذه الطريقة محظور عندهم من الناحية الشرعية لما فيه من الخداع و الكذب، لكن عليهم أن يجدوا البديل المناسب و الذي من الممكن أن يصمد أمام الجموع النخبوية و العامة التي طغت أساليب السياسة الحديثة (المبنية على الخداع) على طريقة تفكيرها، و بالتالي إذا أوجدوا ذلك الأسلوب السياسي الجديد، فإنهم يكونوا قد أثبتوا نجاح فكرهم السياسي إلى حدٍ كبير.
الفساد الإداري
أما بخصوص قضايا الفساد الإداري، فإن الإسلاميون وهم مثلهم مثل غيرهم من الأفراد و الجماعات غير معصومون من الخطاء و هم عرضة للفساد الإداري و الأخلاقي على حد سواء. صحيح أن هذه القضايا غير منتشرة في صفوف الإسلاميين بشكل ملموس و ذلك لأن أفراد تلك الجماعات قبل أن تكون في الحكم كانوا من خلاصة الناس و ليس من العامة، و كان يَمْثُل أمام أعينهم التحدي و الصمود و التضحية عند اتخاذهم القرار بالانضمام إلى تلك الجماعات. لم يكونوا ينتظرون مغانم و مردودات مادية أبداً، بل كانوا يدفعون من قوت أطفالهم لتستمر تلك الجماعات، و هذا أمر واضح جداً و يعرفه المتخصصون في شئون الجماعات الإسلامية و غيرهم، بأن كل فرد ذا صفة تنظيمية في أي حزب ينتهج منهج الإخوان المسلمين يدفع نسبة معينة من دخله الشهري بشكل إجباري لهذا التنظيم أو تلك.
و لكن عندما أصبحت هذه الأحزاب في الحكم، انضم إليها الكثير طوعاً لأنها أصبحت هي الحاكمة، و هذا أمر طبيعي في البشر، أو طلباً من تلك الأحزاب من أجل إضفاء صبغة تنويعية على حكوماتهم أو من أجل الاستعانة بالخبرات الغير متوفرة في بعض النواحي في أفراد تلك الأحزاب. و هذا يعتبر سبباً مهماً في شيوع قضايا الفساد بين ممثلي تلك الأحزاب في الأماكن المختلفة من أجهزة الدولة.
هذه ليست المشكلة بحد ذاتها، فكما قلنا أن الإسلاميون أكثر الناس الذين يدركون بأنهم غير معصومين، و لكن الأمر المهم هنا و الذي لا بد من وضع عشرات الخطوط الحمراء تحته هو عندما يتم وقوع أي شخص في قضية من قضايا الفساد في إطار هذه الأحزاب، يتم التعامل معها بطريقة تعامل الحزب مع أفراده، أي أن الفرد الذي يثبت بحقه قضية فساد داخل الحزب يتم معاقبته بطريقة تتناسب مع الجريمة التي ارتكبها، و في كثير من الأحيان يكون العقاب أكثر ردعاً من العقاب الذي تفرضه قوانين و دساتير الدول المختلفة، و لا يتم التشهير أو الإعلان عن تلك الجريمة أمام الجماهير بحجة أن الله تعالى أمر بالستر، و هذا صحيح من الناحية الشرعية، و ربما عندما يقيم الإسلاميون الخلافة الذي يسعون لإقامتها، يصبح ذلك أمراً مقبولاً. و قد حصلت أمثلة كثيرة خلال فترة حكم حركة حماس في قطاع غزة، و كان العقاب لا يتثني مسئولاً كبيراً أو صغيراً، قديماً أو حديثاً، و لكن لم يعرف العامة الذين وضعوا حماس على كرسي الحكم ماذا يحدث.
أما في حال وضع هذه الأحزاب في الحكم التي وصلت إليه من خلال الاختيار الشعبي، فهذا لا يصلح، لأن الذي أوصلهم للحكم هم عامة الشعب، بالمعنى الديمقراطي، و ليس أفراد أحزابهم، وهم وصلوا إلى الحكم أيضاً بطريقة انتخاب شفافة و واضحة. لذلك، إذا ثبتت قضية فساد بحق أحد المحسوبين على هذه الأحزاب، و لو كان من خارج تلك الأحزاب و تم اختيارهم لمناصب معينة فإنهم يمثلون الأحزاب لأنهم جاؤوا باخيارهم و وُضِعُوا في مناصبهم لتنفيذ سياسات و خطط الأحزاب، فإنه من الواجب على الحزب أن يحاسب ذلك الشخص بشفافية واضحة و علناً في المحاكم و أمام الناس لأن الناس لا يعنيهم المحاكم التنظيمية الداخلية التي لا يعرف تفاصيلها إلا أفراد التنظيم بعينه، و أما ما يعنيهم هو محاكم الدولة التي يعرفونها و يستطيعون أن يعرفوا طريقة عملها و طريقة مراقبتها و لا يمكنهم التقليل من شأن الإجراءات العاقابية التي تنتج عنها لأن إجراءاتها ستكون علنية و تحت أعينهم.
و هذا الأمر لا يضر بالأحزاب كما يتصور البعض من زعماء تلك الحزاب، بل يزيد من شعبيتها إذا أنها تثبت للناس أنها لا تقدس الأشخاص و أن أفرادها و قياداتها هم تحت سيف العدالة العلنية بالتساوي مع جميع أفراد الشعب و ليس هناك تفضيل لإسلامي على يساري على ليبرالي على مسيحي، إلخ... و على هذه الأحزاب أن لا تحاول البتة التغطية على قضايا الفساد التي تحدث خوفاً من انخفاض شعبيتها إذا أنه سيصبح هناك مجال لمقارنتها بالأحزاب الأخرى الفاسدة، بل ذلك يرفع من شعبيتها لأنها تثبت النزاهة و العدل في المحاسبة، و ربما إذا أرادت أن تثبت أن الفساد لديها ليست مبدأ فستستطيع ذلك من خلال المحاسبة العلنية و الشفافة.
و لتعلم تلك الأحزاب أن الذي يكون في المعارضة و خصوصاً إذا كان مضطهداً من السهل أن يستطيع أن يسلط الضوء على مشاكل الشعب المستعصية و يوضح كيف أن الحكومات عاجزة عن تلبية رغبات شعوبها و لا تستطيع أن تحل مشاكله، و لكن الأمر مختلف عندما تصبح هذه المعارضة في السلطة و هي مطالبة بإطعام الشعب و إسقائه و تشغيل العاطلين و حل المشاكل المختلفة. هذا أمر طبيعي جداً. نحن على يقين أن الإسلام يستطيع حل جميع المشاكل الإنسانية برمتها و بطريقة تذهل الجميع، و لكن إذا لم يستطع الإسلاميون إثبات ذلك، فعليهم أن يكونوا جاهزين للتنحي في انتخابات قادمة و تقديم المزيد من الأدلة العملية المحسوسة على قدرتهم تطبيق المنهج الإسلامي الشامل ليرجعوا مرة أخرى إلى سدة الحكم.