عادة ما تقرأ الحكومة على ضوء برنامجها. فهو الذي يسمح، منذ الإعلان عنه، بإعطاء صورة عن طبيعة التوجهات التي ستسلكها. كما أنه هو الذي سيشكل، في النهاية، المقياس الذي يسمح بالحكم على إنجازاتها، ومدى التزامها ببنود العقد الذي يربطها بالناخبين. بيد أن مثل هذه القراءة ظلت تصطدم في الواقع المغربي بثلاث صعوبات أساسية: الأولى، تتعلق بضعف ومحدودية الاهتمام بالبرامج في السياق السياسي المغربي. الثانية، تتجلى في صعوبة الحديث عن برنامج حكومي في ظل الهيمنة التي يمارسها "البرنامج الملكي". أما الثالثة، فتتمثل في كثرة عدد الأحزاب المكونة للحكومة، الذي لم يكن يسمح بإعطاء صورة دقيقة حول طبيعة توجهاتها واختياراتها. بل كان يجعل برنامج الحكومة نفسه مرتبطا بطبيعة بنيتها، إذ عوض أن تتم هندسة الحكومة على ضوء طبيعة برنامجها، يتم تكييف هذا الأخير على ضوء طبيعة التركيبة الحكومية. هذه الملاحظة الأخيرة تنقلنا إلى الحديث عن "البنية الحكومية" والأهمية التي تمثلها، في السياق السياسي المغربي. فأمام الصعوبات التي لا تزال تطرحها "القراءة البرنامجية"، تظل "البنية التنظيمية" للحكومة أساسية في تحديد مدى قدرتها على مواجهة التحديات المطروحة عليها، بل وفي التحكم في برنامجها صياغة وتنفيذا. ولعل هذا ما يفسر جزءا من الانشغال الذي ظلت تحظى به التركيبة الحكومية في المغرب. بل يمكن القول إن الانشغال بهذا الموضوع قد أصبح أكثر أهمية مع الحكومة الجديدة، أولا، لأنها أول حكومة يشارك فيها "الفاعل الإسلامي" ويلعب فيها دور القيادة، وثانيا، لأنها حكومة الدستور الذي يعطي لرئيسها صلاحيات لم يسبق أن تمتع بها من قبل أي وزير أول سابق، وثالثا لأنها الحكومة التي جاءت بفعل الحراك الشعبي العربي وتداعياته مغربيا. أخذا بعين الاعتبار هذا المعطى، يطرح التساؤل حول ما إذا كانت حكومة عبد الإله بنكيران تمثل تحولا على مستوى طبيعة تركيبتها وهيكلتها؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال، من المهم الإشارة هنا إلى أن رئيس الحكومة المعين كان مدركا لأهمية هذا العنصر، ليس فقط في تشكيل وعي الرأي العام وجعله يشعر بأن هناك تغييرا على هذا المستوى، وإنما أيضا في تجاوز العراقيل التي لطالمها سببتها "الهشاشة الهيكلية" للتجارب الحكومية السابقة. ولذلك، لم يتردد في التعبير علانية عن رغبته في تكوين حكومة يميزها على الخصوص، قلة عدد أفرادها، محدودية وجدية الأحزاب المكونة لها (أحزاب الكتلة)، خلوها من وزراء السيادة، وذات وجوه شابة و"غير محروقة". بيد أن حرصه على إظهار الكثير من الواقعية، واصطدامه بالطموحات الجامحة لحزب الاستقلال، فضلا عن ضغوطات محيط ملكي لم يمنعه الموقع الدفاعي الذي حشره فيه الربيع المغربي من أن يظل يكابر في إظهار نفوذه، كلها عناصر دفعته إلى تقديم تنازلات كبيرة، كانت نتيجتها حكومة ذات بينة شديدة الارتباط بالماضي، علاوة على أنها "مفخخة" وقابلة للانفجار في كل لحظة وحين. بدون شك، فإن الحكومة الثلاثين في تاريخ المغرب لا تخلو من جوانب الجدة. ويكفي معرفة أن قيادتها من طرف حزب ذي "مرجعية إسلامية" هو في حد ذاته عنصر جديد في الحياة السياسية المغربية. بيد أن النظر إلى النصف الآخر من الكأس يحجب كثيرا هذه الجوانب الجديدة، أو على الأقل يقلل من شأنها، ويجعلنا أمام خلاصة أساسية وهي أن هذه الحكومة يغلب عليها منطق الاستمرارية، لا فقط على مستوى تركيبتها، وإنما أيضا على مستوى طبيعة تقطيعها. فعلى المستوى الأول، يبدو أن إسناد وزارة الداخلية إلى شخصية "مخزنية"، وتطويقها بوزير منتدب تدرج في مختلف أسلاك الإدارة الأمنية، فضلا عن محاصرة وزير الخارجية هو الآخر بوزير منتدب اكتشف يوم استوزاره انتماءه الحزبي، يقلل كثيرا من قيمة "التحزيب" الذي خضعت له هاتان الوزاريتان، ويجعلنا أمام وزير حزبي لإعطاء الانطباع بالتغيير ووزير غير حزبي لتكريس استمرار نفوذ القصر. بيد أن المثير للانتباه أكثر على هذا المستوى، يبقى هو احتفاظ القصر بالإشراف المباشر على قطاعات حكومية ذات أهمية خاصة. وهكذا، يظهر كيف أن القصر لم يكتف فقط بجعلنا أمام حكومة من طبقتين، "طبقة المستشارين" و"طبقة الوزراء"، بل حرص على أخذ نصيبه من هذه الطبقة الثانية أيضا. أما على مستوى الهيكلة، فمن الواضح أنها جاءت معاكسة لا فقط لطبيعة الانتقادات التي طالما وجهت إلى الحكومات السابقة، بل أيضا للتصريحات المعبر عنها من طرف رئيس الحكومة المعين نفسه. فقد كان هذا الأخير يسعى، حسب ما يبدو من أقواله، إلى وضع "هيكلة حكومية نموذجية" عبر خلق أقطاب حكومية كبرى لأهميتها من ناحية تحقيق الانسجام بين القطاعات ومن ناحية ترشيد النفقات العمومية. بيد أن ما خرج إلى حيز الوجود كان مخالفا تماما لهذا التوجه. وهكذا، فإن وصول عدد أعضاء الحكومة إلى 31 وزيرا يبدو أمرا مبالغا فيه، مقارنة، أولا بعدد سكان بلدنا وبإمكانياته وبالحاجة المطروحة بإلحاح لترشيد الموارد، وثانيا بعدد الوزراء الذين يوجدون في معظم البلدان الديمقراطية، إن لم نقل في كلها. والأكثر سلبية في هذا العدد هو أنه يعكس استمرار التقطيع الحكومي لا على ضوء أهمية القطاعات الحكومية وحاجة البلاد إليها وإنما لترضية الطموحات الجارفة لنخبة حزبية لا تزال تنظر إلى "الاستوزار" باعتباره مظهرا من مظاهر الوجاهة والنفوذ. كما أن توزيع الحقائب الوزارية بين "أحزاب الأغلبية"، من الواضح أنه جرد "الحزب الحاكم" من الكثير من أسلحته، التي بدونها يبدو من الصعب عليه أن يفرض رؤيته وتصوره لكيفية تدبير شؤون المغاربة خلال السنوات الخمس المقبلة. فباستثناء وزارة التجهيز والنقل، التي لا تخفى أهميتها الإستراتيجية والانتخابية، فإن بقية القطاعات التي أسندت مهمة الإشراف عليها إلى أعضاء من الحزب، إما أنها لا تبدو "قطاعات اجتماعية" أو أنها "ّملغومة". وحتى إذا سايرنا الافتراض القائل بأن التخلي عن "الوزارات الاجتماعية" (الصحة، التعليم والتشغيل، الإسكان...) كان خيارا للحزب ينطلق من إدراكه أن الداخل إليها يبدو شبه مفقود، فضمن القطاعات الحكومية التي تكفل بمهمة الإشراف عليها، تبدو وزارتا الخارجية والعدل جديرتين بالتوقف عندهما. فالأولى، سبقت الإشارة إلى أن إسنادها للأمين العام السابق، مع الحرص على محاصرته بوزير منتدب في الخارجية، شديد الولاء للبلاط، وترعرع داخل الوزارة وشغل بها مسؤوليات عليا، سيجعل من هذا الأخير وزير الخارجية الفعلي. أما الثانية، ولو أنها أسندت لشخصية حقوقية وقانونية تعرف مشاكل العدل والعدالة، فإن مهمته تبدو محفوفة بالكثير من المخاطر. من جهة، لأن الأمر يتعلق بوزارة "حارقة"، ويمكن القول إنها لعبت في السابق دورا كبيرا في خدش صورة الاتحاد الاشتراكي. ومن جهة ثانية، لأن تضخم الخطاب الحقوقي لدى شخص الوزير، ومواقفه السياسية السابقة، ستجعله مراقبا بقوة لا فقط من طرف الدولة، وإنما أيضا من طرف الرأي العام، الذي عادة ما يكون شديدة القسوة في الحكم على أشخاص معينين عندما ينتقلون من المعارضة إلى الحكومة. بيد أن أكبر إشكال سيواجه الحزب على هذا المستوى، هو ذلك الذي يتعلق بعدم إشرافه على وزارة المالية، إذ لا يفهم كيف يمكن لرئيس حكومة أن ينفذ سياسته دون أن يكون الوزير المشرف على هذا القطاع ينتمي إلى نفس الحزب. فالتنازل عن هذه الوزارة لحزب الاستقلال، سواء أكان قد تم بناء على مقايضتها بوزارة التجهيز والنقل، أو تم بناء على ضغوطات مارسها القصر، إذا ما أضيف إليه توليه لرئاسة مجلس النواب، يجعل من حزب علال الفاسي اللاعب الرئيسي في هذه الحكومة والماسك بخيوط اللعبة فيها. وعندما نأخذ بعين الاعتبار كل هذه المعطيات المرتبطة ببنية الحكومة، يصبح من الواضح أن مسألة البرنامج تبقى مجرد تحصيل حاصل. فأن يكون هذا الأخير غير مرقم بشكل دقيق، أو لا يعكس جوهر الخيارات التي دافع عنها "الحزب الحاكم" في حملته الانتخابية، أو يركز على الوعود أكثر من الموارد الكفيلة بترجمتها على أرض الواقع... فذلك يبدو أمرا طبيعيا مادامت نفس المقدمات تؤدي إلى نفس النتائج.