لا تقتصر نتائج الثورات التي عرفتها كل من تونس ومصر وليبيا أو التي تعيش أطوارها الحاسمة كل من اليمن وسوريا أو التي يتوقع أن تعرفها دول أخرى في المنطقة، على تحرير الأوطان من أخطبوط الفساد والاستبداد، بل تعدته إلى تحرير مرتقب لتلك الشعوب من الاستلاب لنماذج ورموز ومقاربات في التغيير وافدة. لقد تأكد للشعوب نفسها من خلال تلك الثورات أنها قادرة بنفسها على صناعة التاريخ وتحرير نفسها وأوطانها، وعلى إحداث التغيير المطلوب والسهر على تنزيله في الواقع وعلى حمايته من السرقة والالتفاف. والثقة في النفس التي استرجعتها الشعوب لا تقتصر على شعوب الدول التي سقطت أنظمتها الفاسدة أو التي توشك على السقوط فيها، بل تعدتها إلى جميع شعوب العالم. لقد سمحت الثورات الديمقراطية الأخيرة بإمكانية تحرير نظرية التغيير الشعبية، وليس الحزبية، من أربع آفات على الأقل كانت تعاني منها تلك النظرية. وبحكم طبيعة تلك الآفات والمخاطر التي تمثلها على المجتمعات الحديثة فإن معالجة الثورات الديمقراطية لها من شأنه أن يعطي لحياة الشعوب واستقرار مجتمعاتها ضمانات مستقبلية كبيرة لم تكن لتتحقق لا على أيدي الأنظمة القائمة مهما بلغت درجة مواطنتها ولا على أيدي الأحزاب السياسية أيضا ومهما بلغت جديتها السياسية ونزاهتها النضالية. إن أول ما يتوقع أن تتحرر منه نظرية التغيير الشعبية لدى الفاعلين فيها هي المقاربة التي تعتمد الإرهاب وسيلة للتغيير. وأكدت تداعيات الثورة في كل من تونس ومصر وليبيا على أن الإرهاب تلقى ضربة قصمت ظهره وعزلته بشكل واضح عن الشعوب التي اكتشفت أن العمل الشعبي السلمي أقوى نجاعة من العمل الدموي. ولا شك في أن تخليص الأوطان من داء الإرهاب يعد أكبر العلاجات التي يتوقع للثورات الديمقراطية أن تقدمها لتلك الأوطان. و حررت الثورات الشباب التائق للتغيير من تأثير خطابات المشاريع الدموية ورموزها والتي اكتسبت شعبية كبيرة وسط الشباب قبيل اندلاع الثورات العربية. ولا يخفى ما جنته تلك المشاريع الدموية على دين ودنيا المسلمين من ويلات ومعاناة. و ثاني ما يتوقع أن تتحرر منه نظرية التغيير في المنطقة هي المقاربات التي تعول على الغرب، و الذي دأبت دوله وخاصة أمريكا وفرنسا، على تشكيل طابور ثالث لها في كل الدول يبشر بقيمها ويدعوا إلى مناهجها و لا يرى طريقا آخر للتغيير غير سبيل ما تريده وتراه تلك الدول. وقد عرفت الشعوب في هذا الإطار كيف تميز بين الاعتماد على النفس في التغيير وبين الاستعانة بالمنتظم الدولي للضغط على الطغاة والمستبدين بالسلطة والثروة في بلدانها. بل إن ثورة تونس قدمت دروسا عظيمة أنهت صلاحية مزاعم إمكانية استيراد الديموقراطية والعدالة الاجتماعية كما تستورد التقنية. وتكمن أهمية التوجه نحو الاستقلال عن الغرب في كونه يسمح بتغيير جدري يخلص الأوطان من الفساد والاستبداد دون استلاب قيمي للغرب وقيمه. وقد أكدت الثورة التونسية والمصرية والليبية بالدليل الملموس قدرة الشعوب على التغيير مع المحافظة على هويتها وقيمها وأصالتها، فأطفأت الثورات الديموقراطية بريق شعارات التغريب والتقليد والاستلاب، وأصبح مقياس النجاح السياسي هو مدى القرب من الشعب ونبضه وليس مدى القرب من فرنسا أو أمريكا. ثالث ما يتوقع أن تتحرر منه نظرية التغيير في المنطقة أيضا هو النموذج الشيعي في التغيير، فقد تحول هذا النموذج مند قيام الثورة الإيرانية إلى محور جذب للشباب سمح للفكر الشيعي الطائفي باختراق النسيج المجتمعي لكثير من الدول. واقترن النموذج الثوري التغييري الرافض للفساد والاستبداد في الأذهان بالمنظومة الشيعية مقابل صورة نمطية سلبية حول المنظومة السنية تصمها بالخنوع والخضوع لرغبات الفساد السياسي. و تعززت دينامية التشيع في أوساط الشباب المتطلع إلى التغيير بخطابات حسن نصر الله الحماسية وإنجازات حزب الله في لبنان ضد العدو الصهيوني. لكن ثورات الشعوب السنية على الاستبداد السياسي والفساد الاجتماعي أسقطت مخاطر الطائفية في بلدانها، وأفقد الموقف المتخاذل لكل من إيران وحزب الله وزعيمه نصر الله، من الثورة السورية و دفاعهما على النظام السوري، (أفقد)الأيديولوجية الشيعية القدرة على الاستمرار في التوسع و الاستقطاب، بل إن تلك المواقف المتخاذلة جعلت الجهتين الشيعيتين ضد اختيارات الشعوب وطموحاتها. فانتصار إيران وحزب الله للنظام السوري جعلهما في خندق أعداء الشعوب التواقة للتغيير. إن من شأن الحراك الشعبي الأخير ومواقف إيران وحزب الله من ثورة سوريا ونظامها أن يعفي الشعوب من داء الطائفية الدينية التي تخرب كل الأوطان التي تحل بها. ورابع ما يتوقع أن تتحرر منه نظرية التغيير في المنطقة أيضا هو المقاربة المبنية على القومية العربية. فالثورات الشعبية أعلنت قطيعة واضحة مع التوجه القومي الذي تحول إلى أقلية منبوذة في كثير من الدول، وانفضحت مواقف القوميين من شعوبهم بانخراطهم في صمت غريب لصالح رموز القومية وممولي القوميين وعلى رأسهم النظام السوري ومعمر القذافي. ورأينا جميعا كيف خذل مثقفون وساسة وأدعياء حقوق الإنسان الثورات الشعبية لما تعلق الأمر بسوريا وليبيا بالخصوص، بل منهم من ناصر القذافي كما ناصر حسن نصر الله الأسد تماما! ويمكن القول أن القومية العربية التي مكنت لها "ثورات" وانقلابات عسكرية سابقا في المنطقة العربية قد تلقت اليوم ضربة قوية من الثورة الشعبية الحالية وربما دفنتها إلى غير رجعة. ولا يخفى الخراب الذي أحدثته القومية العربية على مستوى التماسك المجتمعي، وما سمحت بتكريسه من إقصاء على أساس قومي. والثورات الديمقراطية الحالية بقدر ما حررت الشعوب من ضيق الفكر والتعصب حررتها أيضا من السقوط في فخ التقاطب العرقي كيفما كانت طبيعته، وجعلت أرضية حراكها محاربة الفساد وإسقاط الاستبداد والتمكين للديمقراطية والحرية. وقد أبانت الثورة المصرية كيف وحدت بين المسلمين والأقباط رغم محاولة اللعب على ورقة الفتنة الطائفية، ورأينا في ليبيا كيف واجه نشطاء الحركة الأمازيغية محاولة الضرب على وثر الفتنة بتأكيدهم على وحدة الشعب الليبي ضد الظلم السياسي والإقصاء والاستبداد والذي لا شك أنهم كنشطاء حقوقيين كانوا ممن أدوا الثمن غاليا على يد الهالك القذافي. اليوم و بفعل الفكر الثوري الجديد يمكن القول أن الشعوب تحررت أيضا من القوميات المتعصبة لصالح التغيير الشعبي ضد كل أشكال الظلم. إن من شأن الثورات الديمقراطية الحالية، ومن دون شك، أن تحرر الشعوب من الأمراض الأربعة السابقة ومن كثير من الأمراض غيرها، ذلك أن الثورات الديمقراطية التي شهدتها المنطقة مؤخرا ثورات صنعت على أعين الشعوب ورعتها تلك الشعب في غياب شبه كامل لأجندة حزبية أو أيديولوجية أو قومية داخلية أو أجندة أجنبية. وبتحرير الشعوب نفسها من تلك الأمراض تكون قد وفرت أهم شروط النهضة من جديد، شرط التخلص من الفساد والاستبداد وشرط التصالح مع الذات في إطار تماسك المجتمع. وتتحمل نخب ما بعد الثورة مسؤولية تاريخية في الحفاظ على هذا التوجه الذي يحرر نظرية التغيير من أمراضها.