من البديهي جدا في عصرنا هذا الذي تمكن فيه اقتصاد السوق من التحرر واستطاع الهيمنة على كل شيء، حيث انتصر على قيم العقل ومبادئ وأسس كرامة الإنسان، وغيّرها وجعل من بقاياها ثقافة تمنح مشروعية مزيفة لكل ما يتم القيام به في سبيل البيع والشراء. فنزل كل شيء يباع في السوق. وأضحى الشرف بضاعة، وأصبح النضال سلعة. هذا يعرض معاناته، وذاك يقدم تعبه ومشقته. اقتحم المضاربون والسماسرة المجال، وجعلوا منه سوقا سوداء. كل من موقعه يعرض سلعة موكله ويعدّ محاسنها من أجل استمالة نظر المارة والمتسوقون ولفت انتباههم إليها. غير أن السوق، كل الأسواق، لسوء حظ البعض، لا تتوقف على عملية العرض فقط، ولكن الطلب كذلك عامل لا يقل أهمية عن هذا الأخير! فعرض البضاعة لا يعني بالضرورة بيعها، لأن الأمر يتطلب وجود من يقوم بعملية الشراء. وذكر كل محاسن السلعة دون إغفال أية فضيلة أو مفخرة لا يعني بالضرورة إقناع المشتري. بل حتى أن من "يساوم" لا يعني بالضرورة كذلك أنه يرغب في اقتناء البضاعة المعروضة. لكن التساؤلات المطروحة بإلحاح هو لماذا هذا التسابق والتهافت نحو تبضيع وتسليع ما سُمي مبدأ؟ ألم يعلن أصحابه مرات ومرات أنه لا يباع ولا يشترى؟ ألم يصرحوا علنا، وفي مناسبات عديدة، أن المشاق والمحن التي عانوا منها كانت بمثابة ثمن تشبثهم بما وصفوه بالمبدإ؟ أما السماسرة، نظرا لطبيعة عملهم، ولأنه لا يمكنهم التواصل بنفس اللغة ونفس الحديث في المقامات كلها، فهم يغيرون أساليب اشتغالهم وينوعونها، يتلونون كما تتلون الحرباء في مكان تواجدها. همهم الوحيد هو الربح ولو أتى على حساب كرامة من يمجدونه. فهم يبحثون عن الفرص ويقتنصونها، يستغلون كل ما من شأنه أن يحقق لهم الهدف المنشود ولا يهتمون كيف يحصل ذلك. يحسبون كل الحسابات ويدققون فيها، يلتقطون كل الإشارات ويفحصونها، يتجندون للنيل من ضحاياهم، يتريثون ويتربصون بها. حتى يتمكنوا من الوقوع بها في فخخهم المقيمة مسبقا. تدربوا على النفاق والكذب. تمرسوا على الحيلة والخداع، يحاضرون في الإلتزام ونكران الذات، يأمرون بالتكتل والوحدة، يهاجمون غياب المواقف والإنسلاخ عن القيم. يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ويجعلون الآخرين ينحدعون بخطاباتهم. يعملون، كالذئاب الجائعة، على جمع القطيع واختيار الفريسة دون عناء والإيقاع بها بسهولة ودون لفت الأنظار. إن تاريخ ممارساتهم يشهد على مكايدهم وخدعهم. لو تشجع كل من لدغته ألسنتهم المسمومة، وخدعته أقوالهم المعسولة، لتبين للناس أنهم، وبكل وضوح، على غير ما يقولون. لكن العيب بالدرجة الأولى يوجد فيمن ينساق وراء أقاويلهم ويثق بأكاذيبهم دون أن يتساءل، أو يسأل غيره، ولو لمرة، عنهم وعن سلوكاتهم! ينبهر ويندهش بأقوالهم ويتعطل فكره ويتشلل تفكيره، ولا يقوى على محاولة النجاة وبالأحرى على المواجهة. ويصبح بذلك، لسوء حظه، لقمة سائغة في أفواههم الملتهمة. واللوم ثانية يعود على من عنا من ويلات خدعهم ووقع ضحية لخططهم. لأنه ترك لهم الباب مفتوحا للإيقاع بأبرياء آخرين ومنح لهم فرصة إضافية لإتمام أجندتهم، وعوث المزيد من الفساد في المجتمع. فمن المفترض، ومن المفروض عليه كذلك، أن يقوم بفضح مؤتمراتهم، ودق ناقوس الحذر، حتى ينتبه غيرهم إلى الخطر الذي يشكله هؤلاء على شريحة عريضة من المجتمع، بل على المجتمع برمته. وفي الختام، فإنه بفعل التغيرات الكونية، تغيرت كل المجتمعات، اختفت ظواهر مجتمعية مألوفة، وظهرت أخرى غير معروفة. واتخذت أوجها متنوعة، منها ما يتصل بالثقافة أو بالدين أو بغيرهما، لكن القاسم المشترك بين كل هذه الأوجه المختلفة، هو طغيان المادي على ما هو انساني. لذلك، فمن كان نزوعه نحو الماديات، بالرغم من تستره وراء بعض الشعارات، يجد لهواه ظروفا ملائمة، ويبرع في تقنيات البيع والشراء. ويصبح تاجرا ذكيا في شرف وكرامة الآخرين! يقول المثل الأمازيغي «Ini t g ssuq yakz t bab ns » «Ini t g ssuq yakz t bab ns » الغازي لكبير أغبالو