سايرت الكتابة التاريخية في المغرب خلال السنوات الأخيرة التحول الجذري الذي عرفته المدارس التاريخية الغربية على مستوىمنهجهاومقارباتها البحثية ومواضيعها وإشكالياتها التاريخية، حيث توجّه الإنتاج التاريخي نحو التاريخ الاجتماعي المرادف للتعبير عن صوت المواطنين العاديين،التاريخ من الأسفل أو تاريخ الجذور لأنه يتعامل مع الحياة اليومية للبشر والتكتلات البشرية والإنسان العادي من خلال إيلاء الدراسة المونوغرافية المحدودة في المكان والزمان أهمية قصوى،والتاريخ الجهوي يُعتبر حلقة من حلقات بناء تاريخ اجتماعي شامل يتناول تطور وتكون التشكيلات الاجتماعية. في هذا الإطار يمكن إدراج الكتاب الذي أصدرهمؤخرا الدكتورمحمد مهيب، وهو إعادة نشر لكتاب يحمل نفس الاسم صدر سنة 1998مع التنقيح وإضافة أبواب أخرى تتعلق بالجانب الثقافي عموما، والطبعة الجديدة من الحجم المتوسط تحتوي على 212 صفحة وتحمل عنوان: « MIDELT, Esquisses historiques et culturelles » قد يتساءل البعض هل يحق لدكتور في الطب أن يغوص في مجال عمل المؤرخين والانثربلوجيين؟ صحيح أن الكاتب لا يتوفر على تكوين أكاديمي في التاريخ، غير أن المستوى الثقافي للكاتب يسمح له بالقيام بمثل هذه الخطوة الجريئة، ما دام يحترم آليات البحث العلمي ومناهجه وأدبيات الكتابة. فالكاتب ليست هذه تجربته الأولى مع النشر فقد سبق له نشر أعمال روائية وطبية، والكاتب نفسه يجيب في المقدمة عن التساؤل المطروح سابقا،حين يقول أنه لايدعي تناول الموضوع بنفس عناية واهتمام المؤرخين وعلماء الأنثروبولوجيا،لأن ذلك يتجاوز بالتأكيد قدراته، ويلتمس العذر من ذوي التكوين في التاريخ على انتهاك حرمة ميدانهم. لا يسعنا هنا إلا أن نشيد بعملكاتبنا لأن المنطقة تعاني من سوء التغذية الثقافي وهي في حاجة ماسة إلى ما يسمى بالمثقف العضوي كما يراه إدوارد سعيدفيكتابه” صورةالمثقف“،فالمثقف الحقيقي عنده يمتلكدورهالفاعلفيالمجتمعوهودورلايمكناختزالهأوتصغيره،لأن“المثقف”يجبأنيكونصاحبرسالةمطالباًبتجسيدمواقففكريةوفلسفيةمنمختلفالقضاياالوجوديةوالحيويةفيالمجتمع. حتى نضع القارئ في الصورة سنقوم بقراءة خارجية للكتاب وأخرى داخلية.على مستوى الشكل، فغلاف الكتابيتكون من صورة فتوغرافية لقصر تشاويت في عشرينيات القرن الماضي باللونين الأبيض والأسود تسرح بالقارئ في براري التاريخ،فيما العنوانيشغل وسط الغلاف وأسفله عنوان فرعي يصرح بفحوى الكتاب، فيما يخص الورق المستعمل فهو من النوعية الجيدة. من حيث المضمون، على مستوى التبويب المتبع هناك بعض اللبس،فبعد الإحاطة والتمهيد والثلاث أبوابالأولى، هناك صعوبة في تحديد أبواب الكتاب مما يكشف عن بعضٍ من أحوال وصعوبات النشر والطباعة التي يعاني منها الباحثون في غياب الدعم ودور النشر المحترفة، إلا أن الفهرس مفصل بشكل جيد ويحدد العناوين والصفحات بدقة، ومن جملة المواضيع التي تناولها الكتاب نذكر: ميدلت قبل الحماية وبعدها، القبائل التي تستوطن ملوية العليا كأيت إزدڭ و أيت عياش و أولاد خوا و غيرهم، المعادن والمستحاثات، قصور وطاط ، اليهود، المقاومة، التعليم... وفي الأخير لائحة المراجع والإحالات التي كان من الممكن أن تكون أسفل كل صفحة حتى لا يضطر القارئ إلى الرجوع في كل مرة إلى الصفحات الأخيرة لقراءة إحالة ما. لتدعيم النص وإيصال أفكاره لجأ الكاتب إلى الصور المرفقة، رغم أنها لم تكن واضحة بشكل جيد في بعض الصفحات، إلا أنها أطفت نوعا من التكامل مع النص الذي تفنن فيه الكاتب في توظيف اللغة الفرنسية. لقد تمكن الكاتب، بحق، من تتبع واستقراء صورة مدينة ميدلت بشكل مقتضب في حقب تاريخية مختلفة واستطاع أن يؤثث لمشهد تاريخي وثقافي واضح المعالم لها، منتقلا بين الرواياتالشفهية والدراسات التي تناولت المنطقة والمراجع التاريخية المغربية والكولونيالية والإلكترونية.هكذا بدت لنا معالم هذا العمل الذي لا يدعي فيه المؤلف الاستيعاب الأمثل أو الرؤية الأشمل، وإنما يطرح الفكرة ويكتفي أحيانا بالنقد، مناقشا أحيانا أخرى، واصفا ومضيفا في الغالب، واضعا في النهاية لبنة أساسية تُغري الباحثين الشباب وتُؤسس لبداية تراكم معرفي في تاريخ المدينة. ولأن الكتاب اتخذ تاريخمدينة ميدلتموضوعا له عكسالدراسات الأخرى التي، إن تناولته، يكون بشكل ثانوي وهامشي، فإنه مطالب بأن يقدم كل شيء ويروي ظمأ قارئ مستعد لأن يتلقف كل معلومة جديدة، ليقارنها مع ما يملك من أفكار أولية حولها، وما يريد أن يجده لا مع ما يجده. غير أن من قرأ ليس كمن غامر وبحث ثم استنتج وكتب. وفي كل الأحوال، فالمنتوج كاف وشاف بالنظر لطبيعة الموضوع وجديته، أما المطلوب فأعتقد أن الباحث أشار ووجه إليه عندما اعتبر أن الأمر يتعلق بعمل ربما غير مكتمللكن عملا غير تام يخرج للوجود خير من عمل مكتمل لم يرى النور. بقلم محمد أعزيرو