داخل فضاء لا يضمن فرص الشغل، تظل الزراعات المعاشية السبيل الوحيد لسد الأفواه الجائعة. الفضاء نفسه يظهر قحلا جافا، لكن تنبت بين شعاب خلائه الواسع أعشاب طبية يضمن جنيها مراكمة الثروة. قبل سنين قليلة كان استغلالها محليا، لكن اليوم تحولت إلى محميات يحتكرها أناس نافذون أتوا على الأخضر واليابس. تزين رفوف بائعي الأعشاب داخل المدن، لكن لا نعرف شيئا عن المسار الطويل الذي قطعته قبل أن تجدها داخل قوارير أو أكياس.هي ما تبقى لآلاف السكان من قاطني جبال الأطلس المتوسط الشرقية، «مصدر رزقهم الوحيد» يقول حفيظ الفلاح، أحد المسؤولين داخل تعاونية للأعشاب الطبية بمنطقة «الريش» نواحي مدينة «ميدلت». حفيظ يتحدث عن الأعشاب التي تكسو جبال المنطقة «إكليل الجبل» أو ما يعرف عند المغاربة ب»أزير» تليه «زعيترة» من حيث الوفرة، ويسميها الأمازيغ «إيزكنو»، ثم «الشيح» و»تكولتمت» و»تمرصاد» المعروفة ب»تيمجا». أعشاب طالب من يسميهم المسؤولون المحليون ب»ذوي الحقوق»، وهي عبارة تطلق هنا على السكان المحليين الذين ورثوا الأراضي بالعرف، باستغلالها عبر تأسيس تعاونيات محلية تقوم بعمليات الحصاد والتخزين ثم البيع، لكن مصير هذه التعاونيات، حسب مسؤول رفيع بالمندوبية السامية للمياه والغابات بالمنطقة تحدثت إليه « اليوم24» صار بين يدي رؤوس الأموال، وذلك بعد أن عجز أصحابها عن الاستمرار في عملهم، واستغلال خيرات أراضيهم بأنفسهم، ما شكل اليوم «لوبيات» تتحكم في كل شيء. ولتسليط الضوء على هذا المشكل الذي يعتبره «ذوو الحقوق» خطرا على مستقبلهم مع غياب بديل يضمن عيشهم ، ساءلت « اليوم24» جل المتدخلين في العملية، خاصة فيما يتعلق بعشبة «أزير» التي يصفها المحليون بالثروة، وجالست بعضا من مستغلي جني الأعشاب الطبية بين الجبال الشاهقة هنا، كما طرحت الأمر على مسؤولي المندوبية السامية للمياه والغابات بمنطقة «الريش» لرصد أهم الصعوبات التي تواجه مراقبة الوضع وضبطه. احتكار السوق لم يخطر ببال «ذوي الحقوق» يوما أن يتحول طلب المساعدة إلى حبل يلف عنقهم. كانوا في السابق الآمرين بجني وتسويق الأعشاب الطبية فوق أراضيهم التي ورثوها عن أجدادهم عرفا، لكن حاجتهم إلى التأطير دفعتهم لتكوين تعاونيات محلية لم تستطع الاستمرار دون تمويل، فلجأ أعضاؤها لطلب مساعدة رؤوس الأموال، الذين وبمنطق الربح، حولوا تجارة الأعشاب الطبية إلى مملكة خاصة بهم، يشترون البضاعة بثمن قليل ويسوقونها داخل وخارج المغرب بأكثر من الضعف. تتوفر «الريش» التي همها بحثنا هذا على تعاونيتين في كل من منطقة «كرامة» و»أند» وواحدة ب»زاوية سيدي حمزة» وأخرى ب»تازروفت»، مجال عملهم استغلال الأعشاب الطبية وإعادة تسويقها، وذلك داخل مجال غابوي قسم بينهم تحت إشراف المصالح الإدارية المحلية. « كان الحلم كبيرا»، يحكي حفيظ الفلاح رفقة صديقه، حين اتخذ قرار تأسيس التعاونيات المحلية، واستغلال مساحات نمو الأعشاب الطبية في المنطقة. والغاية كانت التأسيس لفعل واسع ينخرط فيه الجميع لتثمين المنتوج، والتفاوض من موقع قوة على طرق تسويقه وثمنه. وفعلا، بدأت الأمور تتحسن يضيف محدثنا، لكن في الآونة الأخيرة تغيرت أشياء كثيرة، من بينها فرط الاستغلال وعدم رغبة مجموعة من رؤوس الأموال التي دخلت على خط الاستغلال الرفع من نسبة ربح «ذوي الحقوق» الذين لا يصلهم سوى الفتات من تجارة رابحة لمحتكريه الجدد، على حد وصف متحدثنا. وتفيد معطيات حصلت عليها « اليوم24» من مصادر متطابقة في المنطقة، أن 11 سنة الأخيرة من استغلال الأعشاب الطبية في المنطقة لا تنطبق مع المواصفات القانونية. فعلى سبيل المثال، يمنع اجتثاث عشبة «أزير» (إكليل الجبل) من الجدر، حيث ينصح بترك 20 سنتيمترا ظاهرة فوق التربة لضمان تجدد الزهرة، وما يحصل اليوم هو عملية اقتلاعها بفعل ندرتها خلال الأربع سنوات الأخيرة، والغاية تعويض الفارق بين ما كان يجنيه المستفيدون خلال السنوات التي كانت تعرف تساقطات مطرية مهمة وبين ما يجنونه اليوم بسبب شح السماء. ويشرح رئيس للجمعية الطبية بالمنطقة ل» اليوم24» خطر اجتثاث عشبة «أزير» التي تعد ثروة بالنسبة إليهم من جذورها بالقول «إن (أزير) غير قابل للزرع ، لأن طريقة إزهاره مرتبطة بفترة في السنة، تطلق زهوره لقاحها في الهواء لتنمو وتتفتح زهور أخرى، وكل عشبة (أزير) تقتلع هي خسارة لمائة منها في السنة الواحدة». ولإظهار خطورة الوضع، قالت مصادر مسؤولة بالمنطقة، إن منطقة «أند» عرفت في السنتين الأخيرتين خلق تعاونية للرجال، أشرفت عليها المصالح المحلية المختصة، فيما تكلفت وزارة الفلاحة والصيد البحري بخلق تعاونية خاصة بالنساء، كما تم رصد ميزانية لهذه الأخيرة لتشجيع تقطير «أزير» محليا ما يرفع من قيمته في السوق، حيث مولت وزارة أخنوش جلب وحدات التقطير إلى المنطقة. لكن، وبعد مسلسل طويل من التحضير وإعداد العدة لإطلاق المشروع، تفاجأ الكل خلال موسم الحصاد باختفاء «أزير» من مساحات شاسعة كان يحتلها، مشروع أكدت المصادر نفسها أنه كلف قرابة 150 مليون سنتيم ذهبت سدا. مشكل آخر يطرحه «ذوو الحقوق» داخل المنطقة، وهو الفارق الكبير بين الثمن الذي يبيعون به «أزير»، والذي لا يتعدى في أحسن الأحوال درهمين للكيلوغرام الواحد، ليقفز ثمنه قبل أن يشد الرحال نحو المدن الكبرى لتسويقه إلى 5 دراهم للكيلوغرام، أما الذي سيسوق خارج أرض الوطن فسيباع بثمن يتراوح بين 10 و15 درهم للكيلوغرام الواحد، وهذا ما يظهر حجم الفرق بين ثمنه الأصلي والثمن الذي يسوق به في المنطقة نفسها ، حتى تحول «ذوو الحقوق» من ملاك لأراض شاسعة إلى مجرد فلاحة صغار يشتغلون داخل تعاونيات في ملكهم على الورق، لكنها في الواقع تحت نفوذ من مَوَّلَ يوما عجزهم. ولا يتوقف الربح في عشبة «أزير» وغيرها من الأعشاب التي تنمو في المنطقة هنا حد بيعها بالكيلو، بل يتضاعف الربح ليبلغ مستويات خيالية إذا ما اختار محتكروه تحوليه إلى زيت مستخرج منه، حيث إن طنا واحدا من «أزير» يعطي 30 لترا من الزيت، يسوق للتر الواحد حسب جودته بما بين 250 و600 درهم، وبالقيام بعملية حسابية بسيطة، سنجد أن الطن الواحد يكلف المحتكرين 2000 درهم، يعطي كما ذكرنا 30 لتر من زيت «أزير»، نضع له ثمنا متوسطا وهو 450 درها للتر، لنجد أن السعر سيقفز إلى أزيد من 13 ألف درهم، مع العلم، حسب العارفين بخبايا الأعشاب بالمنطقة، أن عملية التقطير لا تكلف الشيء الكثير. يشتكي ذوو الحقوق من غياب التأطير والمصاحبة خلال السنوات الأولى من تأسيسهم للتعاونيات، وذلك ما دفعهم للارتماء في أحضان رؤوس الأموال، كما يشتكون من إقدام الجماعات المحلية على كراء الأراضي لغرباء عن بلدهم قصد استغلال الأعشاب الطبية فوقها، في ظرفية تشهد سنوات الجفاف وندرة غير مسبوقة للأعشاب الطبية. الخطر الحقيقي هو الجفاف.. ولمعالجة ما استقته « اليوم24» من معطيات وأرقام وشهادات حول استغلال الأعشاب الطبية بالمنطقة، من وجهة نظر قانونية، ربطت الجريدة الاتصال بمسؤول رفيع داخل المندوبية السامية للتخطيط، والذي قدم مجموعة من الملاحظات الخاصة باستغلال الأعشاب من طرف «ذوي الحقوق» بموجب عقد يجمعهم مع المندوبية، مؤكدا أن المشاكل التي تواجه هذا النوع من النشاط تحصل بين «ذوي الحقوق» أنفسهم، لكن دون أن يصل الأمر حد وضع شكايات مفصلة في الموضوع، ما يُصعِّب عميلة تتبع الأوضاع ومعالجتها من طرفهم. ويشدد المصدر ذاته، أن عملية الاستغلال تخضع لشروط صارمة فيما يتعلق بالحدود المخصصة لكل مستغل، وتم تقسيمها بطريقة قانونية، لكن ما هو مرتبط بطريقة استغلال تلك الأعشاب نفسها بطريقة قانونية دون تسجيل مخالفات، فذلك أمر يصعب جدا ضبطه أو مراقبته نظرا للعقلية أولا، والتي يتحكم فيها ما ورثه «ذوو الحقوق» عن أجدادهم رغم تأسيسهم لتعاونيات عصرية. والأكيد أنهم لا يحترمون مجموعة من المراحل للحفاظ على مصدر رزقهم. ثانيا هناك إكرهات المداخيل ومصاريف وضع التعاونية على السكة الصحيحة لاستمرارها، وتشمل مصاريف المنتوج، والمساهمة في الصناديق الخاصة بالجماعة والعمالة، وأغلبهم لا يساهم بقدر كبير من جيبه، وهنا بيت القصيد –يضيف مصدرنا- حسب ما فهمته من تساؤلاتكم، وهذا الجانب لا يشكل خللا بالنسبة إلى المندوبية السامية على مستوى العقد الذي يجمعنا بها، حيث لا يحق للإدارة أن تفرض على «ذوي الحقوق» الجهة التي يمكن أن يتعاقدوا معها أو يبيعوا لها حصتهم من المنتوج، ما نحدده فقط -يشرح المسؤول الرفيع في المندوبية- هو كميته في السنة وفترة استغلاله والمكان كذلك. المشكل الحقيقي هو إكراه التمويل الذي تواجهه التعاونيات، وكذلك مشكل التأطير وعجزهم عن تخصيص مبلغ مالي من الأرباح لتنظيم دورات في التكوين الذاتي الخاصة بالتدبير والتسويق، وذلك ما يجعلهم دائما في حاجة إلى رؤوس أموال، لكن تستغل حصصهم من المنتوج داخل سوق حرة. التعاونيات مستقلة بذاتها ولها مكتب خاص يسير شؤونها، يقول مصدر « اليوم24»، وما نفرضه كما أشرت سلفا هو احترامهم للمكان، واحترام الفترة ما بين فاتح ماي وآخر دجنبر من كل سنة كفترة للاستغلال، والغاية ضمان لقاح الأعشاب خلال الشهور الأخرى، وكذا فتح المجال لمنتجي عسل النحل. وعن طريقة الاستغلال ومدى تأثيرها على وفرة الأعشاب الطبية في المستقبل، يرى المسؤول الرفيع في المياه والغابات، أن أكبر مشكل هو سنوات الجفاف المتعاقبة على المغرب، بل ذهب حد التنبؤ بانقراضها من المنطقة خلال السنوات القليلة المقبلة إن استمر الوضع على ما هو عليه، وحين طرحنا عليه ما قالته للجريدة عدة مصادر حول اجتثاث عشبة «أزير» من الجذور دون ترك 20 سنتيما لضمان تجددها، أجاب متحدثا بالقول «إن 20 سنتيما ليست قدرا إجباريا، لكن يجب احترام ترك الثلث في العشبة، والدخلاء على التعاونيات المحلية هم من يفعلوا ذلك، وما يقومون به سيحرم الصامتين داخل التعاونيات من الأعشاب مستقبلا». يطرح مصدرنا أنه من الصعب تغطية مساحات شاسعة ومراقبة الوضع عن كثب، نظرا إلى المساحات الشاسعة التي تقع تحت نفوذهم، والممتدة إلى غاية منطقة «إملشيل». لذلك جاءت فكرة إنشاء التعاونيات لسهر مكاتبها على ضبط الاستغلال والتبليغ عن المخالفات، وإن لم يتم التفاعل مع شكاياتهم، فهناك مساطر أخرى لاتباعها. ليختم المسؤول حديثه ل» اليوم24» بالقول: «إن المشكل الحقيقي الذي يواجه الأعشاب خاصة «أزير» مستقبلا هو الجفاف، وإن لم تجتث من جذورها، ستسقط الزهرة وحدها، هناك مناطق لم تعد تجد ما تجنيه، وكمثال على ذلك ما يقع اليوم في منطقة «برومارا» التي بدأ يندثر منها». مواجهة الخطر.. يرى المهندس السابق في المندوبية السامية للمياه والغابات، وخبير برنامج الأممالمتحدة ل»إدماج النوع البيولوجي للنباتات العطرية والطبية في سلسلة القيم» أحمد البوكلي، أن ما يقع اليوم للأعشاب في المغرب خطير، لما يتهددها من سوء تدبيرها والمحافظة عليها، وكذا استغلالها من طرف الدخلاء، حيث أكد، وانطلاقا من تجربته في المناطق التي اشتغلت عليها «أخبار اليوم»، أن كل ما صادفناه وعرضناه من معطيات وحقائق وجب الوقوف عندها لمعالجة اختلالاتها. ومن جملة ما طرحه الخبير «أحمد البوكلي» في حديثه ل» اليوم24»، هو العمل على تثمين الأعشاب الطبية، وذلك عبر تقوية دور التعاونيات المواطنة، قصد الرفع من مستوياتها، عبر إخضاع أفرادها لدورات تكوينية في الموضوع تحترم المعيار المعمول بها في هذا المجال، وهذه الأمور متوفرة كما أشر متحدثنا لذلك، حيث إن الأممالمتحدة وفرت اليوم دليلا متاحا للجميع يشرح بالتفصيل طريقة استغلال الأعشاب الطبية قصد المحافظة عليها، وكيف يتم ترك جزء منها لاستمرارها في الوجود، وطريقة السقي كيفما كانت الظروف المناخية، وصولا إلى مرحلة التجفيف والتقطير إن اختار المسوقون ذلك، بل يوفر الدليل كذلك طريقة التسويق داخل وخارج المغرب. وطرح الخبير «البوكلي» حقيقة صادمة، تفيد أن مراحل إنتاج الأعشاب الطبية في المغرب كله، وليس منطقة «الريش» وحدها، لا تحترم المعايير العلمية والطبية في خلال كافة أطوار عملية الإنتاج، والتي تفرض لضمان الجودة المرور بعدة مصالح، فمثلا –يشرح الخبير أحمد البوكلي- لا يمكن إسناد مهمة التأشير على جودة المنتوج دون مروره بخبير متخصص في التغذية أو صيدلي أو طبيب الصحة العمومية، وهذا لا يحدث في المغرب، سواء تعلق الأمر بالغربلة أو التقطير، وهذا كله مرتبط بالفوضى في القطاع التي طرحتموها. إذا أخذنا في المنطقة مثلا الأعشاب الطبية ك»أزير» و»شيح» و»زعيترة» نجد أنها تستغل من كل جانب، خاصة في مجال الرعي الذي يذهب بكل شيء، وهناك كذلك الاستغلال الطبي والاستغلال في مجال إنتاج العسل، كافة هذه الاستغلالات يورد الخبير «أحمد البوكلي» في معرض حديثه ل»أخبار اليوم»، لا يتم التوفيق بينها أو تنظيم فترات استغلالها. وعن شبح الجفاف الذي يهدد وجود الأعشاب الطبية مستقبلا في المنطقة، عاب الخبير «البوكلي» على المسؤولين وأصحاب التعاونيات جهلهم بما يجب فعله للحفاظ على هذه الثورة، حيث قدم بالتفصيل الطريقة لتجاوز هذا الخطر «خلال الفترة الأخيرة، مرت عاصفة أمطار قوية بالمنطقة، ولا أحد فكر في القيام بحفر جنبات الأعشاب على شكل هلال من الجانبين، وهي طريقة تضمن للأعشاب فترة سقي طويلة قد تصل لسنة، بالإضافة إلى الامتناع عن الاستغلال خلال سنوات الجفاف، أو العمل بطريقة التناوب داخل مساحات الاستغلال، أي ترك مساحة تستريح لسنة واستغلال أخرى».