«أحولي»، اسم أمازيغي معناه «الخرفان»، وسميت المنطقة بهذا الاسم لجودة ماشيتها التي تقتات على الأعشاب الطبية والعطرية التي تنتشر هناك. للوصول إليها انطلاقا من مدينة ميدلت يتطلب الأمر نقلا خاصا، ولم لا «التنقل عبر دراجة نارية ثلاثية العجلات للاستمتاع أكثر بمضايقها الجميلة. وأنت في الطريق إلى «أحولي» تمر من جماعة «ميبلادن» والتي تحتوي على عدد من المناجم العشوائية، عند عبور قنطرة خشبية يعود تاريخ بنائها إلى عهد الاستعمار. أنقاض مهجورة المكان أشبه بلوحة فنية رائعة، كل ركن وزاوية يحمل ذكرى لعصر خلا كانت الأرض فيه «تبيض» ملايير الفرنكات إبان مرحلة الاستعمار، بقايا مصاعد ضخمة وعملاقة وقناطر حديدية وأخرى إسمنتية وخشبية، تحولت إلى مآثر يقصدها فقط من له ارتباط وجداني بقرية «أحولي» المنجمية. على جدرانها خطت عدد من الرسومات وتوقيعات لأشخاص مروا من هنا، منهم سياح أجانب، اختاروا أن تظل أسماؤهم محفورة على جدران أرض قدر لهم أن يولدوا بها، وقدر لها أن تصبح مجرد «أنقاض» مهجورة. يعبرها نهر ملوية، الذي شهد عصرا كانت تنحر بجانبه الذبائح، وكانت هناك محلات للجزارة لتلبية حاجيات السكان آنذاك. هجرها سكانها ولم يعد يقطن بها سوى أسرة واحدة وبعض الشباب الذين ما زالوا يعيشون على ذكريات الماضي، والذين تركوا منازل عائلاتهم ب«قصر أحولي» الذي يبعد عن القرية المنجمية ببضعة كيلومترات، وتسكنه حوالي 25 أسرة. جمالية المكان وتاريخه العريق ربما كان من بين الأسباب التي جعلت المخرج المغربي شفيق السحيمي يختاره من أجل تصوير بعض حلقات مسلسله «شوك السدرة»، الذي يحكي عن مرحلة من تاريخ الاستعمار بالمغرب. بركاويون قاطعوا الدستور كل شيء يدل على أن ما نشاهده هو بقايا حضارة متقدمة، قاعة للسينما ومسجد وخشبة للمسرح ومحلات للجزارة، ولوحات لمقرات نقابية يعلوها الصدأ ولم يعد يظهر منها سوى «اللوغو» إنها ل«الاتحاد المغربي للشغل» و«الاتحاد العام للشغالين بالمغرب». أزيد من 600 سلم «دروج» تؤدي إلى حي الأطر الذي كان معزولا عن إقامة العمال، كانت ليالي رأس السنة المقامة بها تنقل عبر محطات إذاعية فرنسية، كما يحكي ذلك بعض الذين عايشوا المرحلة». بقرية «أحولي» صلى الأمير الراحل الأمير مولاي عبد الله عندما دشن مسجدا أصبح حاليا مهجورا، وفق ما أكده سكان المنطقة، الذين يؤرخون للمنطقة بالزيارة الأميرية التي كانت خلال مرحلة الستينيات، يقول رجل عجوز، وهو عامل سابق بالمنجم، التقيناه رفقة أبنائه في زيارة للقرية، «كانت هناك خيرات لا تعد ولا تحصى، كان العمال من مختلف الجنسيات، ألمان وإسبان وفرنسيين، كانت أياما لا تنسى، لكن ضاع كل شيء، وزراها الأمير مولاي عبد الله رحمه الله ودشن مسجدا بإنجيل»، وعندما سألناه عما يقصد بإنجيل قال هو «حي الأطر». لم يكن الأمير وحده من بصم تاريخ القرية المنجمية، بل إن زعماء سياسيين ونقابيين مروا منها، ومنهم من كان مبعوثا لتهدئة العمال الذين كانوا يخوضون إضرابا عن العمل، ومن هؤلاء المحجوب بن الصديق والفقيه البصري، كان المكان قاعدة للتعبئة السياسية والنقابية ساهم عمالها في إنجاح عدد من المحطات، ومنها محطة مقاطعة الدستور لسنة 1962، إلى درجة أصبح يطلق على سكانها «البركاويين» نسبة إلى المهدي بنبركة، وفق شهادات لأبناء المنطقة. كسكس الجمعة مساكن العمال يبدو منظرها مثيرا لتراصها وكثرة عددها، بنتها أياد أجنبية: إسبانية وإيطالية وألمانية..، كانوا معتقلين إبان الحرب العالمية الثانية واستقدمتهم فرنسا من أجل بناء مساكن العمال كما يحكي عزيز زلال الكاتب العام لمؤسسة ميبلادن أحولي للتنمية والبيئة ل«المساء»، وبعدما وضعت الحرب أوزارها منهم من اختار العودة إلى بلده وهناك من اختار الاستقرار بالمغرب. ارتباط بعض الأجانب ب«أحولي» دفع بعضهم إلى زيارة المنطقة سنويا خصوصا الفرنسيين والإسبان، بل منهم من انشأ مجموعة للصداقة تضم كل من له ذكريات بالمنطقة ويلتقون كل جمعة بفرنسا لقاء يسمى «كسكس الجمعة» ليتذكروا تاريخهم، حسب قول بلال. «ذات يوم قدم فرنسي لزيارة المنطقة وبكى حزنا على ما آلت إليه الأوضاع هنا لأنه عاش مرحلة الازدهار بها»، يقول سيدي محمد الرشيدي، من مواليد المنطقة، الذي يؤكد بدوره أن هناك أجانب تربطهم ذكريات قوية بهذا المكان وهناك يكون مسقط رأسه هو «أحولي» . والد هذا الشاب، الذي اختار أن يضع شبه معرض لبيع بعض الأحجار التي يستخرجها من المكان، كان يعمل بالشركة المستغلة للمنجم ولم يكن ضمن المستفيدين من السكن مقابل إخلاء القرية المنجمية، حسب ما حكاه ل«المساء». لقمة العيش ما زال بعض المواطنين يترددون على المنطقة من أجل البحث عن معادن لبيعها، حيث صادفنا بعضهم خلال زيارتنا للمنطقة، ومنهم محمد، الذي ولج «الغار»، وبدأ يعمل بشكل بدائي لاستخراج الرصاص والنحاس، علامات البؤس والفقر تبدو على محياه، فلا بديل له لكسب قوت يومه سوى البحث عما يبيعه لبعض تجار الجملة، يقول محمد»أخاطر بحياتي وألج هذا المنجم القديم، أحيانا أجمع ما يقارب 30 كيلوغراما من النحاس والرصاص وأحيانا أتعب وتكون الحصيلة صفرا». يبدأ محمد عمله في الصباح الباكر، يثبت مصباحا يدويا على قبعته من أجل أن ينيرله الأنفاق المظلمة، يبدأ في الحفر بحثا عما تجود به الأرض من معادن مختلفة، وعند الانتهاء يجمع حصيلته داخل كيس ويمتطي دراجته الهوائية ليعود إلى منزله. «أحيانا أستقدم بعض الطعام والمكون أساسا من الخبز والشاي، وأستريح قليلا، لأتمم عملي»، يقول محمد، الذي يؤكد أنه يعمل بشكل غير قانوني، لكن لا بديل له عن ذلك، فهو المعيل الوحيد لأسرته المكونة من 10 أفراد. ليس محمد وحده من يكابد من أجل كسب قوت يومه عبر المخاطرة بحياته لجمع بعض المعادن عبر الدخول إلى الأنفاق وبعض الأوراش القديمة التي تشعرك بالرعب عند الاقتراب منها، بل هناك عدد من المواطنين يبحثون عن المعادن دون أن يأبهوا لمصير الموت الذي قد يفاجئهم في أي لحظة خصوصا أن هناك قصصا وروايات لأشخاص قضوا نحبهم بعد سقوط أحجار عليهم يسمونها ب«السيخة» أو سقوطهم داخل آبار أو اختناقهم داخل الأنفاق. إذا كان بعض الرجال ينقبون داخل «المغارات» عن الرصاص، فهناك نسوة اخترن رعي الأغنام وجمع بعض الأعشاب الطبية ومنها نبتة «الكبار» التي يبعنها لبعض التجار القادمين من فاس بمبلغ زهيد لا يتعدى 5 دراهم للكيلو، كما تؤكد فاطمة، ل«المساء»، التي قالت إنها تتعرض لخطر الثعابين من أجل جمع هذه النبتة الشوكية المعمرة التي تدر عليها بعض الدراهم. تجهل هذه المرأة قيمة نبتة «الكبار» التي يصدرها المغرب إلى الدول الأوروبية، فعلاقتها بها تتحدد في كونها موردا للرزق وكفى أما ما دون ذلك فلا يهمها. بلهجتها الأمازيغية، تتحدث فاطمة عن معاناتها اليومية، فهي تزاوج ما بين رعي الغنم وجمع نبات «الكبار» أما زوجها فهجر المنطقة إلى مدينة الدارالبيضاء للعمل في مجال البناء. تقول فاطمة « لدي ثلاثة أطفال وأعاني الفقر والتهميش، كما أن أطفالي منقطعون عن الدراسة لبعدنا عن المدرسة وعدم وجود نقل يساعدني على تدريسهم» . نحو سياحة منجمية واقع هذه القرية، لا يمكن أن يظل كما هو، بل ينبغي إعادة الاعتبار للمنطقة، كما يرى عزيز زلال، الكاتب العام لمؤسسة ميبلادن أحولي للتنمية والبيئة، الذي قال إنه يتعين أن تلعب القرية دورا رائدا في التنمية الاقتصادية لمدينة ميدلت، وذلك عن طريق تنمية السياحة المنجمية كما هو الشأن بفرنسا، التي حولت مناجم الفحم ب»با دوكالي» إلى منطقة سياحية وهو ما يحقق مداخيل مهمة. عبد الله علاوي، نائب غرفة التجارة والصناعة لإقليمي ميدلت وخنيفرة، يرى بدوره كابن للمنطقة، أنه آن الأوان كي تعود مسقط رأسه سياحية، من أجل الاستثمار الجيد بها خاصة أن هناك أجانب لهم ارتباط بالمكان وأن تهيئته كفيل بجلبهم لزيارته. ويؤكد علاوي، أن منطقة أحولي كانت تستقطب آلاف العمال الذين يستخرجون الزنك والرصاص والنحاس، منذ سنة 1926، حيث كانت مدينة ميدلت هي المدينة الثانية التي أدخل بها الكهرباء بعد مدينة الدارالبيضاء، وبعد مرحلة من توقف دام حوالي خمس سنوات، استؤنف العمل بالمناجم سنة 1945، ليتم التوقف النهائي خلال مرحلة الثمانينيات. بعد رحيل الشركة التي كان مرخصا لها استغلال هذا المنجم، وهي شركة متعددة الجنسيات، بقي الوضع كما هو، لأنه من الناحية القانونية، فالرخصة، مازالت سارية المفعول حسب القانون إلى سنة 2029 رغم توقف الاستغلال، حسب الكاتب العام لمؤسسة ميبلادن أحولي للتنمية والبيئة، الذي يقترح السماح لسكان المنطقة المنجمية «أحولي وميبلادن باستغلال المعادن وذلك عبر إحداث استثناء للقانون المنجمي وفق لما هو معمول به بمنطقة تافيلالت من خلال قانون سنة 1960، الذي أحدث المنطقة المنجمية لتافيلالت كاستثناء بالقانون المنجمي ل16 أبريل 1951، والذي أذن بموجبه بالاستغلال التقليدي لمناجم الرصاص والزنك. ورغم سعي المواطنين، يضيف زلال، الذين ينقبون على المعادن لتأسيس تعاونية كما هو الشأن ببني تجيت وتقدمهم بالتصريح، قيل لهم إن هناك استثناء قانون 61 الذي يعطي لتأسيس هذا النوع من التعاونيات وتركوهم يعانون، لماذا لا يتم تغيير هذا القانون وترك هؤلاء يعملون في القانون عوض تركهم عرضة للوبيات يستغلون جهودهم، يتساءل المتحدث نفسه، وهو من أبناء القرية، الذي يأمل أن يراها يوما ما قرية منجمية سياحية، تنافس المشاريع الأجنبية. غادرنا هذه القرية الجميلة على أمل أن يتحقق لأهلها ما يطمحون إليه وأن يأتي يوم تصبح فيه قريتهم سياحية ويتم التسويق لها كمعلمة تؤرخ لزمن مضى.