لم يكن ينقص ساكنة مدينة ميدلت البسطاء، وسط شتاء قارس لا يرحم، وبرد يزمجر بالويل، ترسله جبال العياشي المكسوة قممها بالثلوج، بطعم جاف تشعر معه وكأنك في جحيم سموم. يضيف من قساوته وقلة رحمته ارتفاع ثمن حطب التدفئة، أكثر مما ارتفعت أزسعار البنزين هذه السنة، فهذا النوع من المعاناة الخاصة لا يذوق مرارتها في هذا الوطن الحبيب غير ساكنة مدينة ميدلت والنواحي المجاورة، فهي تجعل معاناتهم إلى جانب معاناة كل ساكنة المغرب العميق، المغرب صامت، معاناة مضاعفة ولا من معين ولا من مواسي. لم يكن ينقص مثل هؤلاء المواطنين البسطاء، وهذه الساكنة البسيطة إلا أن تتلقى قنبلة من عيار القنابل الذرية، كي تتفجر في حقل الكرامة الإنسانية، مخلفة ورائها فاجعة، كارثة إنسانية، من الصعب لملمة جراحها العميقة، والمصيبة تزداد عمقا حينما تدرك من كان وراء الفاجعة، فهو لم يكن سوى من نترجى منه البركة، وينتظر منه صيانة الحق، والحيلولة دون وقوع مثل هذه الكوارث. إنه نائب وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية لميدلت الذي ينطبق عليه اليوم أكثر من غيره المثل العامي القائل " الفقيه اللي نترجاو براكتو فالجامع دخلنا ببلغتو" وكذلك يحق فيه القول " حاميها حراميها". فماذا بعد هذا، ماذا بعد أن يعمل رجل القانون والقابض بزمامه على إهانة شاب يعمل في ورشة لصباغة السيارات، لكسب قوته الحلال، شاب في ريعان شبابه، في فترة عز وشهامة عمر الإنسان، في هذا الوقت من العمر بالذات قد لا يوجد أرذل من أن يجبر المرء على تقبيل حذاء رجل أخر، يقبلها يمنة ويسرى بعد أن يسب ويشتم ويبصق في وجهه. بحثت في التاريخ عن مثل هذا الفعل كي أصنفه وأسنده إلى حقبة تاريخية أو عهد تاريخي، لكني لم أجد له مرجعا ولا سند تاريخي، فهو حدث مسبوق في تاريخ البشرية، فهذا الفعل لا يدل إلا على عجرفة وغطرسة وتسلط فاق الفرعنة وطغيان الفراعنة، فحتى الفرعون الذي كان يقول لشعبه "أنا ربكم الأعلى" لم يذكر عنه التاريخ يوما، وفيما أعرف، أنه أجبر شعبه على تقبيل حذائه، أو أنه كان يبصق في وجوههم، فأي إهانة أكثر من هذه أي فساد أبشع من هذا. ما كان يمكن لأي إنسان أن يخضع لمثل هذا أو أن يفعله لكن هشام الشهم، فعلها لأن له طفلة في ربيعها الثاني تنتظر عودة أبيها، لأن لهشام زوجة لا يتسع لها سريرها إلا وهشام في جنبها، لأن لهشام أم لا يغفل لها جفن إلا وابنها نائم في البيت، لأن لهشام أب مقعد ينتظر قدوم ابنه كي يقوده حين يريد الذهاب للحمام . هكذا كانت سخونة الموقف ودرجة حرارة الفاجعة أقوى من برد جبال العياشي، فانتفضت ساكنة ميدلت القوية، والصلبة صلابة معادن أحولي وميبلادن، فهي الساكنة التي شقت مناجم القريتين، وهي الساكنة التي شقت الجبل بأيديها حين حفرت نفق زعبل، هي الساكنة التي عبرت بقوة اليوم، رافضتا أن تداس كرامة أبنائها ورجالها، أو أن يتلاعب بعزها، من طرف أي كان. حدث ذلك في يوم كان بالفعل مشهودا، سيسجله التاريخ ما حيت البشرية، وما دام الإنسان على وجه البسيطة، فقالت حيث لا يعلو على قولها قول، لا للظلم لا للاستعباد، في صورة بشرية منقطعة النظير وفي لوحة كتب عليها " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار" رفعها الشاب هشام، في مشهد شهم شامخ، فاق شهامة وشموخ جبال العياشي المطلة على المدينة، هشام الذي كان بإمكانه أن يحرق جسده في مثل هذا الموقف دون أن يلام فيكون بوعزيزي ميدلت، لكنه أبى هو و رجال ونساء المدينة إلا أن يحرقوا كل من سولت له نفسه التلاعب بكرامة وعز ة الإنسان. فكان بذلك أكثر قوة من قوة البوعزيزي. فل نرفع كلنا مع هشام الشهم شارة النصر تحية له ولمدينة ميدلت، ولنردد كلنا هشام... كلنا هشام.. فل يسقط الفساد... فل يسقط الاستبداد عاشت ساكنة ميدلت حرة صامدة شامخة شموخ يفوق شموخ جبالها. و في الأخير نقول ما قاله الشاعر "وداوني بالتي كانت هي الداء". فإذا كان رجل العدل هو من ظلم هشام، فإنه لا يمكن أن ينصفه سوى رجال العدل بأن ينال الجاني ما يستحق على فعلته النكراء.