سنتحدث بعمق يبتعد عن مناوشات لوبيات الصراع القائم حول الصحراء الغربية بين المغرب وجبهة البوليساريو والجزائر، وبعيدا عن الأطروحات المتداولة بين هذا وذاك، وبعيدا عن الحساسيات وكل الاتهامات التي يتبارى بها حكامنا على مسرح "الفتنة المغاربية"، وبعيدا عن كل الشعارات البراقة التي رفعت والتي يراد منها تبرير ما لا يبرر، فمرة نجد إتحاد المغرب العربي، وأخرى بإسم القومية العروبية أو الأمة الإسلامية... الخ. لكن ما يجب النظر إليه في ظل هذه الأمواج المتلاطمة هو الواقع المأسوي للصحراويين في المغرب الكبير، أسمّيه كذلك وطبعا ليس وفق إيديولوجية العرش العلوي الذي يرى موريتانيا وأجزاء من التراب الجزائري ضمن أجندته التوسعية التي لم يتراجع عنها وإن جمدها إضطرارا ومؤقتا. كما أنني أرفض تلك التسميات المتداولة والعنصرية والطائفية التي ما تخدم إلا أجندات حكام الشرق العربي وعقليات العمائم والبترودولار. فالمنطقة المغاربية فيها العرب وفيها العرب العاربة والمستعربة والعربان كما فيها الأمازيغ وهم أصل السكان وأصحاب الأرض والحضارة الضاربة في العمق البشري ولا يمكن لأي كان أن يفلح في إقصائهم من المشهد السياسي والقومي للمنطقة. فالمغرب الكبير هو أفضل التسميات التي ستجمع كل الإثنيات والأعراق والمذاهب والملل والنحل تحت إطار يخدم الشعوب ويحافظ على هوياتها في إطار رؤية متكاملة وغير إقصائية تتطلع لمستقبل واعد وليس بهزّ البطون والعواطف على أنغام ماضي في أغلبه تعيس لا يمكنه أن يقدم شيئا في ظل التجاذبات الإقليمية والدولية الحديثة. بلا شك أن الاتهامات التي تقفز للواجهة دائما هي من أجل إسكان الكرة في شباك الطرف الآخر والتنصل من المسؤولية التي يتحملها الجميع بلا استثناء كما لا يمكن اعتبار أن الجزائر والمغرب والبوليساريو هم أطراف الأزمة فقط، بل كل دول المغرب الكبير متهمة، فلو عدنا للتاريخ لوجدنا لها بصمتها أو وضع قدم في مسرح الفتنة المغاربية العميقة. كما أن عقلية إبادة الخصم والمناهض صارت تسيطر على غرائز الحكام والشعوب أيضا، فهذا المغربي يرى البوليساريو جبهة خائنة يجب إبادتها من الوجود، وذاك المهلوس بشعارات المخزن يرى كل صحراوي ينتفض في الداخل حتى لو من أجل صفيحة زيت هو عميل للجنرالات من الضروري قطع رقبته وسلخ جلده أو الزجّ به في غياهب سجون ذابت جدرانها من مآسي الأبرياء وصرخاتهم التي يتشقق لها الحجر ولا يشم رائحتها إلا من عاش ولو لدقائق معدودة في زنازين هؤلاء الفراعنة. والمنتمي للبوليساريو يرى المغربي محتلا يجب دحره والشرب من دمه. أما الجزائري فمنه المساند لأطروحات النظام الذي يتغنى بحرية الشعوب ومناصرة القضايا المصيرية وبازدواجية واضحة ليس المجال لبسطها، ومنه أيضا ذلك الذي لا يهتم إلا بلقمة عيشه وخبز صغاره. ويوجد من يرى واجب الوحدة المغاربية ولا يجوز تفتيت المنطقة لدويلات جديدة. كما يوجد أيضا من يرى الصحراء مغربية وإن كان من الصعب التعبير الصريح برأيه لأن ذلك يعرضه للتخوين في أرحم الأحوال. لقد لقّن المخزن المغربي الكثيرين بتلك الشعارات الطنّانة والرنّانة من "استرجاع الأقاليم الجنوبية" إلى "الوحدة الترابية"، في حين حقن العسكر في الجزائر الكثيرين بمصل الترهيب من الأطماع المغربية في تندوف والمخطط التوسعي على حساب الأراضي الجزائرية وخاصة أن البرلمان المغربي لم يوقع على إتفاقية ترسيم الحدود إلى يومنا هذا. ترى هل استرجع الملك الراحل الحسن الثاني الإنسان الصحراوي في مسيرته التي وصفها بالخضراء؟ هل بالفعل يرى الجزائريون في ظل الأزمات المتوالية أن المغرب هو العدو الأول الذي يتربص باستقلالهم وأرضهم؟!! هل بالفعل أن المغاربة يرون الجزائريين يتآمرون على وحدتهم الترابية وما شابهها من الأطروحات؟!! بلا شك أن الجواب يتنافى مع ما يبيّته حكامنا لشعوبنا أولا وقبل كل شيء أما ما يبيّتونه لبعضهم البعض فهو مجرد سحابات عابرة تنخدع بها الأبصار لا البصائر، لأنهم يحتمون بأخوة منقطعة النظير عندما تصير قصورهم مهددة بالديمقراطية أو بانقلابات عسكرية أو بالإفلاس السياسي والاقتصادي وحتى الإيديولوجي. مما لا يختلف فيه لدى الأعداء والأصدقاء أن الصحراويين هم من أعرق وأطيب الناس وأكرمهم وأشرسهم أيضا في الذود عن كرامتهم وشرفهم وهم من المتدينين والزاهدين في الحياة ويرضون بما قسم لهم ولو كان بوزن ذبابة، أتحدث عن كل الصحراويين في المغرب الكبير وليس يقتصر الأمر على جهة معينة. وقد لمست ذلك لما عاشرتهم لفترات متكررة فلا تهمهم المناصب العليا ولا القصور في الأحياء الراقية والمحميات الأمنية، فكل ما يهتمون به هو حلهم وترحالهم وعلف دوابهم وتعليم أبنائهم خاصة في الزوايا حتى يتخرجوا منها كفقهاء ولهم مكانتهم في مجتمعهم الذي لا يزال يحتكم للعادات القبلية القديمة التي يعتقد البعض أنها صارت أطلالا بزحف المدنية المعاصرة. تحدثت للكثيرين منهم فكان ما يشبه الإجماع بينهم أنهم يريدون الأمان من الخوف والعيش المتواضع الكريم الذي ألفوه ووفق طقوس ورثوها من أجدادهم، أما أطماع الحكم والجمهوريات والملكيات والديمقراطيات فهي خارج مجال التغطية عندهم. إن الصحراويين في مخيمات تندوف يعانون الأمرين ولا يمكن أن يخطر على العقل ما يتعرض له هؤلاء من انتهاكات صارخة لأدنى حقوقهم الآدمية، أما الوضع الاجتماعي والمعيشي فهو مزري للغاية بسبب الفقر والأمراض المزمنة وحتى المعونات الدولية تتعرض للفساد والنهب والمحسوبية والاختلاس وتسخيرها لخدمة المسؤولين ممن يتحكمون في رقاب الناس، الذين يرفضونهم حتى عقديا وليس بسبب انحرافهم أو سياستهم فقط. ويعاني الصحراويون أيضا في الداخل ما لا يمكن وصفه من إقصاء وتهميش وضغط يمارسه المغرب على كل من يشتبه في علاقته بجبهة البوليساريو أو حتى لمجرد رفض التصفيق للمخزن، فحقوق الإنسان في الصحراء الغربية متدهورة فنجد التوقيف غير المبرر والاختطاف وانتهاك الأعراض والضرب والتعذيب والتجويع المنظم والممنهج... الخ، ولو أردنا أن نسترسل في تعداد مآسي الصحراويين في الداخل ما كفتنا المجلدات حسب التقارير الحقوقية الدولية أو الشكاوى التي تصلنا يوميا، سواء في العيون والمناطق التي تخضع للسيطرة المغربية والتي توصف بالمحتلة من طرف جبهة البوليساريو أو حتى تلك التي يحكمونها هم ويصفونها بالمحررة. لم يقتصر الأمر على المنظمات الدولية في إطار نشاطاتها الحقوقية إنما يلهث أيضا أبواق المخزن بمأساة المخيمات وطبعا لأجل حسابات أخرى، وهذا لا يمكن أن نسايره وفق منطقهم لأنه لا ولن تبرر مأساة المخيمات خروقات الطرف المغربي أبدا، كما لن تبرر أيضا جرائم الداخل أطروحات البوليساريو ومن يسايرها... ولو عدنا بخطوات للوراء لوجدنا أبناء الصحراء قد عانوا الأمرين في ظل الاحتلال الإسباني وقدموا الغالي والرخيص من أجل حريتهم وشرفهم وفحولتهم ومروءتهم ومن دون دعم أي كان سواء من المغرب الذي يراهم الآن من أبناء جلدته وينتمون له في حين بادر بتقسيم الأرض مع موريتانيا عبر إتفاقية مدريد للأسف الشديد، بعدما طرد المستعمر الإسباني شرّ طرد وبمقاومة الصحراويين الأشاوس ولكن هذا المحتل لا يزال يجثم على الجزر المغربية التي هي حاليا خارج إهتمامات المملكة العلوية. أو حتى من حكومات دول الجوار التي صارت اليوم من اشد المنافحين عن الشرف الصحراوي المستباح، أما التعاون الشعبي الممتد في المنطقة المغاربية فلا يمكن تجاهله - طبعا - ويدخل في إطار آخر نتحدث عنه مستقبلا. يتبع المحرر: لن يتم نشر أي تعليق يتطرق لشخص أنور مالك عوض مناقشة أفكاره بخصوص الموضوع أعلاه المقال القادم: هل يجب إبادة الصحراويين حتى يرتاح حكّامنا؟!! – الحلقة الثانية (01/03/2010)