على (الشعراء الكبار ) أن يبرروا وجودهم أمام (الشعراء الشباب) وليس العكس كما هو سائد الآن، الشعراء الكبار الذين انتقلوا من إبداع الشعر إلى صناعته، فأغلبهم وافته المنية عند عمله الأول أوالثاني، وبدأنا نتململ عند أعمالهم اللاحقة، وبالتالي علينا عكس الأوضاع، ليس عكسها بالتفكير والتأمل، بل عكسها حقيقة وواقعا، بنفي كل قداسة وانبهار بهؤلاء، وعدم تناول أعمالهم الميتة بالبحث والدراسة تفاديا لتكريس الجثة ونشر الموت وتعميم الخراب، باستثناء الشعراء الذين وعوا بحدسهم وبصيرتهم الإبداعية هذا الأمر، فأبدعوا وصمتوا تجنبا للسقوط في الصنعة والتكرار والتطابق مع أنفسهم ( أحمد المجاطي نموذجا)، لذلك يجب التشطيب على هؤلاء (الشعراء الكبار ) من البحوث الجامعية ومن تناول أعمالهم بالدراسة والقراءة وعدم جعلهم أفقا للتفكير والتحليل، حتى يضطر ( الشعراء الكبار) إلى تبرير وجودهم أمام (الشعراء الشباب) لكي ينالوا اعتراف هذا الأخير وتزكيته، بمعنى آخر عليهم أن يخلعوا عن أنفسهم تلك المعاطف الكبيرة وتلك البزات العسكرية ويصبحوا بدورهم (شعراء شباب)، بأن يعودوا إلى أخطائهم وقلقهم وارتباكهم الأول، حتى يتطهروا من أثر الصنعة، وينسوا طريق القصيدة التي ألفوها، فالشعراء الشباب يملكون ما ينتمي للشعر فعلا، يمتلكون روح المغامرة والمخاطرة وخيانة نصوصهم كل مرة بحثا عن الصوت الهارب، فالشاعر الذي لا يخون والذي يشبه نفسه أمام كل مرآة هو غير جدير بالقراءة، بل صالح للمتاحف وللأضرحة والزوايا، ليمارس جموده وهالته وقداسته، وينعم بتحلق المريدين المستلبين والمبهورين حوله.. ولكشف حقيقة هؤلاء (الكبار) علينا ممارسة سلب ونفي مستمر لحضورهم، علينا وعيهم بطريقة مختلفة لتلك التي ترسخت وتطبعت في أذهاننا، حتى جعلهم يحضرون مثل طائفة من الكهان أوطبقة من الأنبياء المصبوغين بصفة الكمال، علينا الإيمان بالتجربة المتفجرة والمتولدة في الحاضر والآن، وليس اختزالها في الذاكرة التي يقطنها هؤلاء بشكل مزمن ومهيمن .. لكن كل نقاش مع الأدباء الجدد أخرج منه بمزيد من الخيبة والإحباط، فتتجلى لي محطة التغيير متناهية في بعدها، لكنني ألتمس لهم بعض العذر، فهؤلاء قد استبطنوا سلطة المؤسسات وأدمجوها في كيانهم، فأصبحت تتكلم على ألسنتهم وتتجلى في ممارستهم بطريقة غير واعية، فلا يمكن أن يحصل التغيير بمجرد الإشارة إلى الأخطاء والعثرات والأزمات، فكل هاته البشاعة التي تغلف مشهدنا الثقافي يجد لها الأدباء الجدد مبررا ومسوغا يكشف عن عقليتهم النكوصية والإنهزامية، مثل السجين الذي من كثرة الأسوار والقضبان و من طول المراقبة والحصار أصبح يخشى الحرية ويهابها، فيستبطن ويدمج في كيانه مشاعر القمع والتدجين والخنوع ويمارسها على نفسه حتى وهو وسط العراء بعيدا عن أي سلطة خارجية سواء أكانت ظاهرة أم خفية، فالأدباء الجدد حسب تبريرهم يخشون الفوضى، وكأن المؤسسات الثقافية الراهنة لا تكرس الفوضى.. فالتوزيع غير العادل لخيرات الكتابة هو فوضى، وتمركز فعل الكتابة والقراءة في فئة محددة هو فوضى، وتغييب أسئلة الأدب الحقيقية لصالح أسئلة خارجية وغريبة عنه هو فوضى، وصنع أسماء وتهميش أخرى هو فوضى، وعدم تناول هذا المشهد الثقافي البئيس بالنقد والمراجعة والسؤال هو فوضى أشد وأمر.. الأدباء الجدد وأدباء الهامش هم موضوعات هذه المؤسسات الثقافية وسلطتها، لكنهم للأسباب الآنفة الذكر يتماهون مع هذه المؤسسات ويظلون وسط دائرتها وتحت رعايتها، والرعاية هنا بمعنى التغيبب والاقصاء والتهميش والقمع وكذلك بمعنى آخر وهو التعامل معهم باعتبارهم ذواتا كتابية ناقصة تحتاج إلى التشجيع أي إلى نوع من الشفقة المبطنة والتربيت المهين، لذلك قد تنظم لهم ملتقيات أوموائد مستديرة ليتحدثوا عن تجربتهم الطرية وكذلك قد يفسح لهم المجال أحيانا للنشر إلى جانب الأدباء الكبار أو تنظم لهم مسابقات لاكتشاف مواهبهم وقدراتهم، وكذلك إخراج كتبهم في إطار سلسلات مصبوغة باسم واحد وغالبا ما يكون اسما دالا على صفة النقص والابتداء التي يخلعونها دائما على الأدباء الجدد ويلبسونهم إياها مثل بذلة السجين في المؤسسة السجنية أو بذلة المجنون في مؤسسة الأمراض العقلية، في إطار من ممارسة التفييء والعزل والتقسيم، إنه شكل من أشكال النفي الذي يتجلى ظاهريا في صورة القرب والاعتراف، إنه صورة من صور الميتافيزيقا حيث الأدباء الكبار هم الحقيقة الخالدة والثابتة والأزلية بينما الأدباء الجدد هم مجرد ظلال وأشباح وصور ناقصة ومشوهة لتلك الحقيقة المتعالية على الأدباء الجدد إذن أن يمارسوا سلبا ونفيا مستمرا للمؤسسة، بتفكيك الأسس التي تقوم عليها وفضح أوهامها ، ليكون ذلك شكلا من أشكال الاسئناس في نفي هالة القداسة والهيبة المصطنعتين اللتين تحيط المؤسسة نفسها بهما وتتخفى وراءهما لكي تمارس وظيفتها القمعية والاستئصالية، فالأمر هنا لا يتعلق بصراع أجيال أوما يسمى بقتل الأب، أو بمحاولة التحرر المطلق والكلي من المؤسسة، بل بمحاولة كشف للعلاقات التي تعمل بخفاء، وتسليط الضوء على البنيات الذهنية التي تفعل وتؤثر بشكل مستتر وملغوم من أجل أن يحقق الأديب قدرا ولو يسيرا من الحياة.