كانت فرصة إحياء اليوم العالمي لحقوق الإنسان بالمغرب ، مناسبة سانحة أمام الحركة الحقوقية في البلاد أو تلك التي تعمل بالموازاة معها ، لتقييم الوضع الحقوقي انطلاقاً من تراكم السلبيات والإيجابيات التي عرفتها الساحة المحلية ، وأيضاً من خلال قياس ثقافة حقوق الإنسان في مسار الإدارة وتشعباتها الأمنية . ليس جديداً، أن المغرب انخرط في منظور جدي لحقوق الإنسان ، حتى إنه في كليات الشرطة التي تخرج الكوادر الأمنية يجري لهم تدريس مادة خاصة بالحوكمة الأمنية ، ومعها كل ما يتعلق بأبجديات حقوق الإنسان . لكن عموما فإن الدرس النظري الذي يتلقاه الطالب في مدارس الشرطة ، هو غير الواقع الحيوي والمتحرك ، إذ إن بعض لحظات الرد لم تكن موفقة ، أو إن بعض العقليات القديمة الموجودة في الآلة الأمنية تصرّ على تكرار السلوك القديم مورطة الجهاز الذي تنتمي إليه في سياقات هو في غنى عنها . التقييم الحقوقي لواقع حقوق الإنسان في المغرب لم يخرج عن أحد احتمالين ، إما أن التحليل يؤدي إلى القول إن الوضع سوداوي وغير مشجع، أو القول إن الإنجازات قد دفعت قدماً بواقع حقوق الإنسان في المغرب إلى الواجهة، وأن الصورة ليست في مثل السوء الذي كانت عليه في الماضي . وما بين النظريتين، هناك مشترك يشير إلى أنه يجب اليوم استثمار المساحات الحقوقية الخضراء، وعدم التفريط فيها، ودفع الدولة إلى إبداء المزيد من الشجاعة في التعامل مع الملف الحقوقي، والارتقاء به إلى مستوى الضوابط الدولية المنصوص عليها في المواثيق والعهود الخاصة بحقوق الإنسان . وفي هذا الباب تصطف أغلب الجمعيات الحقوقية، والتي هي اليوم في المغرب تقدر بالعشرات، بعد أن طالتها أيضا لوثة الانشقاقات . لكن مع ذلك يمكن تسجيل أن المزاج الحقوقي في البلاد يعرف حالة من التردد، فلا هو قادر على مواصلة الخطوات السريعة التي انطلقت مع وصول الملك محمد السادس إلى العرش، ولا هو واع بالتحولات التي تكون حصلت في غفلة من الجميع . العدل والإحسان وخيار المواجهة يمكن تسجيل وجود لحظات توتر مع بعض التكوينات السياسية، ومن بينها على وجه الخصوص، ما يحصل بين "جماعة العدل والإحسان" المحظورة وأطراف في الدولة، فمحاكمة أعضاء الجماعة في فاس والتي لا تزال تدور أطوارها( انتهت بتبرئة المعتقلين مما نسب إليهم ) ، والمتهمين بالاعتداء على أحد الأعضاء السابقين في الجماعة الذي قرر في لحظة تغيير قناعاته السياسية فجُوبِهت على حد تصريحاته بقوة وصلت إلى حدود احتجازه والتحقيق معه وتهديده في حياته، ما دفعه إلى الاتصال بالأمن بعد الإفراج عنه، ليجري التحقيق في هذه الواقعة متشابكة الخيوط . كما أن إقدام السلطات على اعتقال عضو مجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان منير الركراكي بتهمة قذف وَرَدَ في قصيدة له، اعتبرته الجماعة الإسلامية ذات التوجه الراديكالي في بيان لها "مغامرة صبيانية" . وقال بيان للمجلس إن "العقلية المغربية تفتقت عن سخافة جديدة في مجال التضييقات المتوالية والظالمة في حق جماعة العدل والإحسان، حيث أقدمت السلطات على تقديم الأديب الشاعر منير الركراكي عضو مجلس الإرشاد إلى المحاكمة بتهمة القذف، في موضوع ذي صبغة إبداعية، ضمن نفس الملف الذي تم توظيفه من قبل المخابرات المغربية ضد قياديي الجماعة السبعة بفاس الذين تم اختطافهم وتعذيبهم بشكل همجي بالدار البيضاء قبل أن يحالوا على الاعتقال والمحاكمة، كما أقدمت على استنطاق أحد أعضاء الجماعة بفاس وفي نفس الملف بتهمة التهديد بالقتل هاتفياً" . وأضاف البيان "إن فتح مثل هذه الملفات الملفقة والهامشية بعد الفضيحة الكبرى التي لحقت السلطة المغربية جراء ما قامت به من اختطاف وتعذيب، وفي ظل الأجواء المشحونة التي يعيشها المغرب، وبعد المساندة الواسعة لملف الأطر السبعة، ليعبر عن أزمة حقيقية يعرفها تدبير الحكم في هذا البلد، وعن تغييب كامل للغة العقل وبعد النظر، وترجيح آلية العضلات الطائشة، مع الاستهتار التام بالمصالح العليا للأمة . ويعبر عن مستوى الانحطاط والعبث والتخبط الذي وصله تدبير الاختلاف مع الخصوم السياسيين" . هذا البيان العنيف يؤشر على طبيعة العلاقة المتوترة بين الدولة والجماعة التي يصرح قياديوها أنهم يمتلكون ناصية الشارع المغربي وقادرون على الخروج في استعراض قوة في الوقت الذي يشاؤون . لكن السلطات الأمنية أفلحت على الأقل في الوقت الحالي في التعامل مع الجماعة وفق مبدأ الكر والفر، دافعة الجماعة إلى ارتكاب الأخطاء التي يمكن أن تورطها في ملفات جنحية أو جنائية بعيداً عن الطبخة السياسية . الحقوق البيئية أيضاً لأول مرة يطرح حزب سياسي في المغرب، حقوقاً أخرى هي الحقوق البيئية ويركز عليها في برنامجه الحزبي، معتبراً أن الحقوق البيئية وحقوق المجال هي في صلب القضايا الحقوقية الأخرى . ولا يتعامل اليسار الأخضر مع الهوية البيئية كواقع سكوني، بل هي تتطور في تفاعل المشروع المجتمعي الذي يناضل من أجله . فبالإضافة إلى المرتكزات والثوابت التي تقوم عليها الهوية الوطنية، فإن حزب اليسار الأخضر بمنظوره الدينامي لهذه المسألة، يرى أن الهوية لا تتحدد فقط بما كانت عليه " أنا " الإنسان وحاضرها بقدر ما تتحدد كذلك بطموح الذات إلى ما تصبو إليه . هذه الذات التي لا تبدو خصوصيتها في ما يميزها عن العالم، وإنما في ما يميزها لحظة مشاركتها بكل طاقاتها في صنع هذا العالم، وفي إبداع وخلق الجديد . فاليسار الأخضر بإبداعاته ومساهماته في خلق الجديد يمارس اعترافاً عملياً بأن الماضي غير مكتمل ولا يشكل حقيقة نهائية، بل إن اكتمال الحقيقة مرتبط بتحقق المشروع الذي يصبو إليه، في تجدده الدائم . فالهوية ليست في ما يثبت بل في ما يتغير، وليست المتحقق وحده فهي كذلك المشروع . بناء عليه يتموقع الحزب ضمن قوى اليسار، والدفاع عن توزيع منصف للسلطة والثروة، يضمن الكرامة الإنسانية والأمان والمشاركة للأغلبية الساحقة من المواطنات والمواطنين . ويستمد مبادئه من: القيم الاجتماعية والثقافية للفكر الاشتراكي ومبادئ الفكر البيئي لحركات الخضر ومناصري البعد الايكولوجي في العالم وقيم حقوق الإنسان الكونية بجميع أجيالها والضامنة للكرامة الإنسانية والديمقراطية في جميع أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية واللغوية والتنموية والمجالية، وكذا أبعاد التنمية المستديمة ومبادئ الفكر الحداثي وقيم العقلانية في بعدها الإنساني والكوني، الداعمة للديمقراطية والحداثة والمواطنة والمساواة . من جانب آخر جاء تقييم المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف للوضع الحقوقي في البلاد لا يخلو من تشخيص، حتى إن كان هذا التشخيص محكوماً بأجندته الخاصة التي يدافع عنها . ويطالب المنتدى السلطات المغربية بالإسراع بالمصادقة على اتفاقية حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري واحترام المساطر والإجراءات الضامنة للمحاكمة العادلة لكل المعتقلين، مشيراً إلى غياب الإرادة في تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة وخاصة التوصيات المتعلقة بالإصلاحات المؤسساتية، مندداً بتواصل الانتهاكات من تعذيب واحتجاز في أماكن غير علنية وإنجاز التحقيقات من طرف هيئات أمنية غير ذات صفة وتجاوز مدد الحراسة النظرية، وباستمرار التدخل في شؤون القضاء . ويلح المنتدى على ضرورة أن تقدم الدولة اعتذاراً علنياً ورسمياً عن التجاوزات السابقة ونشر اللوائح الاسمية بحالات الاختفاء القسري التي أعلن عن تحديد مصيرها وبالحالات العالقة، والإعلان عن نتائج التحليل الجيني الذي أجري على عدد من الحالات، ومواصلة التحري والكشف عن حالات مجهولي المصير التي لم يتم الكشف عنها بعد، ووضع أرشيف هيئة الإنصاف والمصالحة رهن إشارة المختصين والعموم، والتحفظ على مراكز الاعتقال خدمة للذاكرة، والإسراع بإدماج الضحايا صحياً واجتماعياً، ووضع إستراتيجية لمناهضة الإفلات من العقاب والمصادقة على نظام روما الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية، وإطلاق السراح الفوري للمعتقلين السياسيين . بالنسبة للجمعية المغربية لحقوق الإنسان التي احتفلت باليوم العالمي لحقوق الإنسان تحت شعار سياسي مفاده "من أجل دستور ديمقراطي، دولة الحق والقانون ومجتمع الكرامة والمواطنة"، فإن هذا الشعار تأكيد من الجمعية على ضرورة إقرار دستور ديمقراطي بلورة ومضمونا وتصديقا باعتبار أن استمرار الدستور الحالي عرقلة حقيقية أمام الديمقراطية والتنمية، كما يجسد مطلب بناء دولة الحق والقانون الذي يعتبر الدستور الديمقراطي إحدى شروطه الأساسية . وفي ذات الوقت يعكس هذا الشعار تشبث الجمعية بضرورة توفير مقومات المواطنة للجميع وبالكرامة كقيمة إنسانية عليا لا يمكن التفريط فيها أو السماح بهدرها، وكقيمة يجب تجسيدها في دستور البلاد وقوانينها وفي العلاقات الاجتماعية والسياسية، بدءاً بعلاقة السلطة مع عموم المواطنات والمواطنين في كافة الميادين وتنظيم الانتخابات الحرة والنزيهة، الشرط الأساسي لتمكين الشعب المغربي من تقرير مصيره . وتؤكد الجمعية بهذه المناسبة مجدداً ضرورة المراجعة الشاملة للوائح الانتخابية ودمقرطة التقطيع الانتخابي والاستجابة للمطلب الديمقراطي المتعلق بتمكين النساء من ثلث مقاعد سائر المؤسسات المنتخبة في أفق المناصفة . وبشأن ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان المرتبطة بالقمع السياسي، والتي شكلت طيلة سنتي 2004 و2005 موضوع اهتمام بالغ للحركة الحقوقية المغربية وللرأي العام في المغرب ولهيئة الإنصاف والمصالحة التي أنهت أشغالها بالتقرير الختامي الذي قدم للملك في 30 نونبر 2005 ، فقد سبق للجمعية ، بعد أن أكدت الطابع الإيجابي لكن الجزئي لنتائج أشغال الهيئة، التي لم ترق حتى لمستوى الحد الأدنى المشترك لمطالب الحركة الحقوقية والديمقراطية المغربية المتضمن في توصيات المناظرة الوطنية حول الانتهاكات الجسيمة المنعقدة في نونبر2001 ، أن طالبت بإعمالها وتطبيقها من دون تماطل . من جبر الضررإلى ثقافة حقوق الإنسان بعد مرور خمس سنوات كاملة على إنجاز تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة، وحل الهيئة وتكليف المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان والسلطة التنفيذية بتطبيق قرارات وتوصيات الهيئة، تعبر الجمعية عن استيائها لغياب تطبيق النتائج التي تم التوصل إليها . تجلى ذلك في عدم الكشف عن مصير سائر المختطفين وفي مقدمتهم المهدي بن بركة والحسين المانوزي، وعدم تحديد هوية الرفات وتسليمها للأسر الراغبة في ذلك، وعدم استكمال الحقيقة بالنسبة لمجمل الانتهاكات، وضعف الغلاف المالي المخصص لجبر الأضرار، وعدم اعتماد مقاييس موضوعية لذلك، وعدم احترام متطلبات الحفاظ على الذاكرة، وعدم اعتذار الدولة الرسمي والعلني للضحايا وللمجتمع، وعدم إطلاق سراح ما تبقى من معتقلين سياسيين بل تم إضافة معتقلين سياسيين جدد، والمماطلة في تنفيذ التوصيات المتعلقة بالإصلاحات الدستورية والقانونية والمؤسساتية لتفادي تكرار الانتهاكات الجسيمة مستقبلاً ومنها توصيات لا تتطلب مجهوداً مالياً أو تقنياً مثل الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية وإلغاء عقوبة الإعدام التي لا تتطلب سوى الإرادة السياسية الحقيقية . وتطالب الجمعية بالتطبيق الفوري ومن دون مماطلة إضافية لقرارات وتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة مثمنة جهود لجنة متابعة توصيات المناظرة الوطنية حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان كأداة للعمل الوحدوي حول ملف الانتهاكات الجسيمة وتثمين عملها الحالي المرتبط بالإعداد للمناظرة الوطنية الثانية، كما تحيي الجهود المشتركة للحركة الحقوقية في هذا المجال التي تجسدت بشكل خاص في نجاح المسيرة الوطنية الرمزية ل 31 أكتوبر 2010 المطالبة بتنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة . وتؤكد الجمعية مرة أخرى أن ملف الانتهاكات الجسيمة المرتبطة بالقمع السياسي لن يجد حله إلا على أساس الحل الديمقراطي والمبدئي المرتكز على الحقيقة الشاملة، وعدم الإفلات من العقاب والإنصاف بمختلف جوانبه (جبر الضرر الفردي والجماعي، حفظ الذاكرة واعتذار الدولة)، وتشييد متطلبات بناء دولة الحق والقانون كأساس لعدم تكرار الانتهاكات الجسيمة مستقبلاً، ومعالجة الانتهاكات الجسيمة في مجال الحقوق السياسية والمدنية بموازاة مع تلك الناتجة عن الجرائم الاقتصادية . كما تسجل الجمعية التناقض الحاصل لدى الدولة المغربية بين حديثها عن طي ملف الانتهاكات الجسيمة وواقع تجدد الانتهاكات من اختطاف وتعذيب ومحاكمات غير عادلة، ومس بحرمة المنازل من خلال المداهمات التعسفية، ما يوضح أن هذا الحديث لا يزال كلاماً موجهاً بالأساس للاستهلاك الخارجي . ورغم الانتقادات المبرزة هنا أو هناك، وتضارب التقارير الراصدة لوضعية حقوق الإنسان في المغرب، وحتى أكثرها قسوة، فإن الفاعل الحقوقي في المغرب على وعي تام بأن مسار تطور ثقافة حقوق الإنسان يحتاج إلى عمل كثير على الأرض، وبتعاون ما بين السلطات العمومية والمجتمع المدني والأحزاب السياسية والجمعيات الحقوقية . فأمام ضيق ذات اليد وعدم وجود موارد مالية للصرف على برامج تطبيق حقوق الإنسان، ينطبق المثل القائل "خطاف واحد لا يصنع الربيع". * صحيفة " الخليج " الإماراتية