محطات حاسمة في حياة إبراهام السرفاتي وعمران المالح :العشق الصادق للوطن مثقفان يقولان للمغرب : أنت ديني ودنياي . عندما تكون المواطنة انتماء وجداني قوي فهي تتجاوز الجدران المصطنعة مهما كانت أعمدتها : حيث يتحول الوطن إلى قبلة للعبادة ، والمقدس الأسمى الذي يختزل كل المقدسات . لقد كان لسان حال "إبراهام السرفاتي" وكذا زميله "عمران إدموند المالح" يقولان للمغرب "أنت ديني ودنياي " ومن ثم حطما حواجز الانتماء الديني والعرقي لينصهرا في بوتقة النضال الديموقراطي في شكله الأقوى و الأصدق من أجل مغرب للجميع ،مغرب المساواة والعدالة والديموقراطية والتعدد الثقافي والسياسي . مغاربة من النخاع حتى النخاع ، من جذور يهودية ،حيث ولد إبراهام السرفاتي في 16 يناير سنة 1926 بمدينة الدارالبيضاء. وهو ينحدر من أسرة أندلسية يهودية كانت تقطن بمدينة طنجة قبل الاستقرار بالعاصمة الاقتصادية للمغرب :الدارالبيضاء . أما الكاتب إدموند عمران المالح فلقد وُلد عام 1917 في مدينة آسفي الساحلية بالمغرب.. الاثنان عاشا طفولتهما في أحياء يختلط فيها اليهود بالمسلمين، وترعرعا في فضاء يلفه التسامح بين الأديان و نوع من الانصهار في العادات والتقاليد المشتركة ما بين المغاربة جميعهم. فلم يشعرا يوما بالإقصاء لذلك تشبثا بوطنهم المغرب ورفضا أسلوب ترحيل اليهود لإسرائيل واعتبراه سرقة مواطنين من وطنهم الأصلي (المغرب) . لقد كانا معا مناضلين من عيار ثقيل في صفوف الحزب الشيوعي المغربي، الذي عمل في السرية طوال مدة من الزمن .كما ناضلا ضد الاستعمار الفرنسي خلال فترة الحماية . عارضا الصهيونية والجرائم الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني بشراسة الصادقين . لقد صرح السرفاتي في مقابلة مع فرانس برس أجرتها معه سنة 2005: "لن أزور فلسطين إلا عند قيام الدّولة (الفلسطينية)، وبعدها سأزور أصدقائي اليهود في إسرائيل". وما فتيء عمران المالح يفكك أكاذيب الصهيونية من خلال إبداعاته الروائية كما تدل على ذلك روايته : "ألف عام بيوم واحد" وباقي نصوصه الإبداعية سواء بشكل مباشر او غير مباشر . كيف لا ،وهو يتناول بالتحليل النقدي حكاية الهولوكوست خلال ندوة نظمت في شهر فبراير من السنة الجارية 2010 بالمكتبة الوطنية بالرباط مما أثار جدلا في صفوف الحاضرين وضمنهم المستشار الملكي اليهودي الأصل أندري أزولاي . يقول السرفاتي حول إيمانه بالتعايش بين الديانات : "لقد كان عمري عشر سنوات في عام 1933 حين قال لي والدي ذات يوم في كنيس بشأن رجل يُكثر الصلاة لكنه منافق، قال لي:" إنه صهيوني والصهيونية لا تمت بأي صلة إلى ديننا". وإذا كان الأصل المبدئي للأديان كلها هو خدمة الخير فمن الطبيعي أن تشكل قيم السمو والنبل جذعها المشترك التي من المفروض أن تتكيء عليه للرقي بالإنسان وتمكينه من التعايش السلمي والحضاري كما يليق بأي إنسان أهل لإنسانيته ، فالعنف والاقتتال سمة ذات بعد حيواني ، وقبلهما الظلم والطغيان والجبروت الذي يعطي هذه النتائج الكارثية فوق الخريطة الأرضية . كمناضلان ذوي قيم عالمية وكونية كما تسنها مباديء الاشتراكية العالمية تبنى الراحلان هذه الأهداف ومعها قيم العدالة والديموقراطية والمساواة بين المواطنين من أجل عالم أفضل ومن أجل مغرب حداثي و سعيا لتجسيدها ميدانيا وسلوكيا خلال مسيرتهما الحياتية بطرق تختلف باختلاف حساسيتهما الشخصية . فإذا كان " إدموند عمران المالح " قد برز أكثر بصفته الأكاديمية والثقافية فإن "إبراهام ألبير السرفاتي " تألق نجمه كسياسي معارض للنظام المخزني أثناء حكم الحسن الثاني فآوته مخافر التعذيب السرية لمدة 15 شهرا بالمعتقل السري "درب مولاي الشريف " والسجون لمدة 17 سنة والمنفى لمدة ثماني سنوات . إدموند عمران المالح : الأكاديمي والروائي والمناضل . كان عمران المالح ميالا للكتابة لذلك أسس جريدة سماها «الأمل» وكان يكتب فيها تحت إسم مستعار هو عيسى العبدي، فأنجز ملفات وتحقيقات اجتماعية تبين ارتباطه ككل المناضلين العضويين بالشرائح الاجتماعية المسحوقة من عمال وفلاحين و تجار صغار وحرفيين وطلبة . كما انجز عمران المالح عدة روبوتاجات تعرف بفنانين تشكيليين ويرجع له الفضل في احتضان العديد من الفنانين الصاعدين والترويج للوحاتهم كما يقر بذلك بعضهم . يقر كل من التقى عمران أو عاشره بأنه إنسان يفيض إنسانية ونبلا وعمقا . بعد أحداث 1965 التي أطلق خلالها نظام الحسن الثاني الرصاص على المتظاهرين من أجل تحسين شروط العيش بقسوة بالغة خلفت العشرات من القتلى والجرحى والمعتقلين وجعلت النظام يحكم قبضته الحديدية ،غادر إدمون المالح المغرب ليستقر في فرنسا حيث درس الفلسفة بباريس . ومارس الصحافة في جريدة «لوموند» الفرنسية. وعند وفاة الحسن الثاني عاد إدمون المالح للمغرب ليمارس التدريس بثانوية محمد الخامس معلنا في اكثر من مناسبة سعادته بتدريس الشباب المغربي وبالتأليف الروائي الذي يقول بأنه بدأه متأخرا (سنة 1980) لكنه رغم ذلك تمكن من إنتاج العديد من الروايات الهامة التي حظيت بالمتابعة النقدية . ومن أبرز أعمال هذا المبدع المناضل : "المجرى الثابت" (سنة 1980) و"أيلان أو ليل الحكي" (1983) و"ألف عام بيوم واحد" (1986) و"عودة أبو الحكي" (1990) و"أبو النور" (1995) و"حقيبة سيدي معاشو" (1998) و"المقهى الأزرق: زريريق" (1998) و"كتاب الأم" (2004). محطات هامة لإبراهام السرفاتي : تخرج إبراهام السرفاتي من المدرسة الوطنية العليا للمعادن في باريس، وبدأ عمله في الخمسينات في مناجم الفوسفاط ، حيث تولى عام 1958 منصب مدير ديوان كاتب الدولة المغربي للإنتاج الصناعي والمعادن، ثم كُلف بمهمة في ديوان الزعيم الاشتراكي الراحل عبد الرحيم بو عبيد، وكان آنذاك وزير الاقتصاد الوطني. وضعية مهنية مريحة كان يمكن أن تضمن لصاحبها أن يرفل في الرفاهية ورغد العيش لو كان إنسانا نمطيا يفضل الأنا الفردية على الأنا الجماعية . إلا أن نبل إبراهام السرفاتي وحدة مواطنته لم تسمح له بهكذا أنانية ...فأصر على النضال جنب ثلة من المغاربة الأحرار من أجل "مغرب للجميع " وكرس حياته للدفاع عن جماهير الفقراء الذين تعتبرهم الجهات الرسمية مجرد فئات "غير محظوظة" وليست مظلومة كما يراها المناضلون اليساريون السياسيون والحقوقيون الذين انخرطوا في تنظيمات جذرية (23 مارس وإلى الأمام ولنخدم الشعب ....) وأعلنوها حربا لا تلين ضد بنيات الإقطاع والبورجوازية الرأسمالية المحتكرة للخيرات من خلال العمل السياسي السري وكذا من خلال العمل المدني الذي عرف حماسة قوية خلال السبعينات والثمانينات ومناخا نضاليا مميزا لا زال يثير الكثير من الحنين . -لقد كان السرفاتي زعيما لمجموعة (إلى الأمام) الماركسية اللينينية، ودخل العمل السري إلى حين اعتقاله عام 1975، والحكم عليه بالمؤبد. - قضى سبعة عشر عاما في السجن بتهمة الإخلال بالأمن العام، وصار رمزا للمساجين السياسيين المغاربة الذين طرحت المنظمات الدولية لحقوق الإنسان قضاياهم لسنوات عديدة. - أطلق سراحه عام 91، وأبعد إلى فرنسا بدعوى حمله للجنسية البرازيلية. حيث أصر وزير الداخلية الأسبق :إدريس البصري" على مضايقته من خلال حرمانه من جنسيته المغربية وبالتالي من جواز سفره كأسلوب لابتزاز موقف منه تجاه نظام الحسن الثاني . بقي السرفاتي في المنفى بفرنسا لمدة 8 سنوات إلى أن تولى العرش الملك الحالي "محمد السادس" فاستقدمه و أعاد إليه جواز سفره و قدم له إقامة مريحة بمدينة مراكش .،كما تم تنصيبه مستشارا لدى المكتب الوطني للأبحاث والتنقيب عن النفط.التابع لوزارة الطاقة والمعادن للاستفادة من خبراته المهنية . أصيب السرفاتي بمرض عضال : شلل نصفي وكذا بعض الاضطرابات في ذاكرته يقال بأنها نتيجة لسنوات التعذيب والسجن خلال سنوات الرصاص . ووافته المنية في إحدى المصحات بمدينة مراكش يوم الخميس 18 نونبر2010 ودفن في المقبرة اليهودية بالدارالبيضاء إثر حفل تأبيني حضره بجانب الجالية اليهودية وعلى راسهم مستشار الملك أندري أزولاي ، المئات من الشخصيات السياسية والحقوقية والفكرية وعشرات المواطنين والمواطنات الذين تربطهم بالسرفاتي علاقات اجتماعية أو نضالية . عاش شامخا ومات شامخا مثل أشجار النخيل السامقة . ومن غريب الصدف أن يتزامن رحيلهما بفاصل أقل من 3 أيام . وبهذا الرحيل تفقد الساحة النضالية والفكرية رجلين في مصاف العظام الحقيقيين ،أديا ثمن الخلود من حريتهما و راحتهما وإنتاجهما .... رحمهما الله وتغمدهما برحمته الوارفة جزاء لهما على دفاعهما عن حقوق آلاف الفقراء والمضطهدين وعن قيم العدالة والمساواة والتعايش السلمي بين البشر . آمين .