يقول المثل المغربي "المزوق من برا آش خبارك من داخل"، وهذا المثل في الحقيقة ينطبق على محلاتنا ومقاهينا وإداراتنا بالمغرب حين يتعلق الأمر بمستوى الخدمة المقدمة للزبون والمواطن المغربي داخل مؤسسات فارهة على مستوى الواجهات وعلى مستوى البنايات وعلى مستوى التجهيزات العصرية والحديثة التي تحظى بها هذه الأماكن العمومية. لذلك فإننا نستنتج أن الحداثة المعوقة التي يعيش في ظلها المغرب ودول العالم العربي، تظهر للعيان من خلال هذه المسائل الجزئية البسيطة والتي قد لا يعيرها الكثير منا أي اهتمام. إنك في أوربا أو غيرها من البلدان المتقدمة على وجه البسيطة فمهما كان المطعم أو الفندق بسيطا أو غير مصنف أو مهما كانت المقهى عادية ومنزوية في حي من الأحياء البعيدة فإن مستوى الخدمة المقدمة للزبون تبقى على أعلى مستوى. الأمر الذي يدل على أن جوهر الحضارة والأخلاق والتربية والتقدم هو البشر، هو الإنسان ذاته، وليس درجة حداثة الأبنية والمؤسسات والأثاث، التي ليست نتيجة لرقيه وتمدنه وتحضره. يستقبلك أحدهم في المطاعم الغربية باسما، ويقدم لك وجبة إفطارك حتى تحس وكأنه شبهك بأحد ما أو ظن أنك زبون قديم، وأنك زبون دائم للمحل ويتمنى لك شهية طيبة. وتدخل وأنت مغربي إلى إحدى الإدارات العامة بإحدى الدول الغربية فتقضي غرضك وكأنك تحلم، حتى "أنك مكتسخاش تنوض من حدا الموظفة اللي سرباتك"! من كثرة لطفها وحسن تعاملها، وسرعتها في قضاء حوائجك... فتقول في نفسك؛ لماذا أسرعت في إنجاز الأوراق، كنت أريد للحديث أن يطول! وتحمل أوراقك وتقف عند الباب غير مصدق، حتى تعتقد أنهم تسرعوا في إنجاز الأوراق أو نسوا شيئا ما أو أن في الأمر لبسا ما! ويصبح هاجس المغربي هو أن يعود في أقرب وقت لهاته الإدارات المتحضرة التي يعيش بداخلها أحلى لحظات مواطنته وكينونته وإنسانيته وإحساسه بقيمته ك "بشر" محترم وليس ك "بقر" في أرض الله واسعة. لماذا كل هذا الحب في ارتياد إدارات الناس، ولماذا الشعور بالتعب والغثيان والعياء لمجرد تذكرك أنك غدا صباحا ستكون مضطرا ومكرها للذهاب لإحدى الإدارات المغربية الشقيقة! نعم! في بلدنا الحبيب (وأشعر بالاشمئزاز لمجرد تذكر الأمر) في الإدارات والمستشفيات حتى الكبيرة منها و المشهورة، "ما يحاشيهلك حتى واحد"، وقد يتقاذفك هذا الموظف إلى ذاك، فلا تعرف رأسك من رجليك. وتجد السكرتيرة تتكلم معك وكأنك جئت تطلب منها صدقة، أو أنك "صدعتيها فراسها"! تجد المواطنين المساكين الواقفين منهم والجالسين في حالة هستيرية من الذهول والأعصاب، هذا ذهب بعقله بعيدا في مشاكله، والآخر يحدق في الفراغ، والآخر انتفخت أوداجه حتى اقتربت من الانفجار، والآخر ينفخ قنوطا ومللا، و الآخر يسيل عرقا... وكأنك في سجن اختياري، أو في "السخون" ديال شي حمام! الكل ينفث نيران الغضب. لما كل هذا الطي للضلوع؟ لما كل هذه السادية؟ ولماذا إداراتنا حتى الشبيهة في رونقها وتصميمها وتجهيزها بالإدارات الأوربية مليئة بأناس ليسوا في مستوى رونق و جمال تلك الإدارة؟ إن المشكل بنيوي؛ فالحداثة ليست قشورا وزجاجا وناطحات سحاب، بل هي تنمية في البشر تنمية بالعلم والمعرفة فتنعكس على معاملاتنا حتى ولو كانت الإدارة مجرد جدران ومكتب عليه موظف، فإنك ستخرج من عنده مرتاحا. إنه إذا غابت الطاقة البشرية المحركة للأفعال والإرادات، فابنوا وعلوا وحدثوا كيفما شئتم فلن تصلوا إلى التقدم والحضارة لأن التقدم والحضارة يظهر في السلوك وليس في القشور. حضارة الشعوب تظهر في المواطن الذي لا يرمي الأزبال في الشارع بل في القمامة، والذي يحترم شارات المرور، والذي يكون متحضرا في الشارع والمقهى، والذي يحترم الطابور في الإدارة وفي الدكان وأثناء ركوب القطار والحافلة... تلك هي الحضارة ليس قطارات جميلة وحافلات جديدة وإدارات بواجهات زجاجية... فإذا كان "حكل الراس" هو من يسيرها أو يستعملها فأذن بخراب عاجل وقريب. وخير مثال على ذلك الحافلات تجلب من أوربا حديثة وفي بضع أشهر يعمها الخراب والفوضى! إن الحداثة عمق وسلوك وليس كلام وقشور. فشتان إذن مابين الواجهات الفارهة والخادعة ومضامينها وفعاليتها وحقيقتها. لذلك فإنه يمكن أن تتناول غذاءك أو قهوتك الصباحية في إحدى المقاهي الفرنسية البسيطة وأنت تحس بنفسك كالملك. بينما تستطيع أن تحظى بمعاملة أقرب إلى التهميش واللامبالاة والإهانة وأنت في أفخم المطاعم أو المقاهي المغربية... فما رأيكم؟ وهل أنتم متفقون مع هذا الكلام! أم أنني أعيش في السويد!