خلف تواري مؤسس حزب الأصالة والمعاصرة فؤاد عالي الهمة عن الأنظار في الفترة الأخيرة التي استمرت أكثر من شهرين، حالة من الانقسام في الجسم التنظيمي لهذا الحزب الوليد، الذي تصدر في فترة وجيزة المشهد الانتخابي في البلاد، وتحول من المشاركة في الحكومة إلى المعارضة، وأصبح العدو اللدود لحزب العدالة والتنمية، بعد أن نجح في تطويع حالة الرفض التي قوبل بها من طرف الوسط السياسي مباشرة بعد الإعلان عن مراسيم ولادته . وإذا كان الحزب استطاع أن يفرض هيمنته ويشكل أكبر كتلة انتخابية بالاستناد إلى الأعيان الذين يملكون نفوذاً تاريخياً في دوائرهم الانتخابية، فإنه وجد نفسه هدفاً سهلاً لطلقات الخصوم السياسيين، بعد أن فضل فؤاد عالي الهمة التراجع، ولو تكتيكياً، إلى الوراء، وضبط إيقاع الحزب على ماكينة أخرى، تسير وفق دورة الزمن السياسي في البلاد، وأيضاً الدفع قدماً بالتوجه الذي يذهب في اتجاه فصل الحزب عن الأشخاص مهما كانت رمزيتهم أو ثقلهم المعنوي والمادي في مؤسسات الدولة أو المال أو غيرها . هذا الابتعاد المؤقت أو المفروض، يتساوق أيضاً، مع نجاح الحملة الإعلامية التي يقودها خصوم الحزب وخصوم عالي الهمة على وجه التحديد في الخارج، من خلال التأكيد إيحاءاً أو تصريحاً للمؤسسات الدولية العاملة في مجالات حقوق الإنسان والشفافية والحوكمة الجيدة، أن مشروع حزب الأصالة والمعاصرة ما هو في نهاية المطاف إلا مشروع عالي الهمة السكرتير السابق في الداخلية، والمعروف ب “صديق الملك” . وذهب هؤلاء الخصوم إلى حدود التصريح بأنه شفافية العمل السياسي تقتضي ألا تتدخل الدولة في تفصيل الخريطة السياسية أو فبركتها، وأن عليها أن تلتزم الحياد مع جميع اللاعبين السياسيين . وبالتالي جرى الربط بين مسلسل الانتقال الديمقراطي الذي انطلق مع الملك محمد السادس، وإشراف الهمة نفسه في تصفية تركة الماضي من العمل التحضيري الذي بوشر في السابق مع هيئة الإنصاف والمصالحة التي قادها الراحل إدريس بنزكري، بدفع قوي من محمد السادس لطي صفحة الماضي الحقوقي . وهناك اليوم، أصوات في المحافل الحقوقية الدولية، روج على أن وتيرة الإصلاح السياسية في المغرب عرفت تراجعاً مباشرة بعد أن أسس صديق الملك حزباً سياسياً هو الأصالة والمعاصرة، وأنه ما كان له أن يقدم على هذا، لولا أنه تلقى أوامر بهذا الشأن، وبالتالي تذكر هذه المحاولة الجديدة، بمحاولة سابقة عليها كان عرفها المغرب مباشرة بعد حصوله على الاستقلال من خلال تأسيس حزب أطلق “الجبهة للدفاع عن المؤسسات الديمقراطية”، التي أسسها المستشار الملكي الراحل أحمد رضا اكديرة سنة ،1963 في وقت كانت تعيش فيه المؤسسة الملكية صراعاً مفتوحاً مع الحركة الوطنية . ولكن شتان بين الأمس واليوم، ففي مغرب اليوم لا يوجد من هو خارج الإجماع على مشروعية المؤسسة الملكية من جميع الفرقاء السياسيين بما فيهم اليساري والإسلامي، مضافاً إليهم حركة العدل والإحسان، التي سكتت منذ رسالة “الطوفان” عن الخوض في هذه المسائل، واكتفت بالعمل في صمت لفائدة ما تعتبره مشروعها الإسلامي، من دون أن تنزلق إلى مواجهات مفتوحة مع الدولة، بعد أن وعت جيداً أن أي استعراض للقوة لن يكون في صالحها . في الجهة الأخرى لا يبدو أن تضرر صورة المغرب يمكن أن يفيد أي طرف في الداخل، لأن ذلك من شأنه أن يكبد خسارات للجميع ويضيع الوقت في قضايا ثانوية، في حين أن المؤسسة الملكية عبرت عن إرادتها هي نفسها، على أنها لا يمكن لها أن تعمل إلا بتشارك الجميع، وأن التأهيل الديمقراطي عليه أن يشمل الجميع، بما فيها البنيات الحزبية المتهالكة للأحزاب، والتي أصبحت جزءاً من الماضي . دستورياً، يكفل الدستور المغربي الحق للجميع في تأسيس النقابات والجمعيات المدنية والأحزاب، بما فيهم من كان في مهام رسمية أو في ضمن دائرة رجال السلطة، غير أنه في حالة فؤاد عالي الهمة المعروف بشبكة علاقاته القوية داخل الأخطبوط الحزبي المغربي، ظل الجميع يريده أن يبقى في موقع الرجل الذي يشكل صلة وصل وحاملاً لمفاتيح الحلول . وحتى أشد خصومه السياسيين، حين يوجهون النقد لحزبه يفصلون بين الهمة رجل الأخلاق الحميدة والفضائل، والشخص السمح والطيب، وبين ما أقدم حين دخل إلى الملعب السياسي بحزب لا ينافس فقط، ولكنه يتصدر الخريطة الانتخابية، وهذا ما جعل حزب العدالة والتنمية يشيع أن حزب فؤاد عالي الهمة، أو الهمة نفسه استعمل إمكانات الدولة من أجل تصدر الخريطة الانتخابية . ولذلك يبدو أن هذا التواري عن الأنظار، ووضع مسافة مع الحزب تترك الفرصة لمن يتولون قيادته في الفترة الراهنة تدبير خلافاتهم ومآزقهم التنظيمية، بعيداً عن تدخل الهمة المباشر، يكون أحد أهداف “خلوته” الفردية، التي قد تصبح حالة دائمة تكرس لابتعاد ممنهج، والعودة إلى أكناف الداخلية أو إلى مسؤوليات حكومية أكبر في الآفاق المصيرية التي هي مقلبة عليها قضية الصحراء في ظل مقترح الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب للأمم المتحدة . على مستوى آخر، يبدو أن هناك تهديداً بانفجار صراعات أكثر حدة داخل الحزب مع قرب التحضير للانتخابات المقبلة، باعتبار القادمين من صفوف الأعيان والأحزاب الصغيرة، يخشون من أن يجدوا القرار المتعلق بهذه الانتخابات منفلتاً منهم وفي يد خصومهم الداخليين، ومنهم من يخشى الاستبعاد، ومنهم من بدأ من الآن فتح جسور مع أحزاب أخرى، خصوصاً بعد تصريح يفيد أن الأصالة والمعاصرة لا يهيئ نفسه للأدوار الأولى سنة ،2012 لكن هؤلاء يشعرون في الوقت نفسه أنهم قوة هذا الحزب، وأنهم قادرون على هزم خصوم لم ينسوا أنهم كانوا يساريين، وأن شعاراتهم التي رفعوها في السابق حول العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة، قد تكشر عن أنيابها بين فينة وأخرى مع هؤلاء “محترفي السياسة”، الذين دفعوا الدولة نفسها إلى إبرام هدنة معهم، بينما لا يتورع رفاقهم في التجربة ذاتها عن المطالبة ب “اعتذار” من الدولة صريح . وكأن لسان حال الأعيان يقول، كيف لنا العمل مع هؤلاء تحت مظلة حزبية واحدة؟ مدن الصفيح والتطرف الديني منذ الآن بدأ النقاش حول نجاعة السياسة المتبعة في المغرب في الحد من أحزمة البؤس المتجلية في مدن الصفيح الجاثمة على هوامش المدن المغربية الكبرى، والتي تحولت إلى حالة اجتماعية مقلقلة، تنتج كل مظاهر الانحراف والتطرف، وتساهم في خلخلة السلم الاجتماعي الذي انخرط فيه المغرب . فمن بين حوالي 2000 معتقل إسلامي جرى التحقيق معهم منذ أحداث2003 الإرهابية، بينت التحقيقات أن أصولهم الاجتماعية تنتمي إلى الفئات الفقيرة المعدمة المقيمة في مدن الصفيح عن الدارالبيضاء والرباط وأغادير وغيرهما من المدن المغربية التي تفرخ في أحشائها أو حواليها مدناً موازية خارجة عن الضبط الأمني والتوجيه الديني، وهو ما أدركته مبكراً الجماعات الدينية المتطرفة التي تغلغلت بسرعة داخل هذه الأحياء الفقيرة، بعد أن قدمت الجواب السهل لهؤلاء الفقراء والمحرومين، والكامن في كلمة “الجهاد” . وربما يجد شعار “مدن بدون صفيح” الذي شرع في تطبيقه منذ عقد من الزمان، نفسه أمام المساءلة والتقييم، بعد أن ظهرت لوبيات العقار، التي لم تعد تتحكم فقط في طريقة تدبير الوعاء العقاري في المدن المستهدفة، بل أصبحت تمارس ضغطاً قوياً على سوق العقار، مما يجعل مشروع القضاء على مدن الصفيح بعيد المنال في ظل الفوضى التي تتسم بتدخل متدخلين في الدولة وفي القطاع الخاص . وتنطلق الدولة من أن السكن من ضمن أولويات البرنامج الحكومي، حيث تسعى الحكومة إلى توفير السكن الملائم للمواطن، باعتباره ركيزة من ركائز ضمان الاستقرار والأمن الاجتماعيين . كما عملت ولا زالت تعمل، على محاربة السكن غير اللائق، إدراكاً منها لما يشكله من تهديد لتماسك وتوازن النسيج الاجتماعي، ولكونه مصدراً لظواهر الإحباط والإقصاء والتطرف . وكان محمد السادس دق ناقوس الخطر في خطبه، حيث نبه إلى خطورة انتشار السكن الصفيحي والعشوائي . ودعا إلى اعتماد برنامج وطني تضامني مضبوط المسؤوليات، للقضاء على هذا النوع من السكن . وبإطلاق 96 مشروعاً لإنجاز 000 .265 وحدة سكنية دخلت الحكومة جدياً في مواجهة السكن العشوائي بجميع أشكاله، بدءاً بأحياء الصفيح والسكن العشوائي والدور المهددة بالانهيار والسكن المتقهقر في الوسط القروي . وركزت عملها على ثلاث واجهات: إيقاف النزيف، إصلاح الأوضاع القائمة وتكثيف العرض الملائم . ولوقف بناء السكن العشوائي، استصدرت الحكومة دورية تحمل إمضاءات وزير الداخلية، وزير العدل ووزير السكنى، ووجهتها إلى العمال والولاة ورؤساء البلديات والجماعات المحلية والوكالات الحضرية . كما قدمت وزارة السكنى للأمانة العامة للحكومة 13 مشروع قانون ستصدر تدريجياً حسب الأولويات . وذلك بهدف تحسين المردودية القانونية والاندماج القانوني وتجريم المخالفات في مجال التعمير والبناء . وتنظيم مهنة المهندس المعماري . وفي إطار البرنامج الحكومي “مدن بدون صفيح”، الرامي إلى إنتاج 100 ألف وحدة سكنية سنوياً، اتخذت مجموعة من التدابير، منها على الخصوص، تعبئة الأرصدة العقارية التابعة للدولة، لفائدة السكن الاجتماعي . وسخرت لهذا العرض ما يقارب 4000 هكتار من أملاك الخزنية كشطر أول، سيتم تعزيزه بحوالي 2700 هكتار من أراضي الجموع . لكن الأهم في كل ذلك هو إصدار قانون يجرم التشجيع على إنشاء دور الصفيح، في الوقت الذي اقتيد العديد من رجال السلطة والمنتخبين إلى المحاكم بتهم استصدار أذون بالبناء دون الخضوع للإجراءات المتبعة ولا لتصاميم التهيئة، في خرف سافر يساعد على النمو الصاروخي لمدن صفيح جديدة تنتج كل المظاهر السود في المجتمع . ولعل في خروج انتحاريين من أحياء فقيرة في الدارالبيضاء، مؤشر للدولة على أن مدن الصفيح لا تنتج الجريمة والانحلال الأخلاقي فقط، ولكنها تعد منجماً غنياً لإنتاج التطرف وتشجيع الإرهاب، وهذا هو الأخطر على الإطلاق على أمن الدول واستقرارها الاجتماعي . فقد بينت الأصول الاجتماعية أن أغلب المتورطين في الخلايا الإرهابية التي يجري تفكيكها في البلاد بين الفينة والأخرى، هم من الطبقات الاجتماعية المسحوقة، وتحديداً من العاطلين ومن متوسطي التعليم الذين يعيشون وضعاً بائساً في أحزمة البؤس، وتتقوى في دواخلهم نزوعات انتقامية، مما يسهّل استقطابهم للتنظيمات المتطرفة التي تزرع في نفوسهم بدائل أخرى دموية .