الملك محمد السادس يؤدي صلاة عيد الفطر بمسجد أهل فاس بالرباط    الاقتصاد المغربي ينمو بنسبة 3.7% خلال الفصل الرابع من سنة 2024    مارين لوبان تمنع من الترشح لخمس سنوات    إيقاف خط جوي مع طنجة يُثير غضب ساكنة ورزازات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    ست حالات اختناق بسبب غاز أحادي أكسيد الكربون ليلة عيد الفطر    مرشد إيران يتوعد ترامب ب"رد حازم"    نتنياهو يعين رئيسا جديدا ل "الشاباك"    نبيل باها: الانتصار ثمرة عمل طويل    مصدرو المواشي الإسبان يشتكون من انخفاض الصادرات إلى المغرب    ارتفاع الذهب لمستوى قياسي جديد    أجواء مهيبة في صلاة العيد بسلا    منظمة الصحة العالمية: زلزال بورما حالة طوارئ من أعلى مستوى    عفو ملكي عن الشخصية اللغز عبد القادر بلعيرج المحكوم بالمؤبد    وكالة بيت مال القدس تتوج عمليتها الإنسانية الرمضانية في القدس بتوزيع 200 كسوة عيد على الأيتام المكفولين من قبل المؤسسة    القضاء الفرنسي يدين زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن باختلاس أموال عامة    الملك محمد السادس يتوصل بتهانئ ملوك ورؤساء وأمراء الدول الإسلامية بمناسبة عيد الفطر المبارك    أمير المؤمنين يؤدي صلاة عيد الفطر بمسجد أهل فاس بالرباط    كان محكوما بالمؤبد.. العفو الملكي يشمل بلعيرج    الملك محمد السادس يؤدي صلاة عيد الفطر المبارك بمسجد أهل فاس بالمشور السعيد بالرباط    كأس العالم لسلاح سيف المبارزة بمراكش: منتخبا هنغاريا (ذكور) والصين (سيدات) يفوزان بالميدالية الذهبية في منافسات الفرق    مزاعم جزائرية تستوجب رد مغربي صريح    جلالة الملك يصدر عفوه السامي على 1533 شخصا بمناسبة عيد الفطر السعيد    الحرس المدني الإسباني يفكك شبكة لتهريب الحشيش من المغرب عبر نهر الوادي الكبير ويعتقل 23 شخصًا    ترامب سيزور السعودية منتصف مايو المقبل    منتخب الأشبال يقسو على أوغندا بخماسية في مستهل كأس إفريقيا    صفقة ب367 مليون درهم لتنفيذ مشاريع تهيئة وتحويل ميناء الناظور غرب المتوسط إلى قطب صناعي ولوجستي    وزارة التعمير تفتح باب الترشيح لمنصب مدير الوكالة الحضرية للناظور    طنجة.. شاب ينجو من الموت بعد سقوطه من الطابق الثالث ليلة العيد    مطالب لربط المسؤولية بالمحاسبة بعد أزيد من 3 سنوات على تعثر تنفيذ اتفاقية تطوير سياحة الجبال والواحات بجهة درعة تافيلالت    ترامب لا يمزح بشأن الترشح لولاية رئاسية ثالثة.. وأسوأ السينايوهات تبقيه في السلطة حتى 2037    آسفي تبلغ ثمن نهائي كأس العرش    فريق إحجاين بطلاً للدوري الرمضاني لكرة القدم المنظم من طرف جمعية أفراس بجماعة تفرسيت    ادريس الازمي يكتب: العلمي غَالطَ الرأي العام.. 13 مليار درهم رقم رسمي قدمته الحكومة هدية لمستوردي الأبقار والأغنام    نقابة تدين تعرض أستاذة للاعتداء    المرجو استعمال السمّاعات    ما لم تقله "ألف ليلة وليلة"    إشباع الحاجة الجمالية للإنسان؟    لماذا نقرأ بينما يُمكِننا المشاهدة؟    طواسينُ الخير    كأس إفريقيا U17 .. المغرب يقسو على أوغندا بخماسية نظيفة    "كان" الفتيان.. المنتخب المغربي يمطر شباك أوغندا بخماسية في أولى مبارياته    حظر مؤقت لصيد الحبار جنوب سيدي الغازي خلال فترة الراحة البيولوجية الربيعية    المعهد العالي للفن المسرحي يطلق مجلة "رؤى مسارح"    الاتحاد الإسلامي الوجدي يلاقي الرجاء    الموت يفجع الكوميدي الزبير هلال بوفاة عمّه    دراسة تؤكد أن النساء يتمتعن بحساسية سمع أعلى من الرجال    منظمة الصحة العالمية تواجه عجزا ماليا في 2025 جراء وقف المساعدات الأمريكية    انعقاد الدورة الحادية عشر من مهرجان رأس سبارطيل الدولي للفيلم بطنجة    تعرف على كيفية أداء صلاة العيد ووقتها الشرعي حسب الهدي النبوي    دراسة: النساء يتمتعن بحساسية سمع أعلى من الرجال    نقاش "النقد والعين" في طريقة إخراج زكاة الفطر يتجدد بالمغرب    الكسوف الجزئي يحجب أشعة الشمس بنسبة تقل عن 18% في المغرب    هيئة السلامة الصحية تدعو إلى الإلتزام بالممارسات الصحية الجيدة عند شراء أو تحضير حلويات العيد    أكاديمية الأوسكار تعتذر لعدم دفاعها وصمتها عن إعتقال المخرج الفلسطيني حمدان بلال    على قلق كأن الريح تحتي!    تحذير طبي.. خطأ شائع في تناول الأدوية قد يزيد خطر الوفاة    رحلة رمضانية في أعماق النفس البشرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تلك الابتسامة
نشر في مرايا برس يوم 27 - 06 - 2010

ينتهي الدوام بين الساعة الثالثة والنصف والرابعة والنصف. يختلف الأمرُ بين مَن بدأ العمل على الساعة السابعة والنصف، أم الثامنة والنصف.
التدخين ممنوع في محيط المدرسة. هكذا!
مدرستنا، أو بالأحرى مجموعة المدارس هذه، مؤلفةٌ من روضة أطفال وابتدائية وإعدادية ومركز تدريس للمتوحّدين وذوي الاحتياجات الخاصة. في الأخير أعملُ أنا.
أوّل أيامي في العمل دخّنت مع بعض زملاء الشغل في الغابة القريبة. لكنّ ضياع أكثر ما يسمونها هنا "الاستراحة الكبيرة" في الذهاب إلى الغابة والرجوعِ منها، جعلني أُقلع عن التدخين في الدوام. لكن ما إنْ أستوي في جلستي خلف المقود في السيارة، حتى أستلّ السيجارة. بل كثيراً ما تكون السيجارة قد توضعتْ خلف أذني وأنا في الطريق، كي لا يستغرق إخراجُ الباكيت من الجيب أو المحفظة ثم استلال السيجارة وقتاً. حتى في السيارة يحسّ المرءُ بالحرج من أنْ يدخن، لأن مرآب السيارات غير مفصول عن باحة المدرسة الوسيعة، وأيضاً لأن المجتمع "النرويجي" بات ينظر للمدخنين على أنهم غربيون بلا إرادة، وأنهم يلوّثون البيئة. وما أداراك ما البيئة لدى النرويجيين! إنهم أبناء الطبيعة.
لم يكن اليوم استثنائياً. شغّلتُ السيارة. أشعلتُ سيجارتي، وأحسستُ على الفوربدوخة وُرود النيكوتين إلى الدماغ بعد غياب ساعاتٍ طويلة.
الطريقُ تلتفّ حول هضيبات عديدة، ثم تستقيمُ كيلومترات عدّة، لتعود إلى الالتفاف بمنعطفاتٍ حادّة حول التِلاع. ما إن استقام الطريقُ حتى لمحتُ من على البعد امرأةً في موقف الباص، تلوّح بالإشارة التي تعني أنها ترغب بنقْل مجاني. كان نهرُ السيارات يمرّ دون أن تنْزاح منه أيّ سيارة إلى الجانب، لتتوقفَ هناك. من هنا صممتُ إذا ما وصلتُ إلى موقعها، ولم يكن أحدأ قد فعل، سأُقلِّها.
ما إن رأتْ هي الإشارة تَتَغامز من سيارتي حتى تأهبتْ، وحملت حقيبة ظهرها من الأرض. فتحتْ باب السيارة ولفظتْ بآلية "مركز المدينة". هززت رأسي إيجاباً تماماً في اللحظة التي التقتْ فيها عيوننا. ارتدّ شيء في جسدِها، وعلى ملامحها غاضتِ الابتسامة الآلية، ليحل محلّها تعبير غامضٌ. ترددتْ للحظات، ثم تركتْ جسدها يهبط على المقعد حاضنةً حقيبتها.
لم تلقِ تحيةً. ولم أبادرْها بالتحية. ثمة كائن خبيثٌ في داخلي كان يقول أنتَ من تقدّم الخدمة؛ فعليها هي أن تبادر بالسلام. لم تفعلْ. ولم أفعلْ.
مضتْ بضع ثوان من صمتٍ محمول على حفيف العجلات، حين شرعتْ تُلملم نفسها وحقيبتَها في زاوية المقعد البعيدة. كان واضحاً أن جسدَها لا يريد اقتراباً من هذا الأجنبي. مرات ومرات يتحرك جسدُها مكتسباً ولو أنملة أبعدُ.
أنا معتاد على السياقة بيد واحدة، اليد اليسرى. وكانت يمناي كما هي العادة تستريحُ على علبة لحفظ الأشياءِ الصغيرة خلف ذراع التبديل. ذراعاي مكشوفتان، فالوقتُ صيف. بشرةٌ بنّيّة وشعرٌ نابت. وعلى بعد نصف ذراع تحضن هي حقيبتها بقوة، وساعدها البضّ خالٍ من الشعر تماماً.
بماذا تفكر هي الآن؟ مؤكد أنها تهمس في داخلها تلك الكلمة "إبليس!" والتي يقولها النرويجيون للتعبير عن نفور كبير.
"إبليس أجنبي" لعلّها تردد هذه الجملة في داخلها الآن.
عمداً بدأ جسدي استعراضه بهدوء ثقيل.
تناولتُ السيجارةَ الثانية من قلب العلبة دون أُخرجها من جيب الصدر. أشعلتُها. نفثتُ. وتركت السيجارة هناك معلقةً بين شفتي. تدخين محترف. يروقُ لي أن أفعل ذلك. ورحت أفكر بهذه التي تنزوي في الكرسي المجاور كما لو أني شيئاً متوحشاً.
إنها وبالتأكيد تقول في نفسها الآن "إبليس أجنبي". ليتها تقولها علناً. ليتهم يقولونها علناً. شعبٌ صموت.
لو أنني كنت جالساً على مقعدٍ عادي لا مقعد سيارة، لشرعتْ ساقاي في الحركة الاهتزازية المتسارعة عالياً سافلاً من شدة التوتّر. تعويضاً راح أبهامي يلعّب الخاتم ذا الحجر الكبير في بنصري. ولعلها الآن وهي تراني أفتّل الخاتم تقول في سرها "يا للذوق! ابليس ياخذكْ"
كلما انعطفتُ بالسيارة أسرق النظر، فأراها تنظر إلى الأمام دون رفّة رمش ودون تعبير.
أَتتنفسُ؟
حاولتُ أن أسمع صوتَ تنفّسها عبثاً. لا شعورياً رحتُ أنفث الدخان بصوت مسموع، وأتنفّس بصوت مسموع. رحت أحسّ أنني أحاصرها وأحتل كل المكان، بينما هي تنكمش وتنكمش.
لن أقولَ كلمةً واحدة إن لم تبادر. وهي لن تبادر. ستظل متكومةً على نفسها تأخذ نفساً سطحياً وتتظاهر بالتحديق بالطريق وبالأشجار المارة بنا خطفاً، وتهمس في داخلها "إبليس أجنبي". وسأظل أنا أكتم على أنفاسِها وأتمدد في فضاء السيارة مثل أخطبوط منتقماً مما تضمره، وما تقوله بالتأكيد سراً "ابليس أجنبي".
أعدت مقعدي إلى الخلف من غير حاجة وبمخاطرة أن ينزلق المقعد إلى المدى الأقصى، فأفقد توازني وتفقد السيارةُ توازنها. أنزلت كلّ جامات البلور في النوافذ، فراح الهواء يلعب. وشرع شعرُها يتطاير في كل الاتجاهات. أحسست أنني أملأ السيارة بضغطي عليها وأفيض أكثر وأكثر. أحسست بأن لي يداً في تلاعب الهواءِ بشعرها وفي مضايقتها. أحسستُ برغبة في تلمّس عنقها والضغط عليه قليلاً بينما تجحظُ عيناها من الرعب، وتدرك للتوّ أن عليها ألا تهمس في داخلها "ابليس أجنبي".
دخلنا المدينة وصار الأمر يتطلب انتباهاً أكثر ومع ذلك رحتُ أسوق سياقةً متهورةً بعرف هذه البلاد.
هم هادئون. يتحركون ببطء مثير للغضب.
وهي مازالت على وضعها الجنيني تحضن بقوةٍ حقيبتها وتشغل أقل ما يمكن من المكان.
أكثر من سائق أعطاني إشارة تنبيه، ومع ذلك ظلتْ عجلاتُ السيارة تصدر صوتاً في المنحنيات، أو عند الإقلاع. وظلتْ تلحّ عليّ فكرةُ الدخول في رأسها ورؤية دماغها مُنْشغل الخلايا في تشكيل كلمات الشتم "يا للذوق السخيف! ابليس أجنبي. غريب..."
أوقفتُ السيارة في موقف للباص. تحركتْ هي بهدوء من يريد أن يثبت لنفسه أن الخطر زال، وأن ليس ثمة ما يزعج، أو هكذا تصورتُ. أغلقتْ باب السيارة بقدمها وهي تضع حقيبة الظهر. أكانت هذه قلّة احترام؟ أم... هكذا ببساطة... لأن يديها كانتا منْشغلتين؟
وبعد بضع خطوات التفتْ نصف التفاتة، ومن فوق كتفها وبعين مزوية نظرتْ، وأشار ت إشارة الوداع مع ابتسامة مبهمة. ابتسامةٌ ستبقى بلا تفسير. آلاف المرات أَعدتُ مشهد تلك الابتسامة محاولا فهم ماذا عنت بها. أكانت تعني امتناناً؟ تحدياً؟ رغبةً ضائعة في تعارف عابر؟ إغراءً؟ كرهاً متعالياً؟ استهانةً؟ احتقاراً؟ نفوراً؟... أكانت كل هذا أم مجرد ابتسامة؟
لو أنني لم أهرب بنظري بعيداً مُضيّعاً أثمن اللحظات في إمكانية تفسير ما كانت تفكر فيه!
تماماً حين قذفت الحقيبة إلى كتفها وأغلقت الباب بقدمها؛ في هذه اللحظة بالذات هرب نظري بعيداً.
أكنت أريد أن أظهر أنني غير مهتم؟ أكنت أريد أن أقول انْقلعي فأنا أحتقر ما تفكرين به؟ في هذ اللحظة بالذات حصلت حركةٌ ما.
الآن يُخيّل لي أنها انحنتْ على جام النافذة ونظرت إليّ وربما دمدت بشيء. ربما قالت الجملة الآلية التي يقولونها هنا " شكراً على النقْلة". ربما فعلت ذلك، وربما هو مجرد وَهْمٍ وتخيّل كاذب لحركة لم تحدث. لست متأكداً ولن أكون متأكداً أبداً، لأنني هربتُ بنظري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.