بوجمعة "الحراك" كان قصير القامة نحيفا إلى حد البشاعة أشقر الشعر يتحدث بلكنة أهل الشرق المغربي. وصل، كالعديد من شبابنا المقهور والغارق في أوهام جنة الفردوس الواقعة على الضفة الشمالية للمتوسط، إلى جمهورية بيلاروس وكله آمال وأحلام وردية مرتبطة بأوروبا والمستقبل الزاهر الذي سيمنحه إياه هذا العالم القديم. قطع مسافة، يحسده عليها رحالتنا المعروف ابن بطوطة، حيث بلغ مراده عبر مصر،آتيا من المغرب برّا، فتركيا ثم بيلاروس لينطلق منها إلى جيراننا الشماليين مخترقا حدود الدول الأوروبية الشرقية منها والغربية. كان يتحدث عن ألمانيا وفرنسا بحرارة المصاب بحمى ذهب رعاة البقر في أمريكا. وكل محاولة لإقناعه بأنّ أفكاره وهم، كان يتصدى لها بعصبية الأصولي المؤمن بامتلاك الحقيقة المطلقة. إنه كان يهذي بأوروبا الغربية هذيانا. ومرت الأيام وتبعتها الأسابيع والأشهر فالسنوات، وبدّر بوجمعة "الحراك"، أو المغامر على حد تعبيره في تلميح منه لخطاب عاهل المغرب الراحل الذي قال مخاطبا الشاب المغربي: "إني أريد شبابا مغامرا.."، كل ما كان معه من مال وبات لا يجد ما يقتات به في مجتمع لايعرفه ولا يتكلم لغته. أصبح ينام حيث يُعرض عليه ويأكل متى يُقدّم له الطعام ونسي معنى الحمام والغسيل. بقي على هذه الحال إلى أن تعرف على مجموعة ممن يطلق عليهم المغاربة مصطلح "الحراكة"، فتسكع معهم ما شاء قدره وشرب من الكحوليات ما استوعب جسمه النحيف الهزيل، لكن الحلم بأوروبا الغربية لم يفارقه ولو برهة. لقد كان يطلق العنان لأحلامه جهرا كلما شرب كأسا أو كأسين من المشروب الروحي الروسي التقليدي. وكان رفاقه في التعاسة يشاركونه هذه الأوهام ما لم يتخدر دماغهم ويغيب تحت تأثير مفعول الفودكا فيغرقون في سبات عميق كذاك الذي تنعم به بلداننا. عبد النبي "الزعيم" نزل من القطار، الواصل من موسكو إلى العاصمة منسك، وعيناه محمرتان من تأثير ليلة قضاها في شرب الكحول مع روس تعرف عليهم أثناء رحلته. وعبد النبي "الزعيم" شاب في منتصف عقده الثالث متوسط القامة بدين مع بعض الإفراط، لُقّب ب"الزعيم" ليس لأنه كان يتزعم حركة "الحراكة"، فهذه الأخيرة لا تعترف بقيادة أحد، وإنما تسميته هذه من قبل أصدقائه ناتجة عن جرأته التي تصل بعض الأحيان إلى حد الوقاحة. فكلمة "الزعيم" في اللهجة المغربية تعني "المقدام". توجه نحو محطة سيارات الأجرة، امتطى إحداها وطلب من السائق أن يسرع به إلى العنوان الذي ذكر له. دق الجرس ما لا يقل عن خمس أو ست مرات دون أن ينفرج الباب أمامه. همّ بالانصراف، معتقدا أنه قد يكون أخطأ العنوان، عندما سمع حركة متثاقلة من الداخل، ثم صوت أقدام تقترب من الباب في كسل شديد مرفوقة بشتم ولعنات في حق عديم الأخلاق والدم الذي يُصحّي الناس في مثل هذه الساعة من الصباح. أخيرا فُتح الباب وظهر صاحب اللعنات شبه عاري منتفخ العينين، من أثر النوم أو السكر، مصفرّ الوجنتين. * آش من صباح يا الحمار.. هذي التناش دالنهار.. (أيّ صباح يا حمار.. الساعة الآن الثانية عشر زوالا) * الزعيم.. أنهار كبير هدا ألموسكوفيتش.. أدخول.. ("الزعيم".. هذا يوم عظيم أيها الموسكوفي.. تفضل) عانقا بعضهما البعض بحرارة ورحب صاحب البيت بضيفه العزيز واعتذر له عن اللعنات والشتائم، كما شرح له أنه قضى ليلته، كما هي العادة، في شرب "البيضة" (المقصود الفودكا وليس البيضة) وأنه لم ينم إلا في الساعة الخامسة صباحا وأنّ رأسه ستنفجر إن لم يشرب كأسا حالا. ضحك "الزعيم" وفتح حقيبته وأخرج منها زجاجة فودكا قائلا: * جاي وجايب معيا دواك.. (لقد حضرت وأحضرت معي دواؤك) ضحكا مرة أخرى وانتقلا إلى الغرفة الوحيدة بالشقة، حيث كان الباقون نائمين. أيقدهم بركلات: * فيقو يالحراكة الزعيم وصل بالفودكا ديالو.. فقو يا السكايرية.. (اصحوا أيها المقيمون غير الشرعيين.. فالزعيم وصل وأحضر معه الفودكا.. اصحوا ..أيها السكيرون) استيقظ بوجمعة أولهم وقام متثائبا ليعانق الضيف، ثم استيقظ الباقون ورحبوا بصديقهم القادم من موسكو. وبعد أن رتبوا غرفة النوم، وهي نفسها غرفة الأكل والاستقبال، جلسوا على مائدة الخمرة يشربون نخب صديقهم الواحد تلو الآخر سعداء بوصوله حقيقة لا مجاملة. وبعد أن ثمل بعض الشيء أخبرهم القادم أنّ موسكو باتت جنة وأنه لا حاجة لهم للمغامرة والمخاطرة بأنفسهم في محاولة لعبور الحدود البيلاروسية – البلاندية بشكل غير شرعي. وأخبرهم بأن فرص العمل أصبحت متوفرة بها ويمكن الكسب فيها أحسن من الدول الغربية، لذلك وصل إليهم ليأخذهم معه. لاح بريق في عيونهم ينم عن استعدادهم للسفر معه قبل أن تخلص زجاجة الفودكا، لكنه طلب منهم حلمهم عليه فهو يريد أن يستمتع بمناظر منسك وجمال بنات منسك الذي سمع عنه الشيء الكثير. ضحكوا جميعا وأتوا على الزجاجة الأولى لتحل محلّها الثانية والثالثة فالرابعة.. موسكو أبهرتهم العاصمة الروسية بجمالها ومعالمها الأثرية وأسحرتهم الساحة الحمراء ومركزها التجاري وظلوا لساعات طوال يجوبون شوارع موسكو غير عابئين بالتعب ولم يُجبرهم على العودة إلى السكن الطلابي، حيث كان يقيم "الزعيم"، إلاّ رجال الشرطة الذين كان شكلهم يوحي بأنهم خرجوا للصيد كالطيور الجوارح بحثا عن فريسة من فصيلة المهاجرين غير الشرعيين. لبثوا بالسكن الطلابي، الذي لم يسلم هوالآخر من غارات الشرطة عليه بحثا عن الضحية، ما يقرب عن شهر كامل لا يغادرون غرفتهم إلا لقضاء حاجتهم وبحذر شديد وكأنهم أعضاء الحزب الشيوعي المغربي أيام الحسن الثاني. ولا أحد يعلم كيف سلموا من غارات الشرطة المتتالية على السكن. مرت الحملة بسلام وخرجوا بعد شهر للشارع طالبين مصدر رزق. ولم يطل بهم الطلب، فقد وجدوا عند أول مخزن لبضائع الجملة ما استهدفوه من سفرهم إلى العاصمة الروسية. حمّلوا ثلاث شاحنات كاملة بكراتين السجائر طيلة اليوم وحصّلوا على ثلاثمائة دولار فرحوا بها أشد الفرح الذي لم يكتمل مع أول دورية شرطة صادفتهم في طريق العودة، حيث اضطروا لاقتسامها معها كي تخلي عن سبيلهم. وتكررت العملية عدة مرات قبل أن يفهموا أن الدورية تراقبهم ولا تتعرض لهم إلا في آخر يوم عملهم عندما يكونوا قد قبضوا ثمن تعبهم. بوجمعة "الحراك" مرة أخرى طُرق باب غرفتهم بقوة فاعتقدوا في البداية أنه بوجمعة "الحراك" الذي بات ليلته خارج السكن، لكنهم سمعوا أصواتا غريبة لم يتبيّنوا أصحابها لذلك ارتعشوا خوفا من أن تكون الشرطة جاءت لاعتقالهم. وبعد أن تغلبوا على خوفهم وتمالكوا أنفسهم بعض الشيء توضّح لهم أنّ الأصوات الغريبة تنطق الدارجة المغربية ففتحوا باب الغرفة ليجدوا بعض الطلبة المغاربة برفقة شخصين من السفارة يسألونهم عن الإسم العائلي لبوجمعة الحراك. وبعد أن أجابوا بالنفي سألوا بدورهم عن السبب وعن صديقهم، فأخبروهم بأنه فارق الحياة ليلة البارحة إثر طعنات بسكين تلقاها من شخص أو أشخاص مجهولين وأنّ السفارة تريد معرفة إسمه بالكامل لتخبر أهله بالمغرب حتى تبعث بجثته إليهم بعد أن يتعهدوا بدفع تكاليف النقل لأن السفارة لا ميزانية لها تسمح بذلك. هكذا لقي حتفه شاب مغامر بديار الغربة عاش غريبا في أرضه وتوفي غريبا في بلاد غيره ودفن بين أموات غرباء عنه دون أن ينال مراده من أرض المهجر ونصيبه من الحياة.