الحركة الأمازيغية بالمغرب مثلها مثل كل الحركات القومية في العالم لها قضية تدافع عنها وشعور بالاضطهاد أو التهميش تعبر عنه بطرق مختلفة وفاعل سياسي واحد على الأقل تشير إليه بأصبع الاتهام لأنه هو من يقوم بفعل التهميش أو الاضطهاد. وكيفما كانت دفوعات الحركات القومية في العالم، فقضيتها تقوم على اعتبارات عرقية وثقافية محضة وقد تلبس لبوس السياسة أحيانا للاستعانة بالآليات التي توفرها السياسة من أجل المضي قدما في الدفاع عن "القضية". لكن الخطأ الذي نرتكبه عندما نتكلم عن القوميات الصغيرة أو غير المسموعة أو البعيدة عن مركز الدولة هو إغفال القوميات الضخمة أو المهيمنة أو المركزية، فنتحدث في إسبانيا مثلا بكثرة عن القومية الباسكية أو الكتلانية وننسى القومية القشتالية الإسبانية وهي الفاعل الذي يعتبر خصما ثقافيا وسياسيا للقوميتين آنفتي الذكر. في البلاد العربية يكثر الحديث عن الشعوبية الكردية والأمازيغية ولا نذكر الشعوبية العربية التي وضع أسسها شريف مكة عندما خان بلده الإمبراطورية العثمانية باسم العروبة وكرستها تبعات ثورة الضباط الأحرار منتصف القرن العشرين وتبلور خطاب بقية التيارات القومية العربية. الآن وبعد الزيارة التي قام بها مجموعة من الناشطين الأمازيغيين المغاربة إلى إسرائيل أثيرت ضجة كبيرة حول النوايا التطبيعية التي قادتهم إلى تلبية دعوة مؤسسة "ياد فاشيم" وتنظيم لقاءات سابقة مع جهات إسرائيلية. لكن هذه الزوبعة لم تقف على خلفية سوء الفهم الكبير هذا الذي بدأ يلف أنشطة مجموعة من الجمعيات الأمازيغية. إذا عدنا إلى الإرهاصات الأولى للعلاقات بين فاعلين أمازيغيين وإسرائيل سنجد وراء هذا التوجه الأمين العام للحزب الديمقراطي الأمازيغي أحمد الدغرني الذي عرف عنه حبه للجدل بكل أنواعه مما جعل بعض أفكاره المتطرفة طريفة فعلا خصوصا عندما تحدث عن إمكانية خروج الإسلام والعرب من منطقة المغرب كما خرجت ديانات أخرى في غابر الأزمان. بيد أننا في يومنا هذا نرى أن بعض الجمعيات الأمازيغية تسعى بجدية لخلق محور أمازيغي إسرائيلي ولا نجد تفسيرا لهذا السعي إلا في إحدى تصريحات الأمين العام للحزب الديمقراطي الأمازيغي الذي أعلنت وزارة الداخلية المغربية عن حله لأنه يقوم على أسس عرقية، حيث يقول: "أنا أعتبر أن أساس التعاون الفعال مع اليهود هو دراسة تجربتهم الناجحة في فرض دولتهم ولغتهم على العرب وغيرهم".. هذه الجملة تجسد ارتياح بعض الجمعيات الأمازيغية -وهي لا تمثل إلا القلة القليلة من الأمازيغيين- لتحييد الإسلام والثقافة العربية من منطقة كان يحكمها العرب المسلمون وهذا هو السيناريو الذي يتمنى هذا التيار أن يتكرر في دول المغرب حتى تصبح هذه المنطقة منطقة أمازيغية خالصة. وعوض أن يُحلَل هذا التوجه تحليلا رصينا مهما قلت رصانة بعض المدافعين عنه ارتفعت الأصوات المنددة وانطلق خطاب التخوين الذي لا يجلب نفعا ولا يدفع ضرا وهو الخطاب الذي استثنى دوما العلاقة بين السلطة السياسية في المغرب وإسرائيل إما خوفا أو طمعا، وذاك موضوع آخر. لكن مشكلة الأمازيغيين المحبين لإسرائيل هو أن إسرائيل لا تقوم سياستها لا على العاطفة ولا على الاعتبارات الرمزية ولا على التطلعات العرقية والثقافية للآخرين وإنما تقوم على مصلحة إسرائيل، ومصلحة إسرائيل تقتضي أن تكون لها علاقات طيبة مع النظام المغربي عوض أن تراهن على أحزاب صغيرة ومثقفين مشاغبين، ولهذا السبب أخطأ منتقدو الجمعيات الأمازيغية التي زارت القدس مؤخرا عندما ادعوا أن إسرائيل تحتضن تلك الجمعيات وبأن هناك محورا قائما بالفعل. العلاقة الموجودة هي علاقة مؤسسات وأفراد مع هذه الجمعيات وهي العلاقة التي توظف في إسرائيل في نطاق محدود، حيث تعتبر انتصارا لمؤسسات مثل "ياد فاشيم" المتخصصة في تاريخ المحرقة باستقطابها "لأول وفد قادم من الدول العربية" كما كررت وسائل الإعلام الإسرائيلية، رغم أن الأمر يتعلق بفاعلين جمعويين أمازيغ لا يعتبرون أنفسهم عربا. العلاقة بين بعض مكونات الحركة الأمازيغية وإسرائيل هي قبل كل شيء مؤشر على مدى نفور بعض القوميين الأمازيغ مما يعتبرونه هيمنة للثقافة الإسلامية واللغة العربية في المغرب. اليوم يجب أن نعترف أن مخلفات المطالب الثقافية للحركة الوطنية في سياق الاستعمار الفرنسي والخطاب الكارثي الذي راكمه القوميون العرب لسنوات طويلة أفرز شعورا بالإقصاء والتهميش وردات فعل متباينة، أكثرها إثارة للجلبة هو التقرب لإسرائيل. إذا كان التركيز على عروبة المغرب في أدبيات الحركة الوطنية أيام الاستعمار له علاقة مباشرة برفض الثقافة الفرنسية وبالصراع الثقافي والسياسي آنذاك، فإنه لا مبرر لبقاء هذا النوع من الإيحاءات في مغرب اليوم وهي الإيحاءات التي نجدها حتى في شعارات بعض أندية كرة القدم التي أنشأت قبل الاستقلال؛ لذلك يجب على الأحزاب والجمعيات والمثقفين الذين يعتبرون أنفسهم امتدادا للحركة الوطنية أن يصفوا موروثهم من التعصب للعروبة. أما القوميون العرب وهم يعدون على رؤوس الأصابع في المغرب فلا وزن لهم ولا حول ولا قوة. بيد أن الخطاب العروبي الذي تم استيراده من الشرق سابقا كان مدمرا بكل معنى الكلمة لأنه دخل على مجتمع لم يجمعه عرق ولا لغة ولا اتحاد قبلي، ولا تجمعه قيم سياسية علمانية حديثة كما هو الشأن في الدول الغربية، بل دين قوض منذ ظهوره في شبة الجزيرة العربية القبلية والانتماء للعرق وجعل من المعتقد أساس اللحمة عوضا عن اللغة وروابط العرق والدم. مع الأسف لم تأخذ النخبة السياسية في المغرب التعددية الثقافية واللغوية مأخذ الجد، بل استعملتها في المزايدات السياسية والانتخابية وارتكبت الحركة الأمازيغية خطأ كبيرا من جهتها عندما لم تحدد بوضوح سقف مطالبها ولم تبذل مجهودا لفتح نقاش بناء مع بقية مكونات المجتمع حول تلك المطالب، وركزت في خطابها على وضع الثقافة العربية عوض الحديث عما تتوق إليه بشأن الثقافة الأمازيغية، وهذا الوضع هو الذي نجم عنه ظهور محبي إسرائيل داخل الحركة وبالتالي الجلبة والضوضاء التي ستحول دون الحديث عن صلب المشكلة.