بقلم نورالدين بوشيخي- بعد محاكمة استمرت أطوارها لأزيد من عقدين، أصدر القضاء الهندي اليوم الإثنين حكمه في مأساة بوبال، بإدانة المتهمين الثمانية في أسوإ كارثة صناعية شهدها العالم، والتي أودت، وماتزال، بحياة عشرات الآلاف من الهنود. فقد أدانت المحكمة ثمانية متهمين، من بينهم ماهيندرا كيشوب رئيس الوحدة الهندية لشركة "يونيون كاربايد" الامريكية. وتوفي تاسع أثناء المحاكمة، وهو مساعد المدير السابق للمصنع الواقع بمدينة بوبال، عاصمة ولاية ماديا براديش (وسط الهند)، فيما توبع ثلاثة في حالة فرار، من ضمنهم وارن أندرسون الرئيس السابق لشركة "يونيون كاربايد" الامريكية. وفور إعلان المحكمة عن إدانة المتهمين، تعالت احتجاجات الناجين من الكارثة، الذين استحضروا أمام مبنى المحكمة، آلام ذكرى ليلة عصية على النسيان، مستنكرين "استهتار" المسؤولين بمأساتهم، لاسيما وأن التهم التي توبع من أجلها الأظناء لا تكفل سوى سنتين سجنا نافذة كعقوبة قصوى، وهي "الإهمال المسبب للموت واقتراف أعمال تهدد حياة وسلامة الاخرين". وكانت المحكمة العليا في الهند قد قررت عام 1996 "تخفيف" لائحة التهم في هذه القضية من "القتل العمد" إلى "الإهمال المسبب للموت"، غير آبهة بنداءات المنظمات الحقوقية وأسر الضحايا. واستمعت هيئة المحكمة أثناء المحاكمة ل186 شاهدا وأعدت 3008 وثيقة بذلك. وستصدر في تاريخ لاحق حكمها في هذه القضية التي تقاذفتها ردهات المحاكم لمدة تقارب 23 عاما. ومازال أثر المأساة يطبع المكان بعد مضي خمسة وعشرين سنة على الكارثة الصناعية، وأضحت القضية تجسد نضال سكان بوبال البسطاء من أجل انتزاع حقوقهم الأساسية من الجشع الذي طغى على شركة "يونيون كاربايد" العملاقة متعددة الجنسيات. وكانت شركة "يونيون كاربايد" الامريكية قد افتتحت عام 1969 مصنعا لانتاج المبيدات في مدينة بوبال، يحدوها الأمل في تصريف منتوجها في سوق تتسع لملايين المزارعين، غير أن المبيعات جاءت مخيبة للتوقعات، وقررت في خريف الثمانينات من القرن الماضي توقيف الانتاج. لكن الشركة احتفظت في خزانها بأكثر من 60 طنا من غاز الميثال، أحد المكونات الرئيسية لمبيد "سيفين" في التخزين، وهي كمية تفوق بكثير ما هو مسموح به حسب معايير السلامة. وبعد عملية تنظيف الأنابيب في وقت متأخر من ليلة الثاني من دجنبر 1984 ، حدث تسرب للمياه في خزان الغاز، ما أدى إلى تفاعل حراري فجر الحاوية وألقى بسحابة سامة في الهواء باتجاه الأحياء الفقيرة المجاورة للمصنع، لتبدأ رحلة الشؤم لدى سكان بوبال البالغ عددهم حينذاك أزيد من نصف مليون نسمة، ويشهدوا واحدة من أكثر الكوارث الصناعية فظاعة على الإطلاق. لقد غصت مدينة بوبال بالأموات والمحتضرين ، ولم يجرؤ أي مسؤول من "يونايتد كاربايد" بالإفصاح عن طبيعة المبيدات والمواد السامة التي تسربت من المصنع بدعوى أن ذلك ينافي أنظمة الشركة . بل إن هذه الأخيرة ذهبت، بعد مرور ثلاث ساعات على وقوع التسرب الكيماوي، إلى التقليل من خطورته والادعاء بأن الغازات "هي مجرد غازات مسيلة للدموع بمفعول مضاعف". وتجدر الإشارة إلى أن تحقيقات كشفت قبل وقوع الحادث بسنتين، عن عيوب وهفوات خطيرة في تصميم المصنع تهدد سلامة العاملين به وسكان المدينة. غير أن الشركة الامريكية لم تأبه لهذه التجاوزات في معايير السلامة، التي باتت مألوفة لدى الشركات متعددة الجنسيات ، في سبيل دعم استثماراتها وأرباحها في الدول الفقيرة. وقد قضى في الحادث ثمانية آلاف شخص ممن تعرضوا مباشرة للغازات الفتاكة، فيما أصيب 100 ألف آخرون بتشوهات وأمراض مختلفة . غير أن إحصاءات تشير اليوم إلى وفاة عشرين ألف شخص بسبب تداعيات هذه الكارثة البيئية. ومنذ ذلك التاريخ والناجون يكافحون من أجل تحقيق العدالة ، وفي الآن ذاته نما جيل جديد من الضحايا وسط بيئة ملوثة، يعانون من تشوهات وقصور حاد في التنفس ونقص في المناعة والسرطان وغيرها من الأمراض التي تستدعي دعما ماديا واجتماعيا عاجلا. واتفقت الحكومة الهندية والشركة الامريكية، بعد سنوات على الكارثة ، على تعويض مخز يتمثل في 470 مليون دولار ، كان بالكاد كافيا لتغطية نفقات العلاج الأولية للناجين لمدة خمس سنوات. وتخلت الشركة الامريكية لاحقا عن اسمها لتندمج مع شركة أخرى متعددة الجنسيات "داو للكيميائيات"، أكبر شركة عالمية في مجال تخصصها، وينأيا، بالتالي، بنفسيهما عن الفاجعة. لقد تسببت جريمة بوبال في خلق مستنقع من العذاب البشري وأرض جرداء تنخرها السموم، وتلوث مستمر للتربة والمياه والهواء، إذ تقدر كمية النفايات السامة المتبعثرة في موقع المصنع بنحو خمسة آلاف طن، مازالت تنسل عبر التربة إلى المياه الجوفية وفق دراسات حديثة. ظل الناجون من الكارثة وأسر الضحايا ، طيلة أزيد من خمسة وعشرين سنة ، يمنون النفس في أن تنصفهم العدالة يوما ما ، بأن تتحمل الشركة الامريكية مسؤوليتها في هذه الفاجعة وتعمل على تنظيف الموقع الذي مازال ينفث سمومه في بيئة المدينة ، لكن بعد الضيق ربما لن يأتي الفرج.