معمر القذافي عندما تحدث من وراء الجدار في عاصمته طرابلس قائلا: إن كان صحيحا أن الشعب لا يحب القذافي، فإن القذافي لا يستحق أن يعيش.. فهل هو يظن فعلا أن الشعب الليبي اختاره طائعا قائدا له؟ أظنه صار يصدق ما ردده على مدى أربعين عاما من أنه يمثل مواطنيه، مع أنه هو الذي وضع وسائل لحكمهم بالقوة. الآن اختلطت الأصوات وادعاء الشرعية، فالثوار يتظاهرون ويسقطون الحكومات باسم الشعب، فمن يمثل الشعب حقيقة؟ الثوار والحكومات كل يدعي الحديث باسم الشعب، ولا توجد وسيلة لفحص الحقيقة غير انتخابات عامة نزيهة، وقطعا ليس من خلال الثورات أو بيانات الحكومات. في مصر كان عدد المحتجين الذين أسقطوا حكم مبارك - ولا أقول النظام؛ لأنه لا يزال يتنفس ويحكم حتى اليوم - نحو مليون متظاهر ملأوا الميادين والطرقات المختلفة. وهذا يدفع للتساؤل: إذن.. ماذا عن رأي ال79 مليون مصري الذين لم نرهم ولم نسمعهم؟ هنا مربط الفرس؛ فالذي يغير العالم عادة ليس الأغلبية الصامتة، بل الأقلية النشطة، المثقفون والحركيون ونحوهم. المثقفون يفكرون ويقررون ما يعتقدون أنه في صالح المجتمع، يناقشون ويحرضون ويعارضون. ولأن المثقفين العرب عاشوا ردحا طويلا من الزمن مجرد كتائب خلفية، أو ديكور رسمي، أو نكتة متداولة يسخر منهم كفئة تتوهم أنها مهمة ومؤثرة.. بسبب ذلك لم يعترف بهم ولم يسمح لهم أن يكونوا فئة فاعلة. كل الأفكار التي راجت ورفعت في «الفوضى الخلاقة» الحالية هي تدوير لطروحات ثقافية سائدة منذ زمن، وليست وليدة الساعة، لكنها لم تجد آذانا صاغية في العقود الماضية. مصر البلد الذي يكتظ بالمثقفين، وبهامش جيد من حرية التعبير، دارت فيه طروحات عن التطوير والتنمية والإصلاح والتغيير ضمن هيكل النظام القائم، إلا أن تلك الأصوات صنفت على أنها لا تمثل سوى حفنة من مثقفين لا صوت لهم في الشارع. المفاجأة أن الحراك الذي أدى إلى سقوط الحكم وهز العالم عمليا قام على تلك الطروحات التي سخر منها فريق الرئيس السابق مبارك، مثل التوريث والفساد والحريات والانتخابات. الوسائل، سواء أكانت مراسلات ال«فيس بوك» أم «تويتر» أم التلفزيونات أم التجمعات الشبابية أم المظاهرات، لعبت دور الناقل والحامل لأفكار المثقفين. صحيح أن الذين تظاهروا لا يمثلون 10% من الشعب، سواء في مصر أو تونس، على الرغم من محاولات نفخ أرقام جمهور ميدان التحرير، إلا أن هذه الأقلية النشطة المحملة بأفكار التغيير وبروح متفجرة هي التي صارت تمثل الشعب حتى لو لم يخرج الشعب بقضه وقضيضه للتظاهر مؤيدا بعشرات الملايين. وحتى في ذروة الثورة والدولة تهتز صار كبار الموظفين في الدوائر الرسمية يرددون محتجين أن في مصر 80 مليون إنسان لا بضعة آلاف، غير مدركين أن التغيير يحدث دائما من بضعة آلاف وليس من الملايين الجالسة في بيوتها تتفرج على التلفزيون. لم يدركوا خطورة الفكرة وتأثير المثقفين وأن الأهمية ليست للعدد بل للإصرار على التغيير.