لم تكن احداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 هي المؤشر الوحيد لاحتدام المواجهة بين الغرب والإسلام السياسي، ولكنها قد تكون المؤشر الأخير أو الأهم، فالمواجهة ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ خصوصاً في نقاط الالتقاء بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الغربية الأوروبية، إذ إن انتهاء الوجود العربي في الأندلس كان نوعاً من المواجهة، وحروب «الفرنجة» حول «بيت المقدس» المسماة خطأ ب «الحروب الصليبية» هي نوع آخر من تلك المواجهة، لذلك فإن من العبث أن نتصور أن مراكز الالتقاء لم تكن نقاط مواجهة أيضاً بما في ذلك جزر البحر المتوسط وفي مقدمها جزيرتا صقلية ومالطة. فعلى رغم التداخل الثقافي بين جنوب المتوسط وشماله، فإن تلك الجزر وغيرها ظلت هي الأخرى نقاط التقاءٍ ومواجهة بين القوى المختلفة حضارياً، المتصارعة ثقافياً. وإذا قفزنا بعد ذلك قروناً عدة إلى ميلاد «الإسلام السياسي» المعاصر بقيام جماعة «الإخوان المسلمين» في العام 1928 في مصر على يد الإمام حسن البنا، فإننا نكتشف أن ذلك الميلاد جاء بعد سقوط الدولة العثمانية كآخر خلافة إسلامية قبل ذلك بسنوات قليلة، وهو ما يعني أن ظهور حركة «الإخوان المسلمين» قد ارتبط بانهيار الدولة الإسلامية الواحدة وكرد فعلٍ لغياب تنظيم إسلامي موحد، لذلك يهمنا في هذا السياق أن نطرح النقاط الآتية: أولاً: لاحظنا في السنوات الأخيرة وجود دراسات أكاديمية في الغرب عموماً ومقالات صحافية في الولاياتالمتحدة الأميركية خصوصاً تربط بين تصاعد حدة ما يسمّونه بالإرهاب المرتبط بالإسلام السياسي وبين اختفاء الخلافة العثمانية، وشاعت نغمة التباكي على الدولة الإسلامية التي أنهى تصفيتها مصطفى كمال أتاتورك في مطلع عشرينات القرن الماضي، وهم يقولون - في سياق الدراسات والمقالات - إن الخلافة الإسلامية كانت مظلة تحتوي العالم الإسلامي من غرب آسيا إلى الشرق الأدنى إلى شمال أفريقيا مروراً بمنطقة البلقان، وبذلك كانت هناك قوة مركزية واحدة يمكن التعامل معها والرجوع إليها، ولكن عندما سقطت دولة الخلافة تشرذمت الجماعات السياسية وانهارت السلطة الواحدة التي كانت مسيطرة على الجميع ولو اسمياً، حتى جاء ميلاد جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر في نهاية عشرينات القرن العشرين لذلك فهم يرون أن «الإسلام السياسي» مصري المولد والعقل ولكنه آسيوي العضلات والفعل، من هنا اتجهت أنظار الخبراء في الغرب إلى جماعة «الإخوان المسلمين» دون غيرها. ثانياً: إن جماعة «الإخوان المسلمين» هي الأم الأصلية التي تفرعت عنها كل تنظيمات الإسلام السياسي المعاصرة، سواء منها المعتدل أو المتشدد، المتعصب أو المتسامح، العنيف أو الهادئ، ولا يخالجنا شك في أن تلك الجماعة قد أفرخت تنظيمات متعددة على امتداد العالم الإسلامي كله تختلف درجة قوتها ومدى تأثيرها وفقاً لظروف كل دولة، وحتى التنظيمات المتهمة بممارسة ما يسمى «الإرهاب» قد انطلقت هي الأخرى من خلفية ترتبط بالجماعة وتاريخها الذي يكاد يصل إلى 85 سنة... من هنا التقطت دوائر القرار السياسي في واشنطن وصانعو التوجه الأميركي في الشرق الأوسط والعالمين العربي والإسلامي، التقطوا الخيط من هذه النقطة بعد الحادي عشر من أيلول2001 وبدأوا يكثفون متابعتهم للجماعة واتصالاتهم العلنية بكوادرها خصوصاً في مصر بعدما شعروا أن نظام الرئيس السابق حسني مبارك سيتهاوى عاجلاً أم آجلاً وأن تغييراً كبيراً في المنطقة يمكن أن يبدأ من مصر بحيث تكون فرس الرهان فيه جماعة «الإخوان المسلمين» بتاريخها الطويل وخبرتها العريضة وقربها من الشارع المصري، وقد نشطت الديبلوماسية الأميركية ومعها على الجانب الآخر قيادات إسلامية للتواصل وتشكيل رؤية مشتركة يتحدث فيها كل طرف عمَّا يمكن أن يقدمه للطرف الآخر، وقد كانت هذه الاتصالات في معظمها معروفة وعلنية وهو أمر مشروع لفصيل سياسي يريد أن يطرح دوره دولياً وأن يتحدث مع الآخر عندما يتعلق الأمر بالسياسيات الإقليمية والأدوار الدولية، خصوصاً أن الخلاف بين ايران والغرب ومع اميركا تحديداً قد أضاف هو الآخر عنصر إغراء أمام واشنطن لمواجهته بتيار إسلامي مماثل معتمدين على الخلاف المطروح - منذ سقوط نظام صدام حسين في العراق - بين السنّة والشيعة. ثالثاً: إن الغرب - والولاياتالمتحدة الأميركية تحديداً - يدرك عن يقين أن مخاطر «الإسلام السياسي» لن تتوقف في المستقبل القريب لأن القضايا العقائدية ذات طبيعة طويلة المدى، فالإيمان يقر في القلب ولا يبرحه بسهولة. فحتى القوى اليسارية في العقود الماضية استقرت طويلاً لدى دعاتها والمؤمنين بها، لذلك فإن واشنطن التي حاربت الشيوعية في أفغانستان وتعاونت مع الإسلاميين على المستوى الدولي لعقود عدة تعاود الآن التفكير في ذلك التحالف الذي لن يكون موجهاً بالطبع ضد الشيوعية هذه المرة ولكن ضد الإرهاب المنتشر في العالمين العربي والإسلامي تحت مسميات ظالمة تنسب الى الإسلام الحنيف ما ليس فيه. رابعاً: إن التفاهمات الضمنية بين جماعة «الإخوان المسلمين» وواشنطن - وربما عواصم غربية أخرى - هي تمهيدٌ لتحولات إقليمية كبيرة تمتد من غرب آسيا إلى شمال أفريقيا في محاولة لترتيب الأوضاع بما يضمن حل الصراع العربي - الإسرائيلي على نحو يكفل للدولة العبرية أمناً وتعايشاً في المنطقة مع تحجيم الدور الإيراني في الخليج والمشرق العربي خصوصاً لبنان (حزب الله) وسورية (الحكم العلوي) وتكون الركيزة في كل ذلك هي تيارات الإسلام السياسي التي انتعشت بعد ثورات الربيع العربي حيث اندلعت الأخيرة بتلقائية شعبية وكان وقودها شباب يطلب فرص العمل ولقمة العيش وسقوط الاستبداد ومكافحة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية، ثم التقطتها التنظيمات الجاهزة والتي لم تكن غير جماعات «الإسلام السياسي» بقيادة «الإخوان المسلمين»، لذلك كانت واشنطن جاهزة بالدعم السياسي والإعلامي والمادي لتلك القوى التي قفزت إلى مقاعد السلطة بعد طول انتظار. خامساً: قد يكون تحليلنا السابق افتراضياً ولكن سياق الأحداث يمضي يوماً بعد يوم مؤكداً له وداعماً لوجوده، فقد قامت جماعة «الإخوان المسلمين» الحاكمة في مصر بعملية تمشيط مستمرة للجماعات المتطرفة في شبه جزيرة سيناء، كما أقنعت حركة «حماس» - فصيل المقاومة الإسلامية في فلسطين - بالكف عن إطلاق الصواريخ على مناطق إسرائيلية، وقد كان ذلك محل تقدير من واشنطن ومصدر ارتياح لإسرائيل، حتى أن الرئيس الأميركي باراك أوباما عبر عن ذلك مباشرة للرئيس المصري محمد مرسي كما جاء في وسائل الإعلام وقتها. ولا نتصور - في هذه المناسبة - أن تمضي الأمور على هذا النحو، إذ ان مطالب الولاياتالمتحدة من الجماعة أكبر وأعقد من أن تلبيها الأخيرة لأن المضي في تحقيقها يعني ألا يكون «الإخوان المسلمون» هم ذلك الفصيل السياسي الوطني الذي حارب في فلسطين عام 1948 ودعم القضية في كل المناسبات حتى أصبح رصيده مرتبطًا بحركة «حماس» المتشددة دون غيرها. هذه نقاط مهمة أوردناها لكي نبحث في طبيعة العلاقة الجديدة بين الغرب و «الإسلام السياسي»، مؤكدين أن هذه العلاقة كانت لها سوابق في المواجهة المشتركة ضد الاتحاد السوفياتي السابق والمنظومة الشيوعية في شرق أوروبا، كما أن وقوع الإسلام السياسي فكرياً في دائرة «اليمين» من دون «اليسار» وإيمانه باقتصادات السوق والتزامه بالخطوط العريضة للنظام الرأسمالي، كل ذلك يؤكد أهمية التوافق المرحلي بين الطرفين وإمكان استمراره لبعض الوقت إلى أن يبدأ الفراق نتيجة اكتشاف الولاياتالمتحدة أن حركات «الإسلام السياسي» لا تستطيع وحدها تحريك الأمور في المنطقة ولا إدارة السياسات على النحو الذي تأمله واشنطن وحلفاؤها، فضلاً عن المحاذير المطروحة من جانب قوى إسلامية أخرى في المنطقة تتصدرها إيران و «حزب الله». كما أن الموقف في سورية لم يتضح بعد، إذ لم تتحدد القيادة البديلة ولا النظام القادم. إن ما جرى ويجري في العامين الأخيرين هو أخطر ما عرفناه من علاقات متشابكة ومسارات معقدة في التاريخ الحديث للمنطقة، ونحن نعتقد عن يقين أن فصول الرواية لم تتم وأن الطريق طويل حتى يتكون هناك تحالف حقيقي بين قوى إقليمية تسيطر على الشارع في بعض الدول مثل تيارات «الإسلام السياسي» وقوى عظمى دولية تسيطر على مقدرات الأمور في عالم اليوم في شكل ملموس. إننا وبإيجاز لا نوجه اتهاماً لأحد ولكننا نقرأ خريطة الأحداث ونتابع مسار الاتصالات بنهج موضوعي للتعرف على الحقيقة والحقيقة وحدها!