تبرز اليوم قراءتان مرتبطتان بالربيع العربي، بعد مضي سنتين على بدايته، أولاهما إيجابية، وترى في الثورات خطوةً نحو إطاحة الأنظمة الديكتاتورية البائدة والفاسدة، وثانيتهما متشائمة، إذ تخشى ألّا تأتي ديموقراطية على النمط الغربي لتحلّ مكان الديكتاتوريات العربية، وتفسح بالتالي مجالاً للفوضى. وتشير هذه القراءة إلى أن الدول الغربية لم تدعم يوماً التغيير الديموقراطي في المستعمرات، بمقدار ما دعمت الاحتفاظ بالوضع القائم، وإلى أن دولاً بحدّ ذاتها لا تدخل في عداد الديموقراطيات، لا تشكّل مصدر إلهامٍ للديموقراطية في أي مكانٍ آخر، وإلى أن المجموعات المتأثرة بتنظيم «القاعدة» لن تواجه أي عقبةٍ تعرقل نموّها وازدهارها. تشمل إحدى القراءتين خوفاً من الماضي، والأخرى من المستقبل. وكانت القراءة المتفائلة رائجة خلال العام الأول من الثورات، في حين سادت القراءة المتشائمة في السنة الثانية لها. بيد أن التاريخ لديه وسائل خاصة تسمح بتجاوز أفكارنا وحتّى تمنّياتنا. ولكن، بصرف النظر عن خيبات أملنا حيال العام الثاني من الثورة، لن يساعدنا الحنين إلى الماضي على إحراز تقدّم، مع العلم أن المؤسسة العسكرية التي سيطرت على الدول العربية في خمسينات القرن الماضي وستيناته، بالاستناد إلى النموذج الذي أرساه جمال عبدالناصر، انهارت تحت ثقلها الذاتي، وأن التدخلات الغربية لم تكن مسؤولة عن خلع القائد في كلّ من تونس والقاهرة، بل إن الثورات الشعبية الحقيقية، التي اندلعت للمرة الأولى في التاريخ العربي الحديث، هي التي نجحت في ذلك. بالنظر إلى السرعة التي انتشرت فيها الثورة المنطلقة في تونس، في كلٍّ من الأردن والجزائر ومصر واليمن والبحرين وليبيا، يتبيّن أنه إبّان وصولها إلى سورية، لم يكن مضى على انطلاقتها سوى ثلاثة أشهر. وهذه السرعة، إن دلّت على أمر معيّن، فعلى عمق الأزمة. وبمقارنتها مع الفترة الفاصلة بين سقوط جدار برلين وإزالة النجمة الحمراء عن مبنى الكرملين، وتزيد عن عامين، أو مع الفترة التي تطلّبها انتشار «الثورات الملونة»، بدءاً بصربيا ووصولاً إلى قرغيزستان، وقد بلغت أربع سنواتٍ تقريباً، يتكشّف لنا مدى عمق الإحباط المتراكم في العالم العربي. لقد خسرت الأنظمة الديكتاتورية العربية شرعيتها السياسية منذ زمنٍ بعيد. فالوعود التنموية التي أطلقها عبدالناصر - بأن تصبح مصر مكتفية ذاتياً على صعيد الغذاء وأن تقوم الدولة بتوفير التعليم الابتدائي ومن ثم الوظائف - تلاشت مع وصول عهد مبارك. وعلى العكس، كان سبق للسادات أن بدأ بتقويض الإصلاحات الزراعية التي قام بها عبدالناصر، وبقي مشهد يتكرر في الريف المصري، يتمثّل بالصدامات بين رجال الشرطة والفلاحين في شأن إعادة العقارات إلى مالكيها السابقين. وفي العقد الأخير، شهدت الزراعة المصرية تدهوراً حاداً لدرجة أن الدولة كانت تستورد أكثر من نصف الحجم الإجمالي لموادها الغذائية. ولم تكن الحال أفضل في اليمن أو سورية، حيث دفع الجفاف ما بين عامي 2006 و2010 بحوالى 500 ألف فلاح سوري إلى مغادرة منطقة الجزيرة الشمالية الشرقية، وأدّى إلى ازدياد الأحياء الفقيرة في المدن الكبرى. ولم يكن وضع الصناعة أفضل هو التالي، حيث أشار «برنامج الأممالمتحدة الإنمائي» إلى أن العالم العربي في عام 2010، لم يكن يعتمد على التصنيع كما في سبعينات القرن الماضي، ما يعني أن القسم الأكبر من 1.2 مليون مصري و300 ألف سوري وصلوا إلى سوق العمل لم يملك إلا فرصة محدودة بالعثور على وظيفة. لم يتوقف الأمر عند فشل هذه الدول في توفير حاجات شعوبها الأساسية، فهي احتكرت أيضاً النظام السياسي. وكانت الأنظمة العسكرية تخطّط لتحويل الجمهوريات الاسمية إلى أنظمة حكم متوارث. وبالفعل، نجحت سورية في إنشاء سلالة حاكمة، حين خلف الأسد الابن والده في عام 2000. وعندما وصل إلى السلطة في البداية، وعد بإجراء «إصلاحات»، ولم يتحقق منها الكثير، باستثناء الخصخصة وتركّز رأس المال بين يدي ابن خال الرئيس رامي مخلوف. وعندما انطلقت التظاهرات في درعا ودمشق وحمص، وأماكن أخرى، كان الوقت قد حان ليرحل الأسد من السلطة. بيد أن إصراره على البقاء أكثر مما ينبغي جاء مقابل ثمن، تمثّل بمقتل ستين ألف شخص حتى الآن، وتدمير المدن والقرى السورية، مع العلم أنّ كل يوم يبقى فيه الأسد في السلطة يتسبّب بالمزيد من المآسي البشرية. الخطوة الأولى تشكّل إطاحة الحكّام الديكتاتوريين الخطوة الأولى، أكثر من كونها الأخيرة، في العملية الثورية. لقد نادت التظاهرات الأساسيّة «بالحرية»، وهذا لا يفسر كيفية حل المشاكل المتجذرة بعمق في مجتمعاتها. حتى الآن، رأينا نتيجتين رئيستين حصدتهما الثورات. وفي الحال الأولى، رأينا دولاً مثل تونس ومصر، قاد الثورات فيها شباب غاضبون وعاطلون من العمل وغير منظمين، وهو ما فتح المجال أمام عملية سياسية، أفضت إلى وصول الأحزاب الإسلامية إلى السلطة. يذكر أن الانتقاد الموجّه إلى «حزب النهضة»، أو «الإخوان المسلمين» في مصر، بعدم امتلاكهما رؤية واضحة للديموقراطية وفهم اجتماعي واقتصادي لكيفية إخراج بلديهما من الأزمة، صحيح جداً. بيد أن هذا القول يمكن أن ينطبق على القوى السياسية الأخرى كافة. فهذان الحزبان الإسلاميان لا يتمتعان سوى بميزةٍ إيجابيةٍ واحدة، تتمثل بأنهما أفضل تنظيماً. ولا ينبغي أن ننزعج لعدم اتّسام إسلاميي مصر وتونس بطابع ديموقراطي حقيقي، مع العلم أن الديموقراطية لا يبنيها أشخاص يؤمنون بالديموقراطية. ولننظر على سبيل المثال كيف أراد ساكاشفيلي في جورجيا، بعد ثورة الورود في عام 2003، بناء ديموقراطية مؤيدة للغرب، تقوم على حكم الحزب الواحد وعلى تقليص الحريات التي تم تحقيقها مسبقاً. أهم ما في الأمر هو أن الساحة السياسية في تونس ومصر تضمّ قوى كثيرة – من إسلاميين، وأحزاب علمانية، واتحادات عمّاليّة، وجيش، فضلاً عن الأحزاب الحاكمة سابقاً التي لا تزال ناشطة. بيد أن أياً من هذه التكوينات السياسية لا يستطيع الحكم بمفرده، لذا ينبغي عليها أن تتعلم كيف تعمل معاً، وتتنافس، وتعلن عن حلول للمشاكل المعقدة، وفي سياق ذلك، ستطوّر المؤسسات وتُنشئ ثقافة سياسية جديدة. يتجسّد النموذج الثاني بما شاهدناه في ليبيا عام 2011، ولا نزال نشهده في سورية في الوقت الراهن. جاء العنف الذي حصل نتيجة لقرارات الحكّام الساعين للبقاء في الحكم مهما كان الثمن. ويُذكر أن الثورات التي اندلعت في العقود الأخيرة، كادت تكون خالية من العنف. فعقب الانقلاب الفاشل في موسكو في آب (أغسطس) 1991، انهار الاتحاد السوفياتي. وكان الثمن مقتل ثلاثة متظاهرين في وسط مدينة موسكو، امتنع قادة «الجيش الأحمر» من بعده عن ارتكاب المجازر، وفشل انقلابهم. وبالطريقة ذاتها، تمت إطاحة الديكتاتور الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش في تشرين الأول (أكتوبر) من عام 2000، من دون إراقة دماء، بضغط فقط من التظاهرات الحاشدة. وفي تونس ومصر، لم يقمع الجيش التظاهرات، ما سمح بتجنّب الدمار، وفي الوقت عينه، حمى مؤسسة الجيش. ولكن، ما الذي جعل الجيش السوري – وليس فقط الأجهزة الأمنية - ينضم إلى عملية تدمير بلاده. تجدر الإشارة إلى أن للجيوش والدولة تاريخاً طويلاً في العالم العربي. فعندما استولت على الحكم من الطبقة التقليدية الهرمة التي كانت عاجزة عن الحكم ضمن سلسلة من الانقلابات، تعهّدت القتال من أجل تحقيق الاستقلال الوطني وإحراز التقدم. وفي ذلك الوقت، بدا الجيش وكأنه المؤسسة الوحيدة القادرة على فرض الاستقرار الداخلي مقابل السيطرة على مؤسسات الدولة ومصادرة الساحة السياسية بأكملها. وتكشف الحروب التي شنّها معمر القذافي وبشار الأسد كيف فقد الجيش استقلاليته المؤسسيّة وكيف قامت القاعدة على خصخصة الدولة، لتغدو مِلكاً لشخصٍ واحد، ولعائلةٍ واحدة في أفضل الأحوال. لقد سيطرت الدولة في عهدي القذافي والأسد على ما قبل العصر الحديث، حيث لم يتمّ التمييز بين شخص الحاكم وتركيبة الدولة. ومن خلال وضع جيشيهما في طليعة الجبهة لحماية الدولتين «الخاصتين بهما»، واجها خطر تدمير الوحدة الهشّة في بلديهما. النموذج الغائب لطالما برّرت الدول الغربية ضمن مجموعة «أصدقاء سورية» عدم دعمها الثورة، بانتقاد غياب الوحدة في صفوف المعارضة السورية. واليوم، تعرب هذه الدول عن قلقها إزاء انتشار مجموعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة». ويبدو أن أفضل نتيجة قد تتصوّرها واشنطن تذكّر بالسيناريو اليمني، المتمثّل برحيل الحاكم والإبقاء على الجيش والأجهزة الأمنية. ولكن ما الحل، في حال كان كلّ من الجيش والأجهزة الأمنية مملوكاً للحاكم الذي لا يرغب في الرحيل؟ يشعر الغرب بالضياع، وليس في سورية وحسب. وهذا أيضاً، قد يساعدنا على أن نجري مقارنة مع الثورات في أوروبا الشرقية. ففي السنتين الأخيرتين من حكم ميخائيل غورباتشوف، آخر قادة الاتحاد السوفياتي، علّق آمالاً كبيرة على إغاثة الغرب، من أجل إنقاذ إصلاحاته، بينما كان اقتصاده يتدهور بلا هوادة. غير أن هذه الإغاثة لم تأتِ أبداً. وكانت دول أوروبا الشرقية، أي ألمانياالشرقية، وبولندا وهنغاريا والجمهورية التشيخية، هي الوحيدة التي حصلت على استثمارات سمحت لها بجلب الاستقرار إلى اقتصادها في شكل سريع. أما الدول الأخرى، فتم تجاهلها. ونتيجة ذلك، باتت اقتصادات روسيا، أو أوكرانيا، أو كازاخستان غير معتمدة اليوم على الصناعة، وهي تصدّر النفط وموارد طبيعية أخرى ولا تشمل صادراتها أية منتجات صناعية. شهدت بداية تسعينات القرن الماضي ذروة الاقتصاد الغربي. وكانت تلك حقبة العولمة، حيث تخطّى نمو رؤوس الأموال حدود آخر دولة وبلغت التجارة والنزعة الاستهلاكية مستوياتٍ غير مسبوقة. بيد أن الثورة العربية تجري اليوم في سياقٍ مختلف للغاية. ويمكن في الواقع العثور على علاقة سببية بين أزمة عام 2008 المالية وارتفاع أسعار الغذاء في 2008 ومن ثم في 2010 من جهة، وبين اندلاع الثورات العربية من جهةٍ أخرى. إن النظام الغربي الرأسمالي الذي يعاني أزمةً في الوقت الراهن لا يملك نموذجاً اجتماعياً اقتصادياً يقترحه على المجتمعات العربية التي تبحث عن حلول، كما أنه لا يملك وسائل مالية تخوّله توفير إغاثة كبيرة. ومن الضروري أن تنشئ الثورة العربية مؤسسات دولة حديثة، خلال حقبة بدأ دور الدولة يتلاشى فيها عالمياً. كلنا نشعر بالقلق حيال مستقبل الربيع العربي، لكن الأكيد أنّ الجواب لا يكمن في النظر إلى الماضي.