من الصعب الحديث عن وضع إيجابي واضح في تونس بمناسبة السنة الثانية من أول ثورة من ثورات الربيع العربي عدا حادثة الإطاحة بنظام الاستبداد والفساد. فالوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي لا يزال يتأرجح بين اليسار واليمين ولم يتوصل ظاهر التعايش بين الإسلاميين والعلمانيين في ظل «الترويكا» الحاكمة إلى فك طلاسم الخلافات المزمنة التي عاشتها الأجيال الأولى لدولة ما بعد الاستقلال والتوجه التحديثي الذي بنى عليه الحبيب بورقيبة الرئيس التونسي الأسبق استراتيجيته على أنقاض البنى التقليدية للمجتمع التونسي. ونقلت تلك الخلافات من أروقة الجامعة التونسية خلال عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي إلى الواقع السياسي الحالي. واكتشفت النخب التونسية بعد الثورة أنها أعادت إنتاج نفس تلك الخلافات بعد أن وجدت أنفسها من جديد في صراع سياسي تمثله السلطة ممثلة في حركة النهضة ذات التوجه الإسلامي من ناحية والتيارات اليسارية التي تلعب دور المعارضة وتحاول تحجيم «هجمة» الإسلاميين وشراهتهم التاريخية لممارسة الحكم. ورغم ظاهر التعايش بين الإسلاميين والعلمانيين، فإن حزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات اللذين قدما على أساس أنهما يمثلان التيارات العلمانية اتضح أنهما لا يمثلان سوى فئات محدودة من التيارات المناهضة للإسلاميين. وفي سنة 2012. تواصلت المواجهات التاريخية على أشدها بمناسبة زيارة الداعية الإسلامي وجدي غنيم إلى بلد «ثورة الياسمين» خلال شهر فبراير (شباط) و«تأبط» المجتمع المدني كل الأسلحة لمهاجمة حركة النهضة واتهامها بفتح الأبواب للمعادين لحقوق الإنسان من خلال دعم غنيم لختان الفتيات. وتأزمت العلاقة بين الحكومة والمعارضة وشهدت تونس مجموعة من الاحتجاجات والانفلاتات الأمنية توجت بمواجهة قوية يوم 9 أبريل (نيسان)، فقد منعت وزارة الداخلية التي يقودها علي العريض (القيادي في حركة النهضة) التجمعات في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة بحجة التأثير السلبي على حياة التونسيين ودعت المحتفلين بذكرى عيد الشهداء الذي يوافق يوم أبريل من كل سنة إلى التظاهر السلمي في الشوارع المتفرعة عن الشارع الرئيسي بالعاصمة. إلا أن المعارضة تمسكت بحقها في التظاهر بشارع الحبيب بورقيبة (الشارع الرئيسي) وانتهى صراع الإرادات بمواجهات عنيفة بين الطرفين استعملت خلالها وزارة الداخلية القنابل المسيلة للدموع ووجهت المعارضة تهمة الالتجاء إلى ميليشيات مجهولة استعملت الهراوات لتفريق المتظاهرين. وتواصل الشد والجذب بين الطرفين وانتهى الطرفان إلى الاتفاق حول تكوين لجنة محلية للتحقيق في ظروف تلك المواجهات ولم تعلن إلى حد نهاية السنة نتائجها بل إن الطرفين فتحا جبهات صراع أخرى أنستهما تلك الوقائع. وفي منتصف شهر يونيو (حزيران) أعلن الباجي قائد السبسي رئيس الحكومة السابقة عن تكوين حزب جديد أطلق عليه اسم «حركة نداء تونس» ومنذ البداية انضمت إليه كثير من الوجوه السياسية والنقابية وفسر الخبراء والمتابعون للمشهد السياسي ذاك الالتحاق ببحث مجموعة من النخب التونسية عن مظلة تقيهم من قوة حركة النهضة وعدم انسجام خطابها معهم وكذلك تقيهم من تذبذب التيارات اليسارية وعدم ثبات مواقفها بعد خيبة انتخابات المجلس التأسيسي التي جرت يوم 23 أكتوبر (تشرين الأول) من سنة 2011 وأفرزت تفوق حركة النهضة وفوزها بأكبر نصيب من الأصوات. ولئن لم تنتبه قيادات حركة النهضة للحزب الجديد الذي ترأسه قائد السبسي فإنها بعد فترة وجيزة فتحت أبواب صراع معه لم تنته إلى حد الآن. واتهمته بفتح الحزب أبوابه أمام فلول النظام السابق وهي تهيئ لإصدار قانون تحت اسم «تحصين الثورة» يهدف إلى إقصاء مسؤولي التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل (حزب بن علي) وقد يكون الباجي قائد السبسي نفسه من بينهم باعتباره كان رئيسا لمجلس النواب (البرلمان) في بداية عهد بن علي. وخلال نهاية شهر يونيو قدم محمد عبو وزير الإصلاح الإداري والوظيفة العمومية استقالته وقال: إن الوزارة مليئة بملفات الفساد وإنه لا يقدر على مواصلة عمله في مثل تلك الظروف. وخلال الشهر الموالي قدم حسين الديماسي وزير المالية بدوره استقالته لتبقى الحكومة تعمل بتركيبة مبتورة إلى حد شهر ديسمبر (كانون الأول) الجاري قبل أن يعين إلياس الفخفاخ وزير السياحة للإشراف على وزارتي السياحة والمالية في سابقة هي الأولى من نوعها. وفي يوم 13 سبتمبر (أيلول) شهدت السفارة الأميركية بتونس هجوما نسب إلى التيارات السلفية بعد صدور الفيلم المسيء للرسول. وفتحت المواجهات على مصراعيها بين قوات الأمن والتيار السلفي على وجه الخصوص وانتهت إلى اقتحام السفارة ونهب وحرق محتويات المدرسة الأميركية بتونس وإلى وفاة نحو أربعة أشخاص على عين المكان وإصابة العشرات من قوات الأمن ومن المدنيين. وأوقفت وزارة الداخلية 144 متهما لا يزال البعض منهم دون محاكمة إلى حد الآن. ووجهت المعارضة انتقادات حادة إلى الحكومة وخاصة وزارة الداخلية المتهمة بالتقصير في التعامل مع آلاف المحتجين. وطويت تلك الصفحة على علاتها لتنطلق حملة قوية من أحزاب المعارضة تنادي بسقوط شرعية حكومة حمادي الجبالي يوم 23 أكتوبر 2012 باعتبار أن المجلس التأسيسي الهيئة الوحيدة المنتخبة قد التزم بإعداد دستور للبلاد بمرور سنة وأن ذاك التاريخ يمثل خروجا عن الشرعية وانتهاء منها ولا يمكن للحكومة التي تقودها حركة النهضة إلا العودة من جديد للتوافق في قيادة البلاد. ودخل الاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر المنظمات العمالية في تونس) على الخط ودعا الحكومة والمعارضة إلى الجلوس حول طاولة واحدة للتفاوض حول المرحلة السياسية القادمة. واستدعى لهذا الأمر كل القوى السياسية إلا أن حركة النهضة ومعه حزب المؤتمر من أجل الجمهورية قاطعا المؤتمر بدعوى وجود حركة نداء تونس من بين المدعوين. واستشعرت الحكومة ومن ورائها حركة النهضة أن الاتحاد العام التونسي للشغل يريد العودة إلى الحياة السياسية من بوابة الأحزاب السياسية اليسارية بالخصوص اعتبارا إلى أن أغلب قيادات الاتحاد تنتمي تاريخيا إلى التيارات اليسارية. لذلك سارع الائتلاف الثلاثي الحاكم إلى إعلان يوم 23 يونيو 2013 موعدا للانتخابات الرئاسية والبرلمانية وسحبت بذلك البساط من تحت أقدام الاتحاد والأحزاب التي ساندت مؤتمر الحوار الوطني. وانتقلت المواجهة على أشدها بين الاتحاد العام التونسي للشغل وحكومة حمادي الجبالي بعد أن كانت لفترة بين حركة النهضة والتيارات العلمانية. وكانت مدينة سليانة (170 كلم وسط تونس) ساحة اختبار للقوة هذه المرة وفتحت أمام مواجهات دامية بين الحكومة وآلاف المحتجين وسارع الاتحاد الجهوي للشغل إلى تبني التحركات الاحتجاجية بل إنه ذهب إلى النقطة القصوى بإعلانه إضرابا عاما في المدينة ودعا إلى التظاهر ضد البطالة وغياب التنمية. وغلبت على المسيرات طابع «تصفية الحسابات» من الجهتين فالاتحاد ومن خلال مجموعة من الأحزاب السياسية أراد أن يوجه رسالة سياسية قوية إلى الحكومة بأنه قادر على زعزعة الاستقرار متى أراد في حين أن الحكومة أرادت من خلال الضرب بقوة ضد المحتجين القول إنها لن تسمح بعودة الاتحاد إلى عالم السياسة كما كان خلال عهدي بورقيبة وبن علي. إلا أن أبواب الصراع بين الاتحاد والحكومة بقيت مفتوحة بين الطرفين ووجدت أرضية جديدة للمواجهة يوم 4 ديسمبر وذلك من خلال مهاجمة الاتحاد وسط العاصمة ومطالبة قياداته بالخضوع للمحاسبة القانونية وطرد بقايا النظام السابق. وأصيبت في تلك المواجهات وجوه نقابية اتهمت حركة النهضة بالاعتماد على ميليشيات لضرب الاتحاد وقياداته ودعت الهيئة الإدارية للاتحاد إلى إضراب عام يوم 13 من نفس الشهر. وسيطر الجدل السياسي حول الإضراب و«مآسيه» الاقتصادية المحتملة على تونس. وبعد سلسلة من المبادرات والتدخلات انتهت إلى اتفاق بإلغاء الإضراب العام الذي لم يحصل في تاريخ تونس إلا يوم 26 يناير (كانون الثاني) من سنة 1978 وترك أسوأ الانطباعات لدى عموم التونسيين. وانتهت السنة الحالية برمي الرئيس التونسي المنصف المرزوقي ورئيس المجلس التأسيسي (البرلمان) مصطفى بن جعفر بالحجارة والمقذوفات في سيدي بوزيد مهد الثورة التونسية. وكان للحادثة وقعها السياسي خاصة وقد ترافقت مع احتفال التونسيين بالذكرى الثانية لوفاة محمد البوعزيزي مؤجج الثورة التونسية. وهي رسالة سلبية تواجهت من خلالها الحكومة والمعارضة من جديد وتبادلتا الاتهامات ولكن الواقع الاجتماعي والاقتصادي الهش لسكان سيدي بوزيد وبقية مناطق تونس متفق عليه بين كل التونسيين. فبعد مرور سنتين على الإطاحة بنظام بن علي لا يزال المشهد التونسي برمته متعثرا وهناك وراء الأكمة ما وراءها.