العديد من المغاربة أصبحوا يترقبون الإطلالة الشهرية لرئيس الحكومة عبد الإله بنكيران من على قبة البرلمان والتي ينقلها التلفزيون المغربي على الهواء. الكثيرون لا يركزون أكثر على إجابات السيد بنكيران على أسئلة السادة البرلمانيين، بقدر ما يترقبون بشوق اللحظات التي يتحول فيها كلام المسؤول الحكومي الأول إلى فرجة، سواء حينما يُكثر من الحديث عن 'الأشباح' و'العفاريت' و'الخفافيش' الذين يحاربون حكومته حسب اعتقاده، أو حينما يستمد من قاموس العامية المغربية الشعبية مفرداته في الرد على بعض التدخلات، مكرراً لازمته المفضلة 'فهمتِ ولاّ لا؟' (فهمتَ أم لا؟). بنكيران صاحب نكتة. البعض يسمي ذلك 'شعبية'، والبعض الآخر يطلق عليه 'شعبوية'. حتى أن الرجل لم يتردد في التصريح للصحافة عقب خروجه من القصر عند تعيينه رئيسا للحكومة قبل نحو عام: 'كدتُ أحكي للملك نكتة حامضة'. معارضو حزب 'العدالة والتنمية' يرون في لجوء بنكيران إلى 'التهريج' و'الشعبوية' مجرد ذريعة للتهرب من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية الصعبة التي لم تقدر الحكومة على مجابهتها لحد الآن. أما أنصار الحزب المذكور والمتعاطفون معه، فيعتبرون أن أسلوب رئيس الحكومة في الحديث هو ما يكسبه جاذبية قوية وقدرة على مقارعة حجج الخصوم بلغة شعبية يفهمها الجميع، مستبعداً لغة سياسية عالِمة ومتعالية. وبما أن أمين عام الحزب الإسلامي أكثر الشخصيات إثارة للجدل في الساحة الإعلامية والسياسية المغربية، فقد تحول إلى 'ماركة مسجلة' ليس في المغرب فقط بل حتى لدى بعض البلدان المغاربية الأخرى. وقد استغلت قناة تلفزيونية تونسية خاصة نجوميته هذه لكسب نسبة مشاهدة عالية. وكما هو معروف لدى الجميع، فحين تتحقق نسبة المشاهدة العالية، يكون بالإمكان استقطاب المعلنين، وبالتالي الحصول على عائدات مهمة من الإعلانات التلفزيونية. إنها قناة 'نسمة'، التي اهتدت إلى طريقة لضرب عصفورين بحجر واحد: تجاوز المأزق الذي وقعت فيه أخيرا حين بثت فيلما اعتُبر مسيئاً إلى الإسلام، ومحاولة استرجاع ثقة المشاهدين فيها وكسب مشاهدين جدد في المغرب؛ فكان الحل شراء حقوق برنامج 'لي غينيول' (الدمى) الفرنسي، كما فعلت قبلها قناة لبنانية، واختيار شخصيات سياسية مغربية موضوعاً لحلقاته. وكانت دمية عبد الإله بنكيران من أكثر الدمى التي استرعت انتباه المشاهدين؛ إلى درجة أن القائمين على القناة المذكورة فكروا في ابتكار دمى أخرى خاصة بشخصيات سياسية مغربية عديدة، من بينها فؤاد علي الهمة (مستشار العاهل المغربي) وبسيمة حقاوي (الوزيرة الوحيدة في حكومة بنكيران) وغيرهما. بنكيران مالئ الدنيا وشاغل الناس ونجم التلفزيون، أصبح أيضا موضوعا مفضلا عند بعض الكوميديين المغاربة كسعيد الناصري والحسين بنياز، وحتى عند شعراء العامية الذين تباروا مؤخرا لنيل جائزة أفضل قصيدة زجلية حول الحكومة الحالية. ومن ثم، يمكن القول إننا في المغرب اجتزنا مرحلة كان يبدو فيها رئيس الحكومة مقطبا حاجبيه ومفتعلا الجدية والصرامة، إلى مرحلة جديدة يطلق فيها الوزير الأول النكات ويصير هو نفسه نكتة. لنقل إنه تمرين أوّلي على الديمقراطية وتجريب لحرية التعبير. ولكن الناس يريدون أكثر: إنجازات على الواقع، لا أقوال ونكات وفرجات بلا مضمون! 'خونجة الإعلام' أم تجسيد لهوية المغاربة؟ وضعت معركة 'دفاتر التحملات' أوزارها بعد حوالي ستة شهور من الشد والجذب. وكان المنتصر فيها أولاً وأخيراً هو المشاهد المغربي، لا الحكومة ولا معارضوها ولا 'لوبيات مقاومة الإصلاح' التي يسميها عبد الإله بنكيران 'الأشباح' و'العفاريت' و'الخفافيش'. و'دفاتر التحملات' قوانين توضح التزامات القنوات التلفزيونية العمومية، التي تخضع لمراقبة من طرف 'الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري'، والتي على أساسها يحدد الدعم المالي العمومي في إطار ما يطلق عليه 'العقد البرنامج'. يقول البعض إن بصمة العدالة والتنمية واضحة جدا في دفاتر التحملات الجديدة. ويعتبرون ذك نوعا من 'خوْنجة الإعلام'، تماما مثلما يتحدث بعض المصريين عن 'أخْونة الإعلام' عندهم، أي خاضع لتوجهات 'الإخوان المسلمين'. والشهادة لله، أقول من موقعي كإعلامي وفاعل في المجتمع المدني المغربي (وإن كنت أختلف سياسيا مع 'العدالة والتنمية')، إن هذه الدفاتر أُنجزت بطريقة تشاركية ساهمت فيها أطياف المجتمع المختلفة، التي بادرت بتقديم اقتراحاتها إلى الوزارة الوصية. كما أنه لا مجال الآن لإثارة زوبعة جديدة حول تلك 'الدفاتر' بعدما صادقت عليها الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري التي تضم خبراء من مشارب سياسية وفكرية مختلفة. بعض معارضي 'دفاتر التحملات' اختزلوا النقاش من قبل في ما اعتبروه هيمنة الطابع الديني على القناة الثانية تحديدا، وهي القناة التي يقولون إنها تمثل الانفتاح والحداثة وتستند في ميزانيتها على عائدات الإعلانات بنسبة مهمة. واستغربوا تنصيص دفتر التحملات على بث أذان الصلوات الخمس ضمن شبكة البرامج اليومية للقناة. وكأن الأذان هو الذي سيؤدي إلى هرب المشاهدين والمعلنين. والحقيقة أن اقتراح بث الأذان نبع من بعض أبناء القناة الثانية، ولم يفرضه حزب بنكيران. كما أن الفقرات الدينية تمت بشراكة مع 'المجلس العلمي الأعلى'، ولا دخل للحزب المذكور فيها. وخلافا لما قيل قبلئذ من كون دفتر التحملات الجديد يهدد هوية القناة الثانية، فإن ذلك الدفتر مجسد بالفعل لهوية المغاربة التي حددها الدستور الجديد المصادق عليه في استفتاء فاتح تموز (يوليو) 2011، والمتمثلة في الإسلام والهوية ذات المقومات المتنوعة العربية والأمازيغية والصحراوية، والروافد المتعددة الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية. عودة 'الجزيرة' إلى المغرب قبل أسابيع، احتضنت العاصمة المغربية ندوة كبرى في موضوع: 'الإعلام العربي في زمن التحولات: هل انتصر للمهنية أم أجج للفتن؟'، وكان من بين المتدخلين محمد سواق مدير عام قناة 'الجزيرة' الذي تحدث عن مهنية الجزيرة وحرصها الدائم على التوازن من خلال مقولة 'الرأي والرأي الآخر'. كان حضور المسؤول المذكور إشارة قرأها الجميع وفهموا دلالتها: لا يمكن لهذه الزيارة أن تكون مجرد استجابة لدعوة إلى المشاركة في ندوة؛ بل إنها ترتيب لعودة القناة القطرية إلى المغرب. وهو ما أكده مصطفى الخلفي، وزير الإعلام المغربي، لاحقا، عندما تحدث عن قرب إعادة فتح مكتب 'الجزيرة' في الرباط. هل ثمة شروط وضعا الطرفان؟ لا ندري. وإن كنا نميل إلى أن المغرب يشترط على القناة المذكورة الاحتياط في موضوع الصحراء المغربية، وكذا عدم تضخيم بعض القضايا والظواهر الاجتماعية المحلية. فيما تشترط 'الجزيرة' حسب ما يبدو عدم التدخل في عمل مراسليها أو التضييق عليهم. هل تمت صفقة ما، خاصة وأن حبل الود قوي بين 'الجزيرة' وإسلاميي الحكومات العربية؟ الأيام القادمة كفيلة بالجواب.