يوم اشتد الخناق على حركة «طالبان» لجأت إلى تدمير تماثيل بوذا في أفغانستان. كان المشهد أشبه بحرب نبال موجهة ضد صواريخ عابرة للقارات. ولم يجد مقاتلو الحركة غير فؤوس بدائية يهوون بها على تماثيل جامدة، لكنها متحركة في الموروث الثقافي الإنساني، فجلبوا على أنفسهم كل أنواع التنديد والاستنكار. شيء من هذا القبيل، أكثر يأساً وبؤساً، يطل من»أفغانستان»الجديدة في الساحل جنوب الصحراء، وتحديداً من مالي التي تعرض بعض مساجدها ومزاراتها في تومبوكتو إلى تدمير وحشي يخلو من أي حس أو انتماء حضاري. ففي كل مرة تواجه فيها الحركات المتطرفة الخارجة عن القانون مآزق، لا تجد غير المآثر والأضرحة تعبث بها لتقطع مع كل ما هو إنساني ومشترك. الحروب بكل قسوتها لها قوانين والتزامات، تحظر الاعتداء على التراث الإنساني وتصون أماكن العبادة والمتاحف ورموز التعايش. غير أن الاستثناء الذي شمل هدم المساجد والأديرة وانتهاك الحرمات كما في حروب أميركا على العراق وأفغانستان أفلح في دفع عصبيات أخرى إلى ممارسات لا تقل استهتاراً بالعقل الإنساني. غير أن توصيف هدم أماكن العبادة والمزارات بأنه جزء من جرائم ضد الإنسانية، كان يروم كبح جماح التعصب وعدم التسامح، فالحروب ضد الهويات الثقافية تكون أشد خطورة وضراوة. وما إحراق الكتب واقتياد العلماء والمفكرين والمبدعين إلى المشانق إلا دليل آخر على أن الحروب الدينية أعتى فداحة. أبعد من تصنيفات اليونسكو لأماكن وعجائب ضمن التراث الإنساني، تحيل تومبوكتو المستوية شمال مالي على تاريخ حافل من الانصهار الحضاري، منذ كانت قوافل التجارة وشيوخ التنوير يحطون بها الرحال، في عبورهم المتعدد الاتجاهات نحو العمق الإفريقي، لم يكونوا يحملون السلاح للتبشير بفضائل قيم ومثل. فقط كانوا يجاهرون بمنطق الإقناع والتسامح، ولم يدمروا أماكن عبادة ولا نكلوا برموز وتقاليد. وإنها لمفارقة أن يكون من تعرضوا تاريخياً للاضطهاد في أزمنة متلاحقة النزعات، يعاودون تكرار الخطأ القاتل عبر استباحة القيم المشتركة بين الديانات والفتوحات الحضارية من دون اقتناص العبر والرادع. لماذا حين تبدأ المآسي يصار إلى نبش القبور وتدمير المعالم التاريخية وهدر مظاهر التسامح؟ الراجح أن سموم العداء تتغلغل في النفوس التي لا تقوى على رؤية الحقائق كما هي، في تسلسلها وأنماط قوانينها وجاذبية تقبلها والتعاطي معها. إذ يصبح الإصرار على تبديد النسيج الاجتماعي والثقافي للبلدان التي تجتاز أزمات هو كل ما تستطيعه فئات وحركات، تعيش خارج التاريخ. ولا يعني تغيير معالم الآثار والشواهد وإبداعات الأولين سوى أنه يفسح في المجال أمام تشويه الحقائق ومحو الهويات. تنحو هكذا ممارسات إلى جلب المزيد من التوتر وتراكم الأحقاد. فالطائفية وحروب الأقليات وصراعات اللغات تبحث عن مرتعها الخصب بين ثنايا كل ما هو روحي، ومظاهر التجزئة التي تهدد الأوطان تصبح مبررة عندما تزيد نعرات التقسيم بوازع ديني أو عرقي أو لغوي. غير أن ارتباط مشاعر الخوف بسابقة إقامة كيان أو أكثر في شمال مالي، يضع تلك الممارسات في سياق ضرب وحدة البلاد. ولن تكون الأزمة التي يجتازها هذا البلد الإفريقي سوى بداية العد العكسي لتجريب مخططات أكبر، يأتي عزل بلدان الشمال الإفريقي عن امتدادها الحضاري جنوباً في مقدم الأهداف. فما تستحيل تجزئته جغرافياً يصبح في متناول اليد روحياً واجتماعياً. لم تبدأ أزمة مالي بتدمير الأضرحة والمزارات والمعابد، ولن تنتهي عبر حشد التأييد لتنديد دولي وإنساني بهذه الممارسات. إنها أعمق من ذلك بكثير، وما يحدث من انتقام إزاء الموروث الثقافي إنما يراد لإشاعة الاستسلام إلى قدر التجزئة. بعض من ذلك يحدث في المحيط الإفريقي الأقرب، كما في نيجيريا التي لم تعرف ماذا تفعل بثروتها النفطية، وغداً لن يسلم أي بلد إفريقي من استشراء العدوى. مبادرة دول غرب إفريقيا ليست كافية لمعاودة تثبيت الأمن والاستقرار في مالي. إنها خطوة في الاتجاه الصحيح، واستشعار للمخاطر حيال إمكان تعرض بلدان أخرى للنزيف الحاد. غير أن دول الشمال الإفريقي التي كان يفترض أن تكون سباقة إلى بذل المساعي الحميدة، لم تتبين بعد أفضل الوسائل في التعاطي والأزمات التي تطوق خصرها الجنوبي. إنها غارقة في تناقضاتها، تريد أن تقترب أكثر من الهواجس الأمنية المقلقة، لكنها تبتعد أكثر في ملاءمة مكامن الخلل بين من يعتبر الساحل جنوب الصحراء رقعة جغرافية لا تنفصل عن أمنه الداخلي وبين من يعتبره مسؤولية دولية ترتبط بالحرب الكونية على الإرهاب. إلى أن ينضج الموقف الدولي إزاء خيار التدخل، هل يكون عسكرياً أو أمنياً أو سياسياً؟ ثمة من يراهن على التعايش مع خيار تجزئة تعسفية، ما كان لدولة مالي أن تتوقعها لولا مغامرات صراع السلطة الذي آل إلى أزمة سلطة ودولة.