كانت العشرون شهراً الماضية فترة عامرة بالاضطراب. ولم ينطبق ذلك على منطقة في المعمورة قدر انطباقه على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي وُصف ما يحدث فيه بأنه "ربيع عربي" رغم أنه لا يوجد حتى الآن اتفاق حول عما تعنيه هذه العبارة على وجه التحديد. لكن الشيء الذي لا خلاف عليه هو أنه بعد الاحتجاجات، والمظاهرات، والاعتصامات، والمسيرات والمليونيات... التي ظلت مستمرة طيلة هذه الفترة، فإن المشهد السياسي أسفر عن اختفاء ثلاثة حكام أوتوقراطيين في تونس، ومصر، وليبيا، وإن كان من غير المعروف حتى الآن على وجه التحديد ما هي القوى التي ستحل محلهم في سدة السلطة، رغم أن الأنظمة المؤقتة التي حلت محلهم تبذل قصارى جهدها كي تصبح نظماً دائمةً. وفي كتابه "الربيع العربي... الشتاء الليبي"، يرى"فيجاي براشاد"، أستاذ ومدير الدراسات الدولية في كلية "ترينيتي" في "هارتفورد. كونيكتيكيت"، أن الشعب المصري عندما بدأ يتجمع في ميدان التحرير في فبراير2011 ، فإن ذلك التجمع كان أول علامة على أن النيران التي كانت قد أحرقت جسد بائع الفاكهة الفقير محمد البوعزيزي في سيدي أبو زيد، وأطاح لهيبها ببن علي من عرشه، قد وصلت ألسنتها لمصر وأنها على وشك الإطاحة بحاكمها المستبد "مبارك". وهو ما تم بالفعل، لكن تأثيره لم يقتصر على مصر فحسب، بكل ما تمثله من أهمية استراتيجية وتأثير واسع النطاق، وإنما تجاوزها لتدوي أصداؤه في المنطقة. وفي واشنطن وتل أبيب، ولندن، وباريس، وبرلين، وروما، وول ستريت... جرت محاولات حثيثة للحاق بالحدث وإدراك أبعاده، بعد أن فشلت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، ذات الباع الطويل في الجاسوسية، في التنبؤ به. وبعد ذلك الفشل الذريع لم يكن أمام الأجهزة الاستخبارية في العواصم المشار إليها سوى الانتظار حتى ترى النهاية المريرة والحتمية لتلك الأنظمة التي طالما عملت على التماشي مع مصالحها في المنطقة، قبل أن تتظاهر بعد ذلك بالاصطفاف مع الثورات المندلعة، ثم تعمل بعدئذ من أجل تخريبها على نحو حثيث. فبعد سقوط مبارك انتشرت الثورة كالنار في الهشيم لتصل لليبيا، واليمن، وسوريا، ولندن، ونيويورك، وأثينا، وأوكلاند... بيد أن تلك الرياح لم تكن في أي مكان بمثل القوة التي كانت عليها في المنطقة العربية، كما لم تقابل بذلك القدر من المقاومة الشرسة والعنيدة مثل الذي قوبلت به في تلك المنطقة من جانب القوى المحلية والخارجية على حد سواء. فالقوى المحلية كانت تقاتل من أجل المحافظة على مصالحها ونفوذها، أما العواصم الرأسمالية فعملت، بعد أن أدركت أنها لن تتمكن من المحافظة على مصالحها من خلال دعم وإسناد الأنظمة، على استغلال تلك الثورات والانتفاضات من خلال دس عناصرها في صفوف المعارضة، لتحويلها لخدمة المشروع الغربي في نهاية المطاف. ووجدت المؤسسات الدولية الرأسمالية، مثل البنك وصندوق النقد الدوليين، فرصتها السانحة للتدخل وفرض شروطها القاسية على تلك الدول، مستغلةً حالةَ الاضطراب الاقتصادي التي كان لابد أن تنشأ عقب تلك الثورات. وبعد تناوله الصراعات في كل من تونس ومصر عقب سقوط نظاميهما، يخصص المؤلف جزءاً معتبراً من كتابه للحديث عما دار في ليبيا تحديداً، فيشرح بدايات الثورة الليبية في الشرق، ثم زحف قوات القذافي على مهد الثورة لسحقها، وتهديده بإبادة بنغازي، والدعوة لتدخل الجامعة العربية، ثم الاستعانة بمجلس الأمن لفرض منطقة حظر للطيران، فالتدخل تحت دعاوى إنسانية من جانب "الناتو". ويؤكد المؤلف أن ذلك التدخل كان لتمكين القوى الغربية من استرداد سيطرتها على النفط الليبي، والتي فقدتها عندما قام القذافي بتأميم الشركات النفطية الغربية عقب انقلابه على الملك إدريس عام 1969. ويرى الكاتب أن الانتفاضة الليبية كانت شيئاً مطلوباً وإيجابياً، لأن نظام القذافي كان قد وصل لمرحلة لم يعد ممكنا استمراره بعده، لكن تم التلاعب بالانتفاضة وإساءة استغلالها فيما بعد من جانب دول "الناتو". كما يناقش سنوات القذافي، ويرى أنه وإن كان للرجل إنجازات في بداية حكمه، فإنه ذهب في النهاية ضحية لنزقه، ومغامراته، وطموحه الشخصي الزائد عن الحد. والحقيقة أن القوى الوحيدة الخيرة التي يراها الكاتب كذلك، بعد الانتقادات العنيفة التي وجهها للناتو والقوى الغرب، هي الجماهير الثورية التي ضحت بحياتها من أجل الإطاحة بحكم القذافي الاستبدادي ومن أجل حريتها وكرامتها.