"الشرق الأوسط" تونس: المنجي السعيداني هو أول رئيس منتخب للدولة التونسية بعد استقلالها في عام 1956. وقد تسلم المنصف المرزوقي، الذي يعد من بين الشخصيات التونسية التي ناضلت بقوة ضد نظام بن علي، رئاسة تونس يوم الثلاثاء الماضي. كان من بين الأوائل الذين تحدوا الرئيس السابق وقدم ترشحه لرئاسة تونس مبكرا منذ عام 1994. وعلى الرغم من حصوله على الإمضاءات اللازمة والتي كانت عبارة عن حصول المرشح لرئاسة تونس على 30 إمضاء سواء من قبل رؤساء بلديات أو كذلك أعضاء في البرلمان (مجلس النواب)، فقد اعتقل في الشهر نفسه وأطلق سراحه بعد أربعة أشهر قضاها في السجن في زنزانة انفرادية، وذلك من قبيل التنكيل به لتجرئه على الترشح ضد بن علي ومنافسته على كرسي الرئاسة. ولم يطلق سراح المرزوقي إلا بعد حصول حملة دولية للتعريف بقضيته كسجين سياسي وبتدخل شخصي من قبل المناضل الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا. وتم منعه من السفر وحجز جواز سفره. حلم المرزوقي بكرسي الرئاسة مبكرا. ويبدو أن حلمه لم يذهب هباء. فقد داوم على مصارعة نظام بن علي وتمكن في النهاية من التخلص منه عبر ثورة لم ينتظرها أحد غير المرزوقي، الذي قال منذ سنة 2006 إن نظام بن علي يتهاوى، وإنه برجوعه إلى تونس في تلك السنة على الرغم من عدم الترحيب به من قبل السلطات التونسية كان ينتظر سقوط النظام في تلك السنة. وقد دعا التونسيين من منفاه في فرنسا إلى العصيان المدني، إلا أن نظام بن علي تمكن من الصمود والمقاومة ولكنه كان يسير، على حد تعبير المرزوقي، في طريق مسدود. وأثبتت الأيام أن تنبؤه كان في محله، وها هو النظام ذهب بلا رجعة وها هو على كرسي الرئاسة الذي تمسك به بضراوة خلال مفاوضاته مع الأحزاب المكونة للائتلاف الحاكم بعد الإعلان عن انتخابات المجلس التأسيسي. وعلى الرغم من تعرضه لكثير من التهديدات طوال وجوده في تونس، فقد عبر المرزوقي بصوت عال عن سخطه من وضعية الانغلاق السياسي التي تعيشها تونس والتضييق على الحريات، مما مثل إزعاجا متواصلا لنظام بن علي. ولعدم ثقته في ذاك النظام وتراجعه عن الوعود التي قدمها في بيان 7 نوفمبر (تشرين الثاني) من سنة 1987، فقد قاد المرزوقي في أكثر من مناسبة حملات ضد ما يسميه «النظام البوليسي لبن علي» وعمل طوال سنوات على التشهير بانتهاكاته لحقوق الإنسان في كل المحافل الدولية مما جعله يعيش المنفى الاضطراري لمدة قاربت 15 سنة قضاها في فرنسا. ويعتبر المرزوقي من بين السياسيين التونسيين الأوائل الذين تنبأوا مبكرا بسقوط نظام بن علي. ويفسر ذلك بالخصوص بابتعاده عن حقوق المواطنة والقبض على تونس بقبضة من حديد وتشتيت النخب السياسية والاجتماعية والتضييق على الناشطين السياسيين بمختلف انتماءاتهم. ولم يعرف عنه تراجع عن المواقف الأساسية التي يطرحها منذ عقود من الزمن ولم يكن انتصاره في انتخابات المجلس التأسيسي مفاجئا للكثير من المتابعين للمشهد السياسي فقد «جازاه» التونسيون على مواقفه المبدئية الصلبة ضد الديكتاتورية والاستبداد. ينحدر المرزوقي من عائلة من الجنوبالتونسي، وبالتحديد من قبيلة «المرازيق»، وهي إحدى أهم القبائل العربية في مناطق الصحراء التونسية. ولد يوم 7 يوليو (تموز) عام 1945 في مدينة قرمبالية (مدينة راجعة بالنظر إداريا لولاية – محافظة - نابل الواقعة على بعد 60 كلم شمال شرقي العاصمة التونسية). ويبلغ اليوم من العمر 66 عاما، ويرأس حزب المؤتمر من أجل الجمهورية منذ الإعلان عن تكوينه سنة 2002 لكنه لم يحصل على الترخيص للعمل القانوني إلا بعد ثورة 14 يناير (كانون الثاني) الماضي. نشأ المرزوقي في تونس العاصمة والتحق خلال الفترة المتراوحة بين سنة 1957 وسنة 1961، بالمدرسة الصادقية بالعاصمة التونسية وهي من بين المعاهد التي درس فيها معظم السياسيين الذين حكموا تونس، من بينهم الحبيب بورقيبة ومحمد مزالي. غادر المرزوقي تونس للالتحاق بوالده سنة 1961 وهناك واصل دراسته الثانوية وتوج بالفوز في المناظرة العامة العربية مما مكنه من الانتفاع بمنحة جامعية لمواصلة دراسته الجامعية بفرنسا كطالب في جامعة «ستراسبورغ» وبالتحديد في كلية علم النفس. حصل سنة 1973 على شهادة الدكتوراه في الطب وتخصص في طب الأعصاب. وعاش المرزوقي مع عائلته في مدينة طنجة المغربية حتى عام 1964، ثم سافر إلى فرنسا وتزوج هناك، فأنجب مريم ونادية. وقد أقام في فرنسا لمدة 15 سنة. يعرف عن المرزوقي اطلاعه الواسع على الثقافات العالمية من بينها الهند التي قضى بها مدة شهر سنة 1970 وتعرف على الثقافة المميزة لها بمناسبة مئوية غاندي. وقد جاب الهند من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال. كما زار الصين ضمن وفد صحي، ووقف هناك على تجربة الطب في خدمة الشعب. ولم يعرف خلال تلك الفترة نشاطات سياسية للمرزوقي، ولكن عودته إلى تونس سنة 1979 في ظل الغليان الاجتماعي الذي رافق نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي، كانت كافية لاطلاعه على المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي كانت تعاني منها تونس إلى جانب معاناة البلاد من حكم الحزب الواحد وسيطرة شخصية الزعيم الحبيب بورقيبة على الحياة السياسية بأكملها. عمل أستاذا مساعدا في قسم الأعصاب في جامعة تونس وشارك في تجربة الطب الشعبي الجماعي في تونس. شغل لدى عودته إلى تونس سنة 1979 خطة أستاذ في الطب بالمستشفيات الجامعية التونسية ثم كلف بالإشراف على تجربة في مجال الصحة الإنجابية في خطة أستاذ في الطب الجماعي بجامعة تونس، وهي إحدى التجارب التي جلبها من خلال اطلاعه على تجربة مماثلة في الهند. عرف عن المرزوقي مشاركته الفاعلة في برامج حول التلقيح ومراقبة الحمل والاهتمام الكبير بوفيات الرضع وكذلك الإعاقة لدى الأطفال وتنقل بين كثير من الدول العربية والإسلامية من بينها تونس، واكتشف حينها مسألة سوء معاملة الأطفال ودافع من خلال المنظمات الدولية عن هذا الملف وأعطاه الأولوية ضمن تدخلاته. وأسس للغرض شبكة للتوقي من سوء معاملة الأطفال في أفريقيا وذلك بمشاركة مجموعة من الأساتذة الجامعيين. كما اهتم بمواضيع ذات صلة بصغار السن على غرار أطفال الشوارع واستغلال القصر والإساءة إلى الفتيات. وإلى حدود تغيير 1987 الذي قاده بن علي، لم تعرف مواقف سياسية كبرى للمرزوقي، إلا أن عقد التسعينات وتراجع الرئيس التونسي السابق عن وعوده بالحرية والانفتاح السياسي ومواجهته كل السياسيين المخالفين له في الرأي والزج بآلاف المناضلين السياسيين المنتمين لحركة النهضة في السجون، قادته إلى مواجهة مفتوحة مع نظام بن علي خاصة وقد أصبح المرزوقي رئيسا للرابطة التونسية لحقوق الإنسان. وعرف عنه دفاعه المستميت عن ملف الحريات الفردية والعامة حتى بالنسبة لمن يخالفونه الرأي على غرار قيادات حركة النهضة، وهو ما يفسر اليوم التحالف الكبير بين حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي ظل المرزوقي يرأسه ودخل عن طريقه انتخابات المجلس التأسيسي، وحركة النهضة التي كانت معه في نفس صف النضال ضد النظام الصلب لبن علي. وفي مارس (آذار) سنة 1994، اعتقل المرزوقي ثم أطلق سراحه بعد أربعة أشهر من الاعتقال في زنزانة انفرادية. وقد أفرج عنه على خلفية حملة دولية وتدخل من زعيم جنوب أفريقيا نيلسون مانديلا، إلا أن خروجه من الاعتقال لم يمنعه من دخول عالم السياسة من بابها الكبير فقد أسس سنة 1997 مع ثلة من النشطاء السياسيين المجلس الوطني للحريات، ونشط المرزوقي في معظم منظمات حقوق الإنسان سواء منها المحلية والعالمية، فكان لسنوات عضوا ناشطا في منظمة العفو الدولية وكذلك المنظمة العربية لحقوق الإنسان وذلك خلال الفترة بين 1989 و1997. وفي سنة 2001 اضطر لمغادرة تونس واختار المنفى الإرادي ليعمل محاضرا في جامعة باريس. لكنه عاد إلى تونس في 18 يناير (كانون الثاني) بعد أربعة أيام من الإطاحة بنظام بن علي. واتهم حينها من قبل المتابعين للشأن السياسي التونسي ب«الركوب على الثورة». ولم تشفع له زيارة قبر التونسي محمد البوعزيزي مؤجج الثورة في تونس في تغيير نظرة التونسيين إليه. سخر منه البعض وتهكم البعض الآخر وحوصر في بعض الاجتماعات السياسية وتم التضييق عليه في البعض الآخر ودفع الثمن نظارته المميزة له، إلا أنه ظل متمسكا بصواب نظرته من خلال النظارة السميكة التي استغلها خلال الحملة الانتخابية وجعلها رمزا من رموز حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي يقوده منذ تأسيسه قبل نحو عشر سنوات من الآن. عرف عن المرزوقي تمركزه الجيد بين أقصى اليمين وأقصى اليسار. وحينما شنت أحزاب أقصى اليسار حملة قوية على أقصى اليمين ممثلا في حركة النهضة، التزم المرزوقي مبدأ الاعتدال وقال إنه يقبل بحزب النهضة في الساحة السياسية ما دام ملتزما بمكاسب التونسيين ويبتعد عن الدولة الدينية التي تلتصق بنظرته للحياة السياسية. وهذا الموقف هو الذي مكنه من اكتساب الكثير من أصوات التونسيين الذين غالبا ما يساندون التوجهات المعتدلة في الحياة السياسية. فالمرزوقي يقف إلى جانب اليمين دون تطرف ويعطي للهوية العربية الإسلامية مكانتها في توجهاته السياسية ولا يجعلها في الصف الثاني، إلا أنه كذلك ظل يدافع عن المبادئ الحداثية التي عرفها سواء في تونس خلال الفترة البورقيبية أو كذلك من خلال إقامته في فرنسا وتنقلاته بين مختلف ديمقراطيات العالم. هذه الوضعية الاستثنائية جعلت المرزوقي يتمكن بخبرته السياسية الواسعة من تحقيق معادلة تونسية صعبة تحافظ على ميزة الانفتاح الاجتماعي في تونس دون أن ينساق وراء التيارات التغريبية وأن يبدو في عيون التونسيين سياسيا بلا هوية مميزة. ولذلك خاطب المرزوقي التونسيين بلغة سهلة يفهمها العامل في الضيعة الفلاحية تماما كما يرتقي الأستاذ الجامعي لفهمها وهو ما جعله يكتسح منافسيه في الانتخابات الماضية خاصة إذا قارنا نتائج حزب المؤتمر ببقية الأحزاب السياسية ذات التوجهات اليسارية التي منيت بخسارة فادحة في الانتخابات المؤدية إلى المجلس التأسيسي. شارك في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي مع حزبه المؤتمر من أجل الجمهورية الذي حاز على المركز الثاني ب 29 مقعدا بعد حركة النهضة الإسلامية. وقد حصل المنصف المرزوقي على مقعد عن الدائرة الانتخابية نابل 2. التونسيون يرون اليوم أن المرزوقي كان صادقا في وعوده وكلامه طوال مسيرته النضالية ولم يحاول تغيير جلده مثلما فعل الكثير من اليساريين التونسيين الذين تمكن نظام بن علي من استمالتهم وإدماجهم ضمن فريقه الحكومي وقبضوا مقابل ذلك حقائب وزارية لمدة سنوات دون أن يوجهوا أي انتقادات من أي نوع ل«ماكينة» الحكم التي داست على معظم الحقوق وتعللت بإعطاء الملفات الاجتماعية والاقتصادية الأولوية على حساب الملفات السياسية. لم يحصل المرزوقي على الأصوات التي مكنته من احتلال المرتبة الثانية في الانتخابات عبر أصوات حركة النهضة، بدليل أن النهضة حصلت على أعلى نسبة من الأصوات، كما أن أصوات المنتسبين للتجمع الدستوري الديمقراطي (حزب بن علي المنحل) من غير المرجح أنه حصل عليها. ويرى الكثير من المتابعين للمشهد السياسي التونسي أن أصوات التجمع قد يكون استفاد منها تيار العريضة الشعبية الذي أسسه الهاشمي الحامدي. فالمرزوقي حصل على الأصوات التي عاقبت أحزاب المعارضة السابقة التي لم تكن معارضة حقيقية لبن علي، ولكن كذلك حصل على مجموعة كبيرة من الأصوات لأولئك الذين كانوا يتوجسون من سيطرة الأحزاب ذات التوجهات الدينية على الحياة السياسية. وقد دعا في حملته الانتخابية إلى التصويت فقط لمن دفعوا ثمنا باهظا خلال معارضتهم للنظام الديكتاتوري لبن علي، ورسم للتونسيين قائمة حزبية ضمت حزب المؤتمر وحركة النهضة وحزب العمال الذي يقوده حمة الهمامي. ونجح في الاختيار بنسبة الثلثين. ويرى الكثير من المحللين أن إمكانية نجاحه في ذاك المنصب تتوقف على كثير من الشروط والعناصر. ويقول التونسي منير الحداد، مسؤول سابق بفرع تونس لمنظمة العفو الدولية، إن دور المرزوقي سيكون أقرب للدفاع عن وجهة نظر المجتمع المدني التونسي من دور السلطة التنفيذية بأجهزتها المختلفة. وسيلعب دورا مرجحا عند صياغة الدستور الجديد وهو سيكون إلى جانب ذلك وبصفة شخصية مؤتمنا على ملفات الحرية وحقوق الإنسان وهي أضواء حمراء سيجد المرزوقي نفسه مدافعا عنها بضراوة.