أينما يحط رحاله تكون «أصيلة» حاضرة، بفنها وفكرها، وحينما تحضر «أصيلة» تحضر هموم الثقافة العربية، خاصة في ظل «الربيع العربي» الذي يستعد ليتحول في «أصيلة» إلى نقطة حوار ضمن قراءة فكرية للمتغيرات التي تعصف بالعالم العربي. وعلى هامش مشاركته في فعاليات ثقافية في البحرين نهاية الشهر الماضي، التقت «الشرق الأوسط» وزير الثقافة المغربي الأسبق محمد بن عيسى الذي شغل في السابق أيضا وزارة الخارجية، بدوره الثقافي وخاصة فيما يتعلق بمهرجان «أصيلة» الذي يتولى الأمانة العامة له. وأجرت معه الحوار التالي: * كيف ترى واقع الثقافة العربية؟ - الواقع أن «العوالم العربية» تمر بالكثير من الأزمات. وهناك آراء تشير إلى انحصار النخب العربية في الحركات العربية، في حين أن المثقفين العرب الفاعلين في غالب الأحيان لا يشاركون في القرارات ولا يفعلون ما يكتبونه أو يذيعونه أو يبدعونه، ولكن ليس فيما يتعلق بالإنتاج الكتابي أو المسموع أو المرئي وما يقولونه لا ينعكس عادة في المنظور التنموي لبلدانهم.. * لديكم مهرجان «أصيلة».. فكيف تعاطيتم مع هذه الإشكالية؟ - في موسم «أصيلة» الثقافي العالمي كانت لدينا ندوة تحضيرية عن انحصار النخب في حركات التحديث في العالم العربي وشارك فيها نحو 25 من المفكرين والمثقفين العرب واعتبرناها تحضيرية لمؤتمر كبير سننظمه العام المقبل، بحضور أكثر من 70 مثقفا عربيا. نحن في «أصيلة» نتفادى دائما أن تتحول الندوة إلى محاكمات، بل نعمل على الخروج بتصور حقيقي للواقع الثقافي، أو ما يمكن أن توصي به قطاعات مسؤولة، سواء في القطاع الحكومي أو القطاع الخاص لإشراك المثقفين والنخب في وضع التصاميم والمخططات التنموية بصفة عامة، وإن كان لكل بلد عربي خصوصيته ونخبه.. * ماذا بشأن المغرب؟ - إذا تحدثنا عن المغرب فإن له ميزة، حيث يضم عددا ضخما من مؤسسات المجتمع المدني، واتحاد الكتاب المغاربة، واتحاد الفنانين، واتحاد المذيعين، وكذلك المؤسسات المدنية مثل مؤسسات المرأة والشباب وغيرها التي تعمل كنخب في التوجيه أو التعبير عن متطلبات التنمية، وأخيرا لما كانت هناك مشاورات حول الدستور الجديد فقد كان بعض هذه الهيئات حاضرة ومشاركة وأسهمت في وضع أطروحاتها حول صياغة الدستور في المملكة المغربية وهذا في حد ذاته شيء إيجابي. * إلى أي حد انعكس الحراك الثقافي في المغرب على الجانب السياسي؟ - إلى حد كبير لأن الأحزاب السياسية لها نخبها، وكذلك داخل المؤسسات سواء الاقتصادية أو المجتمعية الأخرى التي لها نخبها المعروفة وتعبر عن آرائها ونقرأ عنها في الصحف كما تنظم عدة موائد مستديرة في التلفزيون يشارك فيها نخب مغربية وأكاديمية وممثلو الهيئات المختلفة. وبقي أن نعرف أو نحدد كيف يمكن تفعيل هذه الآراء وهذه التصورات لتصبح فاعلة في وضع القرارات، وخاصة قرارات التنمية. وعندما نتحدث عن النخب فإنه يجب ألا نستثني المهندسين المعماريين وغيرهم من الكفاءات المهنية، ولا نتكلم عن مشاركة نخب سياسية فقط. * لكن ما زال الحراك الثقافي العربي ضعيفا وغير قادر على الانفتاح على الثقافات الأخرى؟ - هذا موضوع له وجهتان: فهناك ربما تقصير من جانبنا في بعض الدول العربية، وهناك تقصير أيضا من الغرب، وأنا منذ كنت وزيرا للثقافة في الثمانينات كنت من دعاة الترجمة ليعرفنا العالم وليعرف العالم الحداثة التي نعيشها والتطور الذي تعيشه شعوبنا. فالكتابات والإبداعات التي يكتبها ويبدعها كتابنا لا تصل إلى الآخر لأننا نكتبها بلغتنا، وقد بدأت الآن حركة للترجمة إلى اللغات الأجنبية. وهناك مجلس قومي للترجمة يرأسه جابر عصفور، إضافة إلى مشروع «كلمة» في أبوظبي يختص بالترجمة وأعتقد أن الحكومات ووزارات الثقافة لها دور كبير في هذا الجانب ولكن للأسف الشديد أن ما نشاهده في هذا الجانب هو أن ميزانيات وزارات الثقافة محدودة جدا والثقافة دائما هي الجدار القصير في البناء التنموي في بلداننا. جيل الإنترنت * هناك لغة يميل إليها الجيل الحالي (جيل الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي) ربما لا تتقن التواصل معها النخب الثقافية.. هل يشغلكم هذا الجانب؟ - يصعب التعميم وهناك عوالم عربية وليس عالما عربيا مقولبا يمكن أن نتحدث بشأنه، والسعودية مثلا لها خصوصيتها وتقاليدها وتصوراتها للأشياء، وكذلك المغرب أو مصر أو البحرين وغيرها، ولكن ما يحدث الآن في كثير من الدول العربية أنك تجد أن أغلب النخب الشبابية يلتحقون بالمؤسسات التعليمية الأجنبية، وفي غالب الأحيان لا تكون لهم المعرفة العميقة لتاريخهم، وهم يفتقدون - أحيانا - لغة بلدانهم في التواصل. ويمكن القول إن هناك نوعا من الاستيلاب الثقافي، وخاصة لدى بعض الشباب الذين ينتمون للطبقات الميسورة، ويجب ألا يفهم من كلامي أني أنكر على هؤلاء ما اختاروه من تعليم، بل يجب علينا أيضا في برامجنا التعليمية، سواء كانت برامج في مدارس الدولة أو في المدارس الأجنبية أن نجبرهم على دراسة تاريخ البلد وتدريس آداب البلد وليس التاريخ السياسي فقط، بل التاريخ الحضاري الذي مرت به بلدانهم وهذا ما سيثري الكم المعرفي للشاب، وبالتالي ربما لا ينشغلون بأشياء أخرى بعيدة عن جوهر الثقافة. * كيف يتفاعل الناس مع المنتج الثقافي؟ - الملاحظ أن ما يطبع من كتب وإصدارات في العالم العربي قليل جدا بالنسبة لحجم السكان، حيث إن ما يصدر في بلدان أخرى يتناسب مع الكثافة السكانية مقارنة بالبلدان العربية، في حين أن القراءة في العالم العربي ضعيفة. ويرجع البعض ذلك إلى التكلفة المادية للكتب، حيث إن المواطنين بصفة عامة وذوي الدخل المحدود ليست لديهم القدرة على شراء الكتب. وهنا يأتي دور الدولة التي باستطاعتها أن توفر تسعيرات بأقل من التكلفة. وأنا دائما أقول إن دولنا تدعم السلع الغذائية الضرورية، وحبذا لو تضاف لها الثقافة، وخاصة فيما يتعلق بالطباعة ووسائل أخرى مثل «غوغل» و«فيس بوك» و«تويتر». الربيع العربي * كيف ترى انعكاس «الربيع العربي» على الثقافة؟ - أعتقد أن هذا سيتم تقييمه بعد نحو عشر سنوات من الآن. لأن الثقافة مثل التعليم، فعندما تضع وزارة التعليم برنامجا تعليميا لا تظهر نتائجه إلا بعد عشرين سنة تقريبا، وبالتحديد بعد مرور جيل كامل مر على مراحل التعليم من الابتدائي إلى الجامعة، أما ما يتعلق بالتأثير وما نشاهده الآن من حراكات في بعض الدول العربية فمن الصعب أن نقيمه الآن. حيث ستكتب فيما بعد روايات وكتابات وستنتج أفلام لا نعرف ماذا سيكون تأثيرها وخاصة على سلوكيات المجتمع. * لكن هناك من يقول إن الأزمة في العالم العربي هي أزمة ثقافية بالدرجة الأولى؟ - قلت إن الثقافة ككل القطاعات الأخرى تعاني، والثقافة ليست منتجا معلقا في السماء، بل هي جزء من الحراك الإنساني والفكر والإحساس والقيم، ومما لا شك فيه أنه سيكون لهذه الحركات تأثير، أرجو أن يكون تأثيرا إيجابيا يؤسس لجيل آخر أكثر مسؤولية وأكثر معرفة بقضاياه، لأن الفترة الآن هي فترة انفعال في كثير من الأحيان ومن الصعب أن تقيم أوضاعا مثل هذه في كتابات أو إنتاجات ثقافية. النقد والثقافة * وماذا عن مستوى النقد في العالم العربي؟ - في الواقع نحن نفتقد للناقد الجدي المتخصص. وإذا كان هناك نقاد جديون فإنك تجد قراء قليلين يقرأون لهم. والذي يدفع للشغف هو الناقد وعندما تقرأ نقدا من كاتب محترم فأنت ستشتري الكتاب، كما هو حاصل في الغرب. كما أن تسويق الإنتاج الثقافي العربي ضعيف، حتى أنك لا تجد إعلانات تجارية في الإعلام العربي للترويج للكتب والمنتج الفكري والإبداعي. * هل للمحاذير الحكومية دور في الحد من غزارة الإنتاج؟ - الحكومات أو لنقل وزارات الثقافة لا تقرض شعرا ولا تكتب مسرحيات. وإذا استثنينا الظروف السياسية فإنه يجب ألا نذنب أنفسنا. وهناك في الغرب لا تمنع الكتب بالشكل الذي عندنا، ولكن ربما بشكل آخر، وذلك عندما يتوقف الأمر على المساس بالأمن القومي أو المنظومة الأخلاقية أو غير ذلك. ولكن بالأساس أعتقد أن العالم العربي حاليا (يتدمقرط - يتحول للديمقراطية) ولم نشهد حرية في العالم العربي كما نشهدها اليوم. وبقي أن نتحمل نحن في الجانب الثقافي مسؤوليتنا، إذا علمنا أن الخط رفيع جدا بين الحرية والإباحية. * لكن النخب لم تحظ بالاهتمام والتقدير الكافي؟ - لا، بالعكس. النخب تحظى بتقدير ولها حضور قوي ولكن الحضور وحده لا يكفي، بل يجب تفعيل هذا الحضور، وأن يصبح جزءا من سياسة التنمية الشاملة، على ألا تبقى فقط مساحيق تجميلية في الحفلات والجوائز. مهرجان «أصيلة» * أنت الأمين العام لمهرجان «أصيلة»، هناك من ينظر للمهرجانات الثقافية ومنها مهرجان «أصيلة» على أنها مجرد حفلات لاستعراض الفلكلور الشعبي.. كيف تراها أنت؟ - أنت ضربت مثالا سيئا. فمهرجان «أصيلة» يعد موسما ثقافيا بمفهومه الصحيح وليست هناك فلكلورات. حيث بدأ المهرجان بفنانين تشكيليين وأخرجنا مفهوم الفن التشكيلي من المتحف إلى الشارع، وكذلك الجامعة الصيفية التي تنظم كل عام وتحتضن عدة مواضيع تمس واقعنا كعرب. وعندنا جوائز مهمة مثل جائزة الرواية العربية وجائزة الشعر الأفريقي وجائزة بلند الحيدري للشعراء العرب الشباب. والدندنة تكون في الجانب الموسيقي ولكن ذلك محدود. وفي الثقافة هناك الجانب الذي يعنى بالمصير في حين أن الجانب الترفيهي مهم أيضا لأن الإنسان لا يعيش بالخبز وحده. * ماذا حقق مهرجان «أصيلة» بعد 33 عاما للثقافة العربية؟ - لا يمكن أن نقيس نجاح «أصيلة» بالكم، ولكن ما حققه مهرجان «أصيلة» هو سنة التلاقي، حيث يلتقي العرب مع الأفارقة والأميركيين والآسيويين والأوروبيين وغيرهم من خلال مفكريهم ومبدعيهم وعلمائهم. فهذا إنجاز كبير أخذ منا 33 سنة، وكل عام نتلقى عدة طلبات من الراغبين في المشاركة. و«أصيلة» مدينة صغيرة لا يتعدى سكانها 35 ألف نسمة، كما أن قدراتنا الإيوائية محدودة ولا نستطيع أن نستضيف أكثر من قدراتنا. وكل عام لدينا أكثر من 500 مشارك، وقد أسهمت «أصيلة» في إبراز القدرات الإبداعية في الفنون التشكيلية العربية وغيرها والالتقاء وتبادل المعرفة والتجربة والخبرات. وعدد هائل من الفنانين، وخاصة فناني عالم الجنوب. ونحن في «أصيلة» نشدد على التعاون ولكن الغربيين ليس لهم الاهتمام الكافي والجدي في التفاعل مع فعالياتنا الثقافية في عالم الجنوب سواء في العالم العربي أو في أفريقيا وأميركا اللاتينية. وفي كثير من الأحيان يستصغروننا ولا يعيروننا الاهتمام الكافي، خاصة في الظروف الحالية التي يمر بها العالم العربي في ظل حركات الإرهاب والحركات الإسلاموية، وهذا ما جعل عددا من وسائل الإعلام الغربية مغيبة في الحديث عن التحديث تعيشه الذي الشعوب العربية والأفريقية وغيرها في عالم الجنوب. * ما هي الطموحات لمهرجان «أصيلة» في المستقبل؟ - نسعى لتحويل مؤسسة منتدى «أصيلة» إلى نوع من (الثينك تانك - خزان لتوليد الأفكار) دائم له مشروعه الثقافي الدولي ويؤسس لأرضية صلبة للثقافة والإبداع، ونتطلع لبناء مدرسة للفنون التشكيلية والتصاميم ومعهد موسيقى، وبالمناسبة لدينا نحو 400 طفل يتعلمون الموسيقى في مكتبة الأمير بندر بن سلطان، وأملي كبير أن تتحول بعض المقومات إلى مشاريع مثل المارينا، والإخوان القطريين كانوا مهتمين بإقامة «مارينا أصيلة»، ومنطقة صناعية غير ملوثة توفر فرص العمل للشباب وأعتقد أن الإنسان المتمدين يجد لنفسه طريقا إلى النمو وإلى إفراز سبل العيش إذا كانت تربيته تربية صالحة. * وماذا لديكم في مهرجان «أصيلة» القادم؟ - لدينا مؤتمر النخب العربية الذي سيكون الأول من نوعه في المنطقة، بعد أن نظمنا قبل أربع سنوات أول مؤتمر للموسيقى في العالم الإسلامي وحضره نحو ستين باحثا موسيقيا من كل أنحاء العالم، ونتمنى أن يكون لهذا المؤتمر رد فعل كبير. والطموحات كبيرة والتصورات كاملة وأنا لا أعمل بمفردي، بل لدينا مؤسسة تضم مجموعة أفراد ونتعامل مع أصدقائنا من المفكرين والكتاب والمهتمين بالعمل الثقافي في العالم العربي، وكذلك في أوروبا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.