لم أتفاءل كثيرا عندما بدأت تغطية الثورة الليبية في الكذب. ففي الأسبوع السابق لسيطرة الثوار على طرابلس، أعلن الإعلام على مسامع الجميع أن الثوار قبضوا على سيف الإسلام القذافي، وقتلوا ابن القذافي الشرس خميس الذي يقود كتائب القذافي، وأن الابن الأكبر للقذافي محمد قد تمت محاصرته في بيته، ومن تحت الحصار تحدث «محمد» لقناة «الجزيرة» عبر التليفون. وما هي إلا 24 ساعة أو أقل حتى ظهر سيف الإسلام في قلب طرابلس، وبعدها أيضا قيل لنا إن محمد القذافي أفلت من يد الثوار. بالطبع هذه حكايات لا تصدقها حتى عقول الأطفال، ومع ذلك كان هناك البعض في الإعلام يروجون لها وكأنها حقائق. يومها لم أتردد في أن أقول ل«سكاي نيوز» التي كانت نغمتها احتفالية بسقوط القذافي: إنني متردد كثيرا في دعم أخبار عن ثورة ليبيا، خصوصا أن أخبار الثورة بدأت التغطية لها في الكذب البواح وفي استعجال نهاية نظام القذافي، مما جعل الإعلام الغربي ومعه بعض الإعلام العربي وكأنه قسم للعلاقات العامة تابع لحلف الناتو. قلت يومها إن الموضوع الليبي سيستمر معنا طويلا، ولا بد أن نتأهب لتغطية جادة للحدث، بدلا من تلك النغمة الاحتفالية التي صاحبت دخول الثوار إلى طرابلس. لم يقل لنا الإعلام من الذي فتح طرابلس، هل هم الثوار أو الجماعة الإسلامية المقاتلة؟ لم يقل لنا الإعلام كثيرا عن عبد الحكيم بلحاج القائد العسكري والحاكم الفعلي لطرابلس. قلت أيضا ل«سكاي نيوز» يومها إن يوم سقوط مبارك خرجت القاهرة عن بكرة أبيها احتفالا بنهاية النظام، وامتلأت الميادين، ولكن في طرابلس كان أكبر تجمع للاحتفال بسقوط المدينة لا يزيد على 500 فرد. لم تخرج طرابلس لتأييد الثوار، فهل كان الخوف هو الحاكم للمشاعر أو أن أهل طرابلس المدنيين كانوا مستغربين لهذا الوجود من قوات المدن الأخرى، وقالوا في أنفسهم، كما قال القذافي: من أنتم؟ أو من أين أتى هؤلاء؟.. عدم خروج أهل طرابلس يدعو إلى القلق، ولا يوحي بأن القصة الليبية انتهت كما صورها الإعلام المستعجل لنقل الكاميرات إلى سوريا أو إلى اليمن. المشكلة في تغطية ليبيا هي أننا نتحدث عن دولة مساحتها مليونا كيلومتر مربع تختلف مناطقها حضاريا وثقافيا، ولكنها جميعا تقع تحت مسمى ليبيا. ليبيا ذلك البلد المغلق غير معروف للدارسين إلا القلة من أبناء ليبيا أنفسهم ويعدون على أصابع اليد الواحدة، فنقص المعلومات جزء أساسي من سوء التغطية للحدث الليبي. فالجنوب في ليبيا غير الشمال، والصحراء الليبية وأهلها حكاية أخرى، وطرابلس وبنغازي حضارتان مختلفتان، ومع ذلك نصر جميعا على أن ما ينسحب على بنغازي ينسحب على كل ليبيا، وهذا غير صحيح. المشكلة الثانية هي أن ليبيا من البلدان التي يمكن أن تطلق عليها عبارة المجتمع غير القابل للحكم (ungovernabale society). في تلك المنطقة الشاسعة حتى القذافي نفسه كانت له سلطة على ليبيا عبر وساطات محلية من القبائل وشيوخ العشائر ووجهاء المناطق، لكن القذافي ورغم كل هذه السنين لم يكن ليتحكم في كل ليبيا. وبالتالي فإن المجلس الانتقالي أيضا لن تكون له القدرة على التحكم في هذا البلد الشاسع. الإعلام لم يقل لنا شيئا عن المجلس الانتقالي وعن تنوعه وهل هو يمثل كل ليبيا أو أنه من بنغازي مضافا إليه الجماعة الإسلامية المقاتلة، الشعب يريد أن يعرف. الإعلام أيضا لم يقل لنا لماذا في سرت وسبها وحتى في طرابلس لم يكن هناك سوى ثوار مصراتة أو مجاهدي مصراتة، لماذا ينتظر الجميع وصول ثوار مصراتة والزاوية ليسيطروا على مطار طرابلس، نفهم القرب بين مصراتة وطرابلس، ولكن ما علاقة ثوار مصراتة بسبها أو ودان مثلا؟ ما الذي جعل ثوار مصراتة تلك القوة الضاربة التي تكاد تكون هي من حرر ليبيا كلها من حكم القذافي، حسب ما نسمعه من الإعلام؟ أم أنها مجرد دعاية إعلامية كاذبة مثل القبض على سيف الإسلام ومقتل خميس؟.. الإعلام، لا الشرقي منه ولا الغربي، قال لنا شيئا عن ذلك. فشل الإعلام الغربي والشرقي في تغطية ضحايا صواريخ وقنابل «الناتو»، وكأن «الناتو» يضرب فقط في الإسمنت والمباني ولا ضحايا هناك. أسوأ التقديرات تقول بأن هناك ما يقرب من خمسين ألف شخص قتلوا في الثورة الليبية، فكيف مات كل هذه الأعداد؟ خميس القذافي مات، حسب الإعلام، على الأقل أربع مرات ولم نحصل له على جثة حتى الآن! مات أيضا المتحدث باسم القذافي موسى إبراهيم، ولكن فجأة نجد أن إبراهيم يتحدث للإعلام عن صمود القذافي وكتائبه! الإعلام لم يقل لنا من الذين يقاتلون مع القذافي حتى الآن.. هل هم القذاذفة، أو أن هناك عناصر أخرى لا نعرفها؟ بالطبع نظام القذافي ككل الأنظمة الديكتاتورية ورط الكثيرين في خدمته، والبعض منهم لهم مصالح، وبالتأكيد سيقاتل هؤلاء إلى الرمق الأخير إن لم تكن هناك تعهدات من الثوار بالعفو عنهم. الإعلام أيضا لم يقل لنا شيئا عن «خرطة» البشر المنضوين تحت لواء القذافي حتى هذه اللحظة. خطأ كبير آخر من ضمن أخطاء التغطية، وهو موضوع المرتزقة الأفارقة. ليبيا بلد نفطي جاءه الأفارقة كما جاءه العرب من مصريين وغيرهم بالآلاف للعمل، وكذلك جاء العمال الأفارقة، فليس من المعقول أن ننظر إلى كل من سحنته سمراء على أنه ضمن مرتزقة القذافي، فأي عنصرية بغيضة تلك التي نروج لها؟! لطالما حاولت أن أفهم الشأن الليبي، ولكنني وجدت أن الإعلام عائق يحول بيننا وبين الفهم وليس مصدر تنوير للحقيقة أو كشف عن الأخبار. الإعلام تجاه ليبيا يحتاج إلى مراجعة جادة جدا، لأن قصة ليبيا ستبقى معنا على الأقل لعشر سنوات قادمة.