هل حمل العقيد معمّر القذافي معه، في طريقه الى «المخبأ» ، نسخاً من كتابه الأخضر وقصصه وسائر نصوصه التي صنعت منه، في نظر جمع من المفكرين والكتّاب والنقاد، واحداً من أبرز الأدباء العرب المحدثين؟ أتخيله جالساً في مخبأه ومن حوله أكداس من «الكتاب الأخضر» في ترجماته التي فاقت الأربعين ومنها الترجمة العبرية التي شاء ان يعلّم العدو الإسرائيلي من خلالها كيف عليه ان يحكم انطلاقاً من المبادئ التي أرساها في هذا الكتاب «اليتيم». أتخيّله ايضاً يحيط نفسه بأكداس أخرى من قصصه التي صدرت في طبعات جمّة وبما كتب عنها وعنه، أديباً ومفكراً وسياسياً، لا سيما تلك المجلدات الثلاثة الضخمة التي ضمت اكثر من مئة بحث كتبها نقاد وأدباء، بعضهم معروف وبعضهم لا، وقد التقوا جميعاً في مديح «الزعيم» وتحليل نصوصه واستخلاص العبر منها والأمثولات والخصائص الأسلوبية والجمالية... أتخيّل القذافي منكبّاً في عزلة «المخبأ» يقلّب الصفحات التي كُتبت عنه وما أكثرها، شاتماً هؤلاء الكتّاب الذين تخلوا عنه بعد سقوطه عن سدة الحكم فلم يقرأ لواحد منهم، كبيراً كان أم صغيراً، مقالاً يدافع عنه أو يمدحه أو حتى يرثي لحاله. لقد هجره هؤلاء فعلاً وسرعان ما نسوا فضله عليهم والأموال التي أمر بصرفها لهم والحياة الباذخة التي وفرها للبعض منهم... يشتمهم واحداً تلو واحد، لكنه يرفض تمزيق المقالات والدراسات التي كتبوها عنه، انها الشهادة عليهم وعلى إذلالهم بحفنة من الدولارات. ولعل هذه المقالات والدراسات الوافية أضحت اليوم مرآة له ، يبصر فيها وجهه «القديم»، فهو ليس بقادر على استيعاب الهزيمة التي حلّت به ولا على تصديق «الإشاعات» التي تصل إليه كلما نظر الى التلفزيون وقلّب شاشاته. ليس هو ايضاً بقادر على النظر في المرآة، فهذا الذي يطل عليه ليس هو نفسه بل صورة أشاعها عنه أعداؤه مثل صور المجرمين المطلوبين التي تعلّق على الجدران. يفتح القذافي في كتابه «الأخضر» ويلعن الساعة التي وضع فيها هذا الكتاب لمواطنين أميين لا يستحقونه ولا يستحقون أن يقرأوا آراءه وأفكاره التي أمضى سحابة أعوام يستنبطها وينحتها لتمسي بمثابة الصراط الذي عليهم سلوكه. يقلّب القذافي صفحاته الخضراء، ويخامره شعور بالندم على ما خطّ من أسطر لاولئك المواطنين الذين لم يقرأوه جيداً ولم يسعوا الى فهمه فخانوه عند أول سانحة تسنّى لهم أن يخونوه فيها. خانوه وطعنوه في الظهر لا وجاهةً، نبذوه وأفردوه إفراد البعير... يقرأ القذافي افكاره، ويشعر انه لم يعد قادراً على استيعابها وفهمها في هذه اللحظة الحرجة. ماذا يعني ان يقدّم في كتابه حلاًّ نهائياً لما يسميه «مشكلة أداة الحكم»؟ يسأل نفسه: هل أنا مَن قدّم هذا الحل أم أن أحداً سواي تلبّس اسمي؟ يشعر القذافي انه نسي كل شيء، كل ما كُتب وما لم يكتب، كل ما كتبوه له أو أملاه عليهم من فوق، في لحظات إشراقه. يقرأ ويستغرب أو يستهجن مثلما قرأ الكثيرون كتبه واستغربوا أو استهجنوا: «المجلس النيابي خادع للشعب»، «الشعوب تساق كالقطيع»، «الحزب هو الديكتاتورية العصرية»، «لا يحق لفرد أو فريق ان يحتكر السلطة أو الثروة أو السلاح دون الآخرين...». يقرأ ويقرأ ويزداد حيرة واضطراباً ويسأل نفسه: أأنا من قال ان «الملاكمة والمصارعة بأنواعها هي دليل على ان البشرية لم تتخلص بعد من كل السلوك الوحشي؟»، يضحك القذافي ملء شدقيه، هذه أفكار مضحكة فعلاً وقائلها ليس سوى مهرّج يهذي ويهلوس. لم يقرأ القذافي في» المخبأ» قصصه التي اقترح ناقد وأكاديمي لبناني أن توزّع على التلامذة والطلاب في المدارس والجامعات ليتمتعوا بها ويتعلّموا أصول الكتابة الهادفة. لو قرأ دعوته المواطنين في احدى القصص الى الفرار من المدينة واللجوء الى القرية، لاستغرب نفسه مزيداً من الاستغراب. كان ليسأل نفسه ايضاً: «هل أنا مَن هجا المدينة واصفاً إياها ب «مقبرة الترابط الاجتماعي؟»، «أأنا من قال: ما أقسى المدينة وأتفهها؟». يقبع معمّر القذافي الآن في مخبأه، في وكره أو جحره، يلتفت من حوله فيجد نفسه شبه وحيد، مَن تبقى معه سيغادره قريباً، لكنّ كتبه ستظل وحدها الى جانبه. ومثل «الكولونيل» في رواية ماركيز، سيكتشف أن ما من أحد يراسله. لكنه لن يملك عزاء ذلك الكولونيل، الذي ترك له ابنه قبل وفاته ديكاً يحارب به...