عندما تواردت أنباء عن اغتيال اللواء عبد الفتاح يونس نبتت على كل شفة أسئلة: لماذا قُتل اللواء عبد الفتاح؟ ومن قتله؟ وما هي الأسباب الحقيقة التي من أجلها قتل؟ للإجابة عن هذه التساؤلات كان لا بد من وقت كاف لاستنطاق الأحداث، ومحاولة فهم الواقع، واستجلاء الحقيقة من ضباب الإشاعات التي غالبا ما تطلق في مثل هذه الحالات فتلبد سماء اليقين بغلالات الشك وسديم الريبة. من حق أي فرد من أفراد الشعب الليبي أن يعرف الحقيقة، لأن اللواء عبد الفتاح لم يكن نكرة في نظام القذافي كما لم يكن كذلك في الثورة. فهو الرجل الممسك بنواصي القتال، وهو الرجل الخبير بمفاتيح الأزمة، لذلك أصبح إلقاء الضوء على حادثة اغتياله هو في نفس الوقت إلقاء للضوء على دهاليز الثورة الليبية، وتفسير لمجرياتها وفك لشفرتها. بادئ ذي بدء يجب أن نستعرض الوقائع التي سبقت وصاحبت اغتياله، ثم بعد ذلك نحاول طرح الأسئلة لاستجلاء ملابسات هذا الحدث. في الفترة الماضية نُمي إلى علم المجلس الانتقالي ممثلا برئيسه السيد مصطفى عبد الجليل معلومات مفادها أن اللواء عبد الفتاح له اتصالات بنظام معمر القذافي، وبعد أن تواترت هذه الأقوال اتخذ السيد مصطفى عبد الجليل قرارا باستيضاح ذلك الأمر وكلف المكتب التنفيذي باتخاذ إجراءات بخصوص هذه المعلومات، وكلف السيد علي العيساوي بإبلاغ المكتب التنفيذي بذلك. عرض السيد العيساوي الأمر على أعضاء المكتب، واقترح اعتقال اللواء عبد الفتاح يونس، ولكن أغلب أعضاء المكتب التنفيذي رفضوا هذا الإجراء واعتبروه أمرا بالغ الخطورة، ومنهم من اقترح أن يقوم المسؤول عن حقيبة الدفاع بإجراء مزيد من الاستبيان. وانفض الاجتماع دون أي قرار في الموضوع. غير أن السيد علي العيساوي أصدر قرارا باسم المكتب التنفيذي هو القرار رقم (29) لسنة 2011 بتاريخ 25 - 07 - 2011، ويتمثّل في تشكيل لجنة قضائية تتكون من كل من المستشار جمعة حسن الجازوي، والمستشار عمر عوض الجراري، والأستاذ أسامة علي الشاعري. وفي المادة الثانية من هذا القرار خول لهذه اللجنة التحقيق والتصرف فيما يُحيله المكتب التنفيذي من قضايا، وفي المادة الرابعة أُعطيت هذه اللجنة كافة السلطات المخولة للمدعي العام العسكري، ووقع هذا القرار السيد العيساوي بتدليس واضح لإرادة المكتب التنفيذي. وفي نفس اليوم أي بتاريخ 25 - 07 صدر أمر اللجنة القضائية بالقبض على اللواء عبد الفتاح يونس وإيداعه التحفظ إلى حين مباشرة الاستدلال والتحقيق ممهورا بتوقيع رئيس اللجنة القضائية، وكُلفت كتيبة أبو عبيدة بن الجراح بتنفيذ ذلك. تحركت هذه الكتيبة إلى مقر قيادة الجبهة حيث يتواجد اللواء عبد الفتاح في أجدابيا، وكانت هذه القوة تقدر بثمانين مركبة من المسلحين. وعندما وصلوا إلى مقر القيادة وأبلغوا اللواء بالأمر، اتصل اللواء بعلي العيساوي هاتفيا للاستفسار عن صحة هذا القرار فرد عليه العيساوي بأن مذكرة الاعتقال صحيحة وعليه التنفيذ. سلم اللواء عبد الفتاح نفسه لكتيبة أبو عبيدة وليس معه غير اثنين من معاونيه ودون أي حراسة شخصية. وصل اللواء إلى مقر التحقيق، فوجد المجلس التحقيقي منعقدا بحضور الهيئة المكلفة من قبل العيساوي. وبعد الانتهاء من التحقيق مع اللواء أمر المحققون بحبسه احتياطيا على ذمة القضية، وتدخل لاحقا السيد مصطفى عبد الجليل بالهاتف من مدينة البيضاء، وطلب منهم أن يستبدلوا بالحبس الإقامة الجبرية. اصطحب اللواء ومرافقاه من قبل كتيبة أبو عبيدة، ولكنهم بدل من أن يوصلوه إلى منزله، ذهبوا به إلى مكان آخر، ففقأوا عينيه حيا ورموه بالرصاص ثم تسلوا بجز رقبته وقاموا بإحراق جثته.. (انتهت الوقائع). بعد هذا العرض لا بد من الإجابة على هذه الأسئلة المشروعة: 1) لماذا أوكل الشيخ مصطفى عبد الجليل مناقشة هذا الموضوع الخطير للمكتب التنفيذي عن طريق علي العيساوي وليس عن طريق مسؤول ملف الدفاع السيد جلال الدغيلي؟ 2) لماذا خالف العيساوي رأي المكتب التنفيذي وزور قرارا باسم المجلس وشكل بموجبه لجنة قضائية أعطاها صلاحية المدعي العام العسكري؟ 3) لماذا سُلمت القضية للمستشار جمعة حسن الجازوي الذي يعرف الجميع كراهيته للواء عبد الفتاح؟ 4) لماذا كان المستشار جمعة الجازوي رئيس اللجنة القضائية متلهفا للقبض على اللواء عبد الفتاح حيث أصدر أمر القبض عليه في نفس اليوم الذي صدر فيه قرار تكليفه؟ 5) لماذا كان أمر اللجنة القضائية بالقبض والحبس حتى مباشرة الاستدلال والتحقيق حسب ما هو وارد في الأمر الذي يحمل الرقم الإشاري (1) لسنة 2011 ولم يكن أمرا بالاستدعاء للتحقيق فقط؟ 6) ما هي الأسباب التي استدعت ذهاب الكتيبة المكلفة بالقبض بهذه القوة الضارية، وهل كانت هناك احتمالات للقبض على اللواء حتى وإن استدعى الأمر قتالا داخل القتال على الجبهة؟ 7) لماذا أُسندت مهمة القبض والإحضار لكتيبة أبو عبيدة التي تحوي في داخلها مجموعات كبيرة من المتطرفين الإسلاميين التكفيريين، ولم تسند هذه المهمة إلى الشرطة العسكرية، كما هو الأمر الطبيعي في مثل هذه الحالات؟ 8) ما هو وجه الاستعجال في القبض على اللواء عبد الفتاح بهذه السرعة وجلبه للمجلس التنفيذي بهذه الكيفية المهينة؟ 9) ما هي المعلومات التي أدلى بها اللواء عبد الفتاح في التحقيق حتى تقرر حبسه والتحفظ عليه احتياطيا؟ 10) كيف أوكل المحققون والعيساوي منهم أمر تنفيذ القبض واصطحاب اللواء إلى منزله لمجموعة ثبت أنهم من المجرمين؟ كيف يكلّف المجرمون بمساعدة العدالة؟ 11) ما هي أسباب العداوة والحقد اللذين اعتملا في نفوس أفراد هذه الكتيبة حتى اغتالوا السيد اللواء بهذه الطريقة البشعة؟ 12) هل كان قرار العيساوي وأمر المحققين حكما مسبقا بإعدام اللواء عبد الفتاح، لكن تمّ تغليفه بأمر القبض عليه وإحضاره؟ 13) هل اشترك اللواء عبد الفتاح في أي من العمليات العسكرية التي شنها نظام القذافي على الجماعة الليبية المقاتلة في التسعينات، فتحينوا هذه الفرصة للقصاص منه وشفاء الغليل؟ 14) هل السيد مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الوطني الانتقالي ضالع في مؤامرة الاغتيال، أم استعمل كحصان طروادة من قبل آخرين فنفذ رغباتهم؟ 15) هل السيد مصطفى عبد الجليل على اتفاق مع علي العيساوي فيما قام به، وهل كان بينهم اتصال هاتفي حتى اللحظات الأخيرة؟ وإذا كان الجواب بالنفي فمن أبلغ المستشار مصطفى عبد الجليل بفحوى التحقيق وقرار الحبس حتى يطلب تخفيفه إلى الإقامة الجبرية؟ 16) لماذا أمر السيد جلال الدغيلي وزير الدفاع بوقف العمل بالأمر الصادر من هيئة التحقيق بالقبض على اللواء عبد الفتاح، واعتباره جهة غير مختصة، ولماذا أصدر هذا الأمر يوم 28 - 07 على الساعة الرابعة والنصف صباحا؟ وهل صدر هذا الأمر قبل مقتل اللواء أم بعده، ولماذا سافر السيد جلال الدغيلي صباح اليوم نفسه مع علمه بهذه الكارثة؟ 17) هل زيارة رئيس الأركان القطري للواء عبد الفتاح في الجبهة، وما شاب ذلك اللقاء من توتر، لها صلة بهذه الجريمة؟ 18) لماذا صرح مصطفى عبد الجليل في المؤتمر الصحافي الذي أعلن فيه عن مقتل اللواء ومرافقيه بأن فلول نظام القذافي هي المسؤولة عن اغتياله؟ هل كان يكذب على الرأي العام أم أنه كان آخر من يعلم بالحقائق؟ 19) لماذا صرح مصطفى عبد الجليل في المؤتمر الصحافي بوفاة اللواء ومرافقيه، ثم أردف أن الجثث لم يُعثر عليها حتى ذلك الوقت، وفي هذا تناقض صارخ، فإن الحالة التي نحن بصددها ليست وفاة وإنما فقدان، فكيف تحول المفقود إلى متوفى؟ وهل هذه من الأكاذيب التي استمرأها الشيخ مصطفي؟ 20) لماذا لم يطلب رئيس المجلس الوطني من علي العيساوي الاستقالة أو لم يبادر بإقالته حتى لا يتمكن من خلال منصبه بالتلاعب بأدلة القضية؟ 21) من يستطيع حماية لجنة التحقيق من الفصائل المتطرفة المنتشرة في بنغازي والتي ثبت أن المجلس الوطني يستعين بها في الضبط والإحضار؟ 22) هل المجلس الوطني بعد هذه الفضيحة يستطيع أن يزعم أنه قادر على حماية المواطنين في الوقت الذي يلجأ فيه هو نفسه إلى الاستعانة بالقتلة في تنفيذ أوامره؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة مطلب ملح لكل الليبيين، لن يتسنّى تحقيقه إلاّ من خلال التحقيق ومن خلال محاكمة نزيهة وعادلة. وكل ما أود أن أُعلق به على هذه الحادثة أن المجلس الوطني الانتقالي ومكتبه التنفيذي قد فقدا المصداقية في نظر الليبيين، ولا يمكن أن تعود هذه المصداقية إليهما وطنيا ودوليا إلا بقدرة مكونات هذين المجلسين على التضحية وانتهاج الشفافية ونكران الذات. لذلك فإني اقترح استقالة السيد مصطفى عبد الجليل من رئاسة المجلس، واقترح استقالة علي العيساوي وجلال الدغيلي من المكتب التنفيذي، وكافة أعضاء لجنة التحقيق القضائية وأي طرف آخر له علاقة بهذه القضية وأن يضعوا أنفسهم بتواضع خدمة للثورة تحت تصرف القضاء. أما إذا لم يحصل ذلك، فإن هذا المجلس الوطني لن يكون غير تلك الحلقة المضطربة بين نظام القذافي الذي امتهن الاغتيالات السياسية غير المعاقب عليها وبين أهداف الثورة التي تصبو إلى إنشاء دولة الديمقراطية والعدالة وسيادة القانون. إن عدم استقالة السيد مصطفى عبد الجليل وكل من ذكرناهم آنفا يعني أننا اليوم نشهد تأسيس ديكتاتورية جديدة على أنقاض الديكتاتورية السابقة، وهذه أولى لبناتها الشيطانية. فعلى كل الأطراف، بمن في ذلك الشباب الذين صنعوا الثورة، أن يحيطوا علما بذلك وأن يعوا أن ثورتهم قد اختلست منهم في غفلة من الزمان. وندائي الأخير إلى المجلس الوطني الانتقالي هو إيقاف عضوية الشيخ مصطفى عبد الجليل، وحل المكتب التنفيذي، وتقديم من تورط منهم إلى المحاكمة إذا ما فقد هؤلاء حياءهم وتشبثوا بمناصبهم.