ما فتئت الدولة المغربية خلال السنوات الأخيرة ، من خلال خطابها الرسمي و الدبلوماسي تدعو النظام الجزائري لإعادة فتح الحدود المغربية الجزائرية المغلقة منذ 1994 إثر الاعتداء الإرهابي الذي تعرض له فندق أطلس اسني بمراكش ، رغبة من القائمين على أمر السياسة الخارجية المغربية على طي هذا الملف و عودة المياه إلى مجاريها بين الشعبين الشقيقين اللذين حرما من صلة الرحم لسنوات طوال بسبب هذا العائق السياسي على مستوى المعابر البرية. والدعوة إلى فتح الحدود هي دعوة نبيلة بلا شك في عمقها الأخلاقي و دعوة سياسية ممتازة في أفاقها الوحدوية والتنموية التي تسعى دول المنطقة لتحقيقها من خلال خيارها الاستراتيجي في بلورة اتحاد المغرب الكبير و إخراج مشروعه إلى الوجود لما سيكون له من أثار ايجابية على المناحي الاقتصادية و المعيشية و المبادلات في شتى المجالات بين شعوب المغرب الكبير. لكن هذه الأحلام الوردية الجميلة و الرومانسية السياسية التي يحاول المغرب تسويقها تصطدم بواقع الحال المرير الذي ترفل فيه المنطقة منذ نهاية الاستعمار المباشر ، والذي ازداد تأزما بسبب الحرب الباردة ، و تدحرج الجزائر إلى مستنقع الاقتتال الداخلي بعد فشل مشروع الانتقال الديمقراطي في بداية التسعينيات و بروز النظام العالمي الجديد الذي كان من نتائجه المباشرة بروز ظاهرة الإرهاب العالمي الذي أدى إلى ارتباط الجماعات المسلحة بالجزائر بالتنظيمات الإرهابية الجهادية على المستوى الدولي ، وتطور عملياتها لتشمل في السنين الأخيرة كل منطقة الساحل الإفريقي ، بعد انضمام الجماعة الإسلامية للدعوة و القتال إلى تنظيم القاعدة ، التي باتت تعرف اليوم بالقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي ليمتد خطرها إلى كل دول المنطقة بعد أن كان طيلة التسعينيات محصوراً بالجزائر بالإضافة إلى الأزمة البنيوية العميقة التي تعاني منها مجتمعات دول المنطقة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية و السياسية، والتي أفرزت ظواهر شتى يصعب حصرها في هذا المقام ، كان أكثرها تفاقما الأزمة التونسية التي انتهت بثورة على نظام الرئيس بنعلي في يناير 2011 حيث فر إثرها تاركا وراءه وضعا سياسيا غير مستقر إلى الآن ، ثم تبعتها الأزمة الليبية التي تطورت إلى صراع مسلح ينذر بعواقب خطيرة على المنطقة برمتها بعد الانفلات الذي شهدته مخازن الأسلحة الليبية ، والتي وقع العديد منها في يد المجموعات المسلحة إقليميا ، التي يبقى أخطرها تنظيم القاعدة و حركة البوليساريو الانفصالية في ظل معلومات مؤكدة عن مشاركة عناصرها بدعم لوجيستي جزائري في العمليات العسكرية إلى جانب القذافي ، الذي سخر كل إمكاناته المادية لاستجلاب مرتزقة أفارقة لمقاتلة الثوار اللبيين ، لن يكونوا بعد نهاية الصراع في ليبيا ، إلا حطب الفتنة في المنطقة يوظفهم الذي يدفع أكثر خاصة المجموعات المسلحة في دول الساحل ، وتنظيمات الجريمة العبر وطنية الإشكال الحدوي المغربي الجزائري صعب و صعب للغاية ، رغم كل المقاربات الواعدة التي يطرحها الخطاب الدبلوماسي المغربي لتسوية وضعية النزاع مع الجار الجزائري ، بدأ بمقترح الحكم الذاتي في الصحراء المتفاوض عليه حاليا و الذي أوجد مخرجا جديا و ايجابيا لأطروحة الانفصال التي يتبناها البوليساريو المدعوم جزائريا ، و بطلب المشاركة في تجمع دول الساحل لمكافحة الإرهاب ، ومد يد التعاون الاستخباراتي و العسكري المغربي لدول الجوار خاصة موريتانيا لمجابهة التصاعد اللافت لعمليات القاعدة في خطف الأجانب بالمنطقة ومهاجمة الأراضي الموريتانية ، بل وفي التصدي العسكري الفاعل لمحاولة إدخال أسلحة إلى المغرب عبر الصحراء المغربية في حالة خلية أمكالا . ووجه الصعوبة يرتبط من وجهة نظرنا بعاملين رئيسيين لا يمكن التغاضي عنهما في أي مقاربة للوضع الحالي بين المغرب و الجزائر ، أولهما العامل التاريخي الذي يؤرق بصريح العبارة ليس فقط النظام الجزائري ، بل كل النخبة الجزائرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار لما له من أثر نفسي جمعي على مستقبل الدولة الجزائرية التي نشأت سنة 1961 بكل مركباتها المابعد كلونيالية المعقدة و خياراتها الإيديولوجية ، التي استلزمت الدفاع عن جغرافيا سياسية وريثة عن حقبة الاستعمار وسياساته التوسعية في الصحراء الشرقية المغربية (بشار وتوات و تندوف ) و بالتالي الدفاع عن شرعية وجودها بالحدود التي هي عليها الآن في ظل مطالبة مغربية بترسيم الحدود على أسس وثائقية و خرائطية تثبت مغربيتها القطعية تعود لما قبل فرض الحماية الفرنسية على المغرب سنة 1912 ، وهذا ما دفع السلطة السياسية في الجزائر إلى تبني خيار الصراع على المدى الطويل مع المغرب ، ليس لأسباب إيديولوجية كما حاولت البروباجاندا الجزائرية مدعومة بالآلة الإعلامية الناصرية ترويجها خلال حرب الرمال سنة 1963 ، مدعية شيوعية الحرب ، و كون الحرب ضد الملكية المغربية هي حرب ضد الرجعية باعتبار أن النظام الجزائري تقدمي اشتراكي ، وغيرها من التلفيقات التي لعب على أوتارها النظام الجزائري في زمن الحرب الباردة لحشد الدعم الشعبي داخليا و عربيا ضد المغرب ، لتأبيد سيطرة الافلين على السلطة و إدامة الوضع الإقليمي الحدودي على ما هو عليه ، خاصة وأن المغرب كان لا يزال يواجه مخطط فرنساواسبانيا لفصل موريتانيا و الصحراء و جعلهما منطقتي نفوذ تابعتين لهما ، قبل أن يستقر رأي فرنسا على جعل موريتانيا دولة مستقلة ، لتبدأ فصول مسلسل الصحراء الغربية على حد تعبير الدعاية والسياسة الفرنكوية التي ترددت في الاختيار بين المخططات قبل أن يعلن تعلن اسبانيا انسحابها الأحادي الجانب من الصحراء سنة 1975 ، دونما وضع إطار قانوني للتسليم معترف به دوليا ليترك المغرب أمام إشكاله الحدودي الأم في مواجهة الجار الجزائري مرة أخرى الذي اختار إتمام مخطط الاستعمار في تفكيك وحدة المغرب ، بدعمه للبوليساريو دبلوماسيا و عسكريا باعتباره مشكل الصحراء الغربية خط دفاع متقدم له يحول دون تفعيل المطالبة بالأراضي التي ضمها الاستعمار الفرنسي لمقاطعته للجزائرية إبان فترة الاحتلال ، تحت بند حق الشعوب في تقرير مصيرها ، الذي أدخل القضية برمتها إلى ردهات الأممالمتحدة بعد حرب عصابات مؤسفة دخلها المغرب مكرها ضد مليشيات البوليساريو إلى حدود سنة 1991 انتهت بتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار ، لتبدأ مسيرة أخرى من الصراع على المستوى الدولي تقوده الدبلوماسية الجزائرية و الاسبانية لمعاندة الموقف المغربي أما العامل الثاني فهو سياسي محظ مرتبط بطبيعة النظام الجزائري و بنيته و إيديولوجيته السياسية ، فهذا النظام انطلاقا من ظروف افرازه لا يمكن إلا أن يكون نظام أزمة ، و سأكتفي هنا بمقاربة الأسباب الموضوعية دون التطرق للأسباب الذاتية والخلافات بين الأجنحة المتضاربة ومراكز القوة داخل جبهة التحرير الجزائرية بعد توقيع معاهدة ايفيان مع فرنسا فخلافا لما يعتقده البعض بأن النظام الجزائري هو إفراز لمرحلة ثورة التحرير ضد المستعمر الفرنسي خاصة بشعاراته التحررية المستوردة التي رفعها في الستينات ، لم يكن في الحقيقة سوى إفرازا لغياب النظام الاستعماري و استمرارا له بشكل من الأشكال ، فجهاز الدولة الجزائرية امتطى صهوة الإطار الإداري الذي أسسه النظام الفرنسي و استدعى لذلك فلول الجزائريين ممن اشتغلوا مع فرنسا لتولى المناصب في الدولة الحديثة سواء في المجال العسكري أو الإداري لعدم وجود كفاءات إدارية وطنية مؤهلة ، كما استمر العديد من الفرنسيين في تولى مهام إدارية في المؤسسات الجزائرية وكثير من الأجانب إلى بداية السبعينيات وكذلك تمكين المقربين والمحسوبين على جبهة التحرير من مواقع المسؤولية مما ما أدى إلى سيادة النمط البيروقراطي الفرنسي وظهور برجوازية بيروقراطية جديدة أثرت بشكل جدي على مسار الدولة الجزائرية الحديثة و عمقت اختلالاتها البنيوية أما القيادة السياسية فكانت رهينة الموضة العالم ثالثية و الإيديولوجية السوفيتية ومن يدور في فلكها ، فاعتمدت على نهج السياسات الاشتراكية الكبرى كما هو الحال في الاقتصاد والصناعة و السكن و التنمية الفلاحية عن طريق نموذج التخطيط ، الذي لم يكن في الحقيقة مخطط له بالمرة مما أفضى إلى الوضع الكارثي والضعف الهيكلي الذي تعرفه الجزائر حاليا على كل المستويات ، و عن طريق سلوك سياسة التأميم للمنشآت النفطية في بداية السبعينات التي تبقى نقطة الضوء الوحيدة ، بل سفينة الإنقاذ التي ضمنت استمرار دولة الأزمة إلى اليوم بفعل ما تدره المبيعات الطاقية على الخزينة من مداخيل تغطي عجز النظام عن مواجهة إشكالية أزمة الإدارة والتدبير. وشمل هذا الوضع كذلك المؤسسة التربوية التي اكتسحها المشارقة بسبب التقارب السياسي مع النظام المصري في الستينيات الذي كان ينهج سياسة قومنة الدول العربية على النمط الاشتراكي الناصري ، ولن ننسى هنا ما أحدثه هذا الخيار من إشكالات لاحقا ، بعد حمل العديد من المدرسين الموفدين للجزائر لايديولوجيا الحركات الإسلامية ، كالفكر الاخواني و السلفي مما زاد من فصل المجال الديني عن سياسة الدولة العلمانية وكذلك من شرخ في الهوية الجزائرية بسبب سياسة التعريب لا زالت تعاني منه بعد بروز الهاجس الامازيغي القبائلي بشكل متطرف كنتيجة لتهميشه على مستوى المشاركة العامة ، و تجاهل ارتباطات النخبة التقليدية التي استمرت محافظة على طبيعتها الفرنكوفونية النظام الجزائري لما بعد الثورة كان يجب أن ينتهي منذ زمن بعيد ولأكون محدداً بعد موت بومدين ، لأنه كان نظام المرحلة الانتقالية بمعنى أو بآخر ولم يكن إجابة عن وضع معين في التدبير العمومي الوطني ، ولأنه كان وليد الانقلاب العسكري بدون أي شرعية ديمقراطية في نظام من المفروض أن يكون أساسه جمهوري شعبي يحتكم فيه إلى الشعب في تحديد الاختيارات السياسية الكبرى وطبيعة نظام الحكم باعتباره مصدر السلطات كما تنص على ذلك المادة السادسة من الدستور الجزائري ، لكنه صمد طيلة عقد الثمانينيات إلى سنة 1988 حين بدأت المنظومة الاشتراكية تتهاوى وتتفكك ، حيث سنحت الفرصة للتخلص منه سلميا بفضل المشروع الديمقراطي الذي أطلقه الشاذلي بن جديد لولا مفاجئة فوز جبهة الإنقاذ التي لم تكن سوى العلامة المسجلة بامتياز على الاختلال البنيوي الذي أنتجه النظام الجزائري لما بعد الاستقلال ، وعلى حجم التناقضات التي يزخر بها المجتمع الجزائري ، و على ثقافة العنف التي كان يكتنفها نظام الحكم في الجزائر الذي أبى إلا أن يجيب من خلال العنف على أزمته ، بدل إيجاد بدائل حقيقية للمرور من نظام إدارة الأزمة إلى نظام دولة المؤسسات الديمقراطية ، ليتحول هو بحد ذاته إلى أزمة و لتختزل كل الظواهر السلبية المنتجة في المجتمع في وجوده السياسي و في هيكل السلطة الذي يديره. والسلطة السياسية في دولة إدارة الأزمة تعتمد في سياستها على الصراع و إنتاج الصراع و الخصوم ، لأنها بدونهما تفقد مبرر وجودها وشرعية استمرارها ، لذلك لم يكن عبثا من القيادة الجزائرية خارجيا أن تطيل أمد الصراع مع المغرب وتفتح معه عدة جبهات ، لأن ذلك يشكل رأس مال رمزي تستثمره دوليا كعنصر تهديد محتمل لتفجير الوضع الجيواستراتيجي وتهديد المصالح الدولية والاستقرار الإقليمي وعلى المستوى الداخلي لشحن الجماهير و توجيهها بعيدا عن قضاياها الأساسية التي تمس جوهر نظام الحكم و طبيعته و التداول على السلطة ، وتهديد النخب الفاعلة بحجة الإجماع الوطني مما يعني في حالة الخروج عنه الاتهام بالخيانة و العمالة وبالتالي يتم تدجين النخب و شرعنة قمعها في حالة المعارضة ، ونفس الأمر يصدق على مسألة الإرهاب الإسلامي و التعاطي الرسمي معه وتأثيراته على الوضع الداخلي الجزائري منذ المذابح الإرهابية البشعة في بنطلحة سنة 1997 و البليدة سنة 2003 التي راح ضحيتها المئات و عمليات الاغتيال السياسي التي طالت عددا من الصحفيين و الكتاب الجزائريين في التسعينيات و إذا جاز لنا أن نعطي النماذج على هذا النوع من أنظمة الحكم، فالنموذج الليبي يغنينا عن أي تعليق، على ما له من أواصر مودة عميقة مع السلطة السياسية الجزائرية، انكشفت للمجتمع الدولي حقيقتها بشكل واضح خلال الأزمة الليبية الحالية. إننا إذ نضع بين أعيننا هذه المعطيات إلى جانب العوامل الأخرى المؤثرة على العلاقة بين البلدين، خاصة ونحن نعالج مسألة الحدود المشتركة على حالها الآني لا نقصد تبخيس الدعوة المغربية المتكررة لفتح المعابر البرية التي تشكل متنفسا حقيقيا لساكنة المنطقة الشرقية المغربية و لأشقائنا على الجانب الآخر ، للتواصل و صلة الرحم و الرفع من الأداء الاقتصادي للمنطقة ككل ، ولكن هي قراءة للأسباب الكامنة وراء الموقف الجزائري و لجذوره التي لا تخفى على صناع القرار السياسي ، إلا أنه ما يجب التنبيه إليه إلى أن المشكل الحدودي لا يمكن أن يحل في ظل المعطيات الراهنة و الأسباب المنتجة له بالشكل الذي تتصوره الدبلوماسية المغربية في خطاباتها المتفائلة ، ورهاناتها على الجانب الاقتصادي كجانب من جوانب الحل الهيكلي للأزمة ، و التعاون الأمني في ضبط الحدود ضد نشاط الجريمة المنظمة الذي أصبح مصدر قلق حقيقي في الجهة الشرقية نتيجة للتسلل المتكرر للعصابات الإجرامية و لفلول الإرهابيين كما حدث مؤخراً فزوال الإشكال الحدودي رهين حتما بزوال أزمة النظام السياسي الجزائري و الهواجس التاريخية للنخبة الجزائرية تجاه المغرب التي تنمت و ترسخت طيلة السنوات الماضية بفعل آلة العداء الإعلامية و السياسية المنتجة للصراع لذلك فأزمة النظام الجزائري هي أزمة ذاتية وموضوعية عميقة ، لا يمكن التخلص منها إلا بالتخلص منه وهذا رهين بقدرة الشعب الجزائري و إرادته في تحقيق هذا المنعطف التاريخي نحو دولة المؤسسات ذات الشرعية الديمقراطية ، وهو أمر صعب المنال في الظرف الراهن لأن الميل الطبيعي لاستعمال العنف الذي يخزنه الفهم الإيديولوجي لنظام الأزمة الجزائري في علاقته بالمعارضة سيكون كارثيا و دمويا على الشعب الجزائري الذي لم يعد مستعدا لخوض المغامرة ثانيا بعد الفشل الذريع لتجربة التسعينيات ، وما بطئ الشارع الجزائري عن الالتحاق بحراك الشارع العربي إلا نتيجة منطقية للحذر الجمعي من الانزلاق نحو مشهد دموي أخر في ثمثلاثه الليبية فمشكل الحدود بين المغرب والجزائر وكل ما نتج عنه من عدم استقرار في المنطقة مشكل زرع بذرته الاستعمار ورواها النظام الجزائري بفشله و أزماته و رهاناته العدائية المستمرة و هو مستعد إلى إطالته إلى أمد غير محدد ، لأنه المستفيد الأكبر بالمعنى البرغماتي من وجوده