لا يمكن الاقتراب من تجربة الكاتب المغربي الراحل محمد شكري بمعزل عن عمله الروائي السير ذاتي الشهير ‘الخبز الحافي'. ولئن كان هذا العمل الذي حقق انتشارا مهولا وانتقل بواسطة الترجمة إلى سياقات لغوية مختلفة ومتعددة، فإنه أسهم في تحويل الكاتب إلى ‘ظاهرة' إبداعية بكل ما تعنيه الكلمة من دلالات. وعلى الرغم من أن محمد شكري قد أبدع نصوصا أخرى لا تقل أهمية عن ‘الخبز الحافي' من حيث جرأتها التعبيرية واختيارها الجمالي، وتوزعت بين القصة القصيرة واليوميات والمسرح والرواية، إلا أن شبح ‘الخبز الحافي' لم يتوقف عن مخاتلة هاته التحققات وتوجيهها بسلطة الإكراه الرمزي إن صح هذا التعبير بأواصر قربى بالعوالم السردية والتجارب الحياتية للخبز الحافي. سوف يتحدث الكاتب الراحل في هذا الخصوص وفي سياق أحد حواراته عن ‘لعنة' الخبز الحافي، وسوف يسوق في هذا المعرض نماذج لروايات من الريبرتوار الأدبي العالمي اضطلعت بالدور السلبي ذاته، ونشير تخصيصا إلى ‘عشيق الليدي شاترلي' ومدام بوفاري'. يحق لنا أن نتساءل والحالة هاته إن كان محمد شكري واعيا بالحدود الفاصلة بين عمله ‘الأول' والتحققات النصية اللاحقة، أفكر على وجه التحديد وأنا أصوغ هذا السؤال الإشكالي في الكتابة بما هي تثبيت وتعبير تحكمه القصدية وفق التعبير الفلسفي الفينومينولوجي. سوف يكون في مكنتنا والحالة هاته أن نعيد قراءة التجربة الإبداعية للكاتب الراحل من خلال تبئير الرؤية على هذه المراوحة اللحوحة في التحققات النصية لهذه التجربة بين حدي الكتابة والشفهية. وتتحدد الغاية من ذلك في الاحتجاج لافتراض نقدي مؤداه إن محمد شكري لم يتمكن من التخلص على امتداد النصوص التي ‘كتبها' من سطوة الشفهية. وسوف يكون في مقدورنا أن نفسر الحضور اللحوح للعنة ‘الخبز الحافي' في ارتباط بهذا الافتراض المذكور. يشكل كتاب ‘بول بولز وعزلة طنجة' الذي أصدره الكاتب على نفقته عام 1995 تمثيلا لحضور الشفهي في خطة الكتابة. يتأطر هذا الكتاب في خانة الكتابة الثأرية إن صح هذا التعبير، ويترجم رغبة الكاتب الراحل في تصفية الحساب مع الكاتب الأمريكي الراحل. سوف يشدد محمد شكري في هذا الخصوص وفي سياق حديث مع الكاتب الفرنسي دانييل روند وهذه المقصدية بقوله: لقد كتب عني إنني مدمن على الكحول، وه والذي دخن الكيف وأكل المعجون طيلة حياته. وما دام الأمر كذلك، فإنني سوف أحوله إلى محكمة الكتابة. بول بولز عدمي ومهووس بالغرابة السادية ويكره المغاربة. طنجة ومغرب متعدد. دانييل روندو. كان لزاما بالنظر إلى هذه المقصدية المشار إليها آنفا أن تتسم الكتابة برحابة وثراء تسهمان في صوغ شهادة أوبورتريه سردي لهذا الكاتب الأمريكي الذي أسهم بطريقته في تخصيب الحياة الثقافية في المغرب عموما وطنجة تخصيصا وهوما تمثل في حلقة رواة طنجة. وكان من الممكن أن يتحول هذا النص إلى وثيقة إبداعية تكشف جوانب من سيرة ومنجز هذا الآخر' الذي جاء بثقافته ورؤيته إلى العالم وجماع مسبقاته الإيجابية والسلبية ليستكشف الذات المغربية. بيد أن محمد شكري سوف يؤثر بدافع رغبته في ‘تصفية الحساب' و'الثأر' تحكيم ‘مسبق سلبي' تمثلت خطوطه الرئيسة في كراهية بول بولز المضمرة حيال المغاربة وهيمنة نوازع السادية والغرابة في مجمل كتاباته عن المغرب. وتكون المحصلة والحالة هاته استصدار هذا الحكم المطلق والنهائي على الرجل والذي تحدد في العزلة المطبقة التي عاشها على امتداد العقود الستة في طنجة. سوف نتبين بعد قراءتنا الدقيقة للكتاب أن هيمنة المسبق الثأري واستلزاماته سوف توجه فعل الكتابة إلى سياق تحكمه الجاهزية وشيطنة الآخر. لن تتأخر الذوات القارئة في الإحاطة علما بأن العقود الستة التي قضاها الكاتب الأمريكي في طنجة سوف تختزل في غرفة بحيطان أربعة وحياة مدموغة بالعنف والسادية والعجز الجنسي والمثلية الجنسية المضمرة والاحتقار الصريح حيال المغاربة. راهن الكاتب الراحل في هذا الخصوص على قراءة اختزالية لأعمال الكاتب الأمريكي وركون صوب تأويل ذاتي يعضد المسبق السلبي الذي شكل الدعامة الرئيسة لمحاكمته لبول بولز. يلح علينا ونحن نقترب من هذا الكتاب أسئلة رئيسة: هل قرأ محمد شكري مجمل أعمال الكاتب الأمريكي في شقيها السردي والرحلي؟ هل كانت مصاحبته للكاتب الأمريكي من القوة والكثافة بحيث تؤهله لكتابة نص يتسم بتماسكه وانسجامه؟ هل أفلح محمد شكري في اختيار استراتيجية في الكتابة تحتكم إلى الموضوعية في استصدار الأحكام والابتعاد عن الشطط في التأويل؟ نكتشف مع اطراد قراءتنا للكتاب إن الكاتب قد وصل بطريقة غير واعية بين نصوص بول بولز وسيرته الحياتية منذ الميلاد والطفولة والشباب في أمريكا إلى رحلته ثم استقراره في المغرب. ويستلزم هذا الوصل بالضرورة ان تجربة الكتابة عند الكاتب الأمريكي تبقى مرتبطة في وعي محمد شكري بالمكون السير ذاتي: ‘... إن بول بولز ربما لم يقتل ويعذب، واقعيا، أحدا، لكنه أكيدا قتل وعذب الكثيرين في أعماله الأدبية. ومن حسن الحظ أن مخيلته لم تصل إلى مستوى المركيز د وساد. وربما لعجزه وليس لرغبته، إذ لا نعرف ماذا كان سيكون ل وأنه استطاع′ الكتاب، ص، 72. يفترض المؤلف والحالة هاته إن العزلة التي عاشها بول بولز أثناء مقامه الطويل في طنجة تجد أسبابها في طفولة شقية وبائسة وكتابة أدبية تتوسل بالنوازع السادية والشريرة ورؤية كولونيالية إلى المغرب عموما وطنجة خصوصا. لعل ما يثير الانتباه في هذا المعرض اقتصار محمد شكري على قراءات مبتسرة ومعزولة عن سياقها التخييلي ومفرطة في ذاتيتها وخضوعها لسلطة التوجيه لأعمال الكاتب الأمريكي. والحال إن رغبة محمد شكري في تحويل بول بولز إلى محكمة الأدب كانت تقتضي منه بالضرورة الإحاطة العميقة والدقيقة بمختلف ما كتبه الرجل والاحتفاظ بمسافة فاصلة بين النصوص بما هي محصلة تخييل روائي والسيرة الشخصية للكاتب. كان من البدهي أن يقرأ محمد شكري رحلات الكاتب الأمريكي الخاصة بالمغرب والجزائر وجغرافيات أخرى قبل أن يتصدى لفعل ‘المحاكمة'. وسوف نضيف إلى ذلك ثابت المصاحبة الحياتية والإنسانية العميقة للكاتب الأمريكي التي كانت سوف تؤهله بالضرورة إلى أن تكون رؤيته متسمة بالموضوعية والعمق اللازمين. سوف تسهم القراءة المبتسرة والمغرضة لأعمال الكاتب الأمريكي في اتسام هذا العمل أقصد ‘بول بولز وعزلة طنجة' باختلال يجد أساسه في سطوة العجلة الأحكام المسبقة الجاهزة وغياب رؤية جمالية منسجمة مع المقصدية الرئيسة للكتاب. سوف نستشف في السياق ذاته إن المكون ‘الشفهي' سوف ينتهي بأن يفرض هيمنته على خطة ‘الكتابة' من خلال التوظيف المكثف للاستطراد السردي بما يستلزمه من استدعاء لتفاصيل سيرية لا صلة لها بالمقصدية الرئيسة للكتاب. ويتأسس على ذلك إن كثيرا من هاته التفاصيل تبد وكما لوأنها مقحمة بشكل اعتباطي. بيد أن اللافت للانتباه يتمثل في الحضور الملح لشبح ‘الخبز الحافي' من خلال استدعاء بعض التفاصيل الحياتية الخاصة بمحمد شكري والتي تحيل بأكثر من قرينة إلى العوالم السردية لهذا العمل. يكفي أن نمثل لذلك بتلكم المشاهد التي تحيل إلى لقاء المؤلف السارد بأدونيس في مدينة تورين والإيطالية أ والاعتداء الذي كان عرضة له بجوار منزله في طنجة والذي انتشلت خلاله الساعة التي أهداه إياها شاعر مغربي او مغادرته لحانة مونوكل واستدعاؤه للقائه الخاطف بالرسام المغربي الراحل الغرباوي قرب حانة بيل والتفاصيل التي تهم موهبته وبوهيميته ورحيله المأساوي في باريس. سوف نفترض والحالة هاته إن عجز محمد شكري عن الإحاطة الشاملة بمختلف التحققات النصية للكاتب الأمريكي والقطيعة الصريحة بينهما منذ حادثة حقوق النشر والترجمة سوف تبرر هذا التبئير الدال على جوانب من سيرة الكاتب الأمريكي وخصوصا تلك التي لها تعلق بطفولته وعلاقته بزوجته الكاتبة جين آور بولز كي يدعم ‘محاكمته' للكاتب الأمريكي ويسوغ لأطروحة ‘الشيطنة'. نلاحظ في الآن نفسه إن محمد شكري سوف يوسع من دائرة المحاكمة لتشمل تجربة عبور بعض رموز جيل البيتز الأمريكي في طنجة. وسوف ينتهي محمد شكري بأن يزج بكل النصوص التي كتبت عن هاته التجربة في خانة الغرابة والعنف والعنصرية: ‘هذا المغرب الذي يفتقده اليوم بروز وبولز ومجايلوهما الذين عاشوا في طنجة. لم يجد بروز راحته، في بداية مجيئه إلى طنجة، إلا في صحبة المغاربة ماسحي الأحذية الذين يدخن معهم الكيف في المقاهي الشعبية. ولم يكن يفهم شيئا مما يثرثرون فيه... لم يكن عنده أي حس حضاري ليفهم تقاليدهم..' الكتاب. ص، 36. نستشف مما سبق ذكره إن محمد شكري قد ركن إلى الإطلاق وسطوة المسبق السلبي حين ألصق بمبدع ‘الوليمة العارية' تهمة الافتقار إلى ‘الحس الحضاري' في سياق تعامله مع المغاربة. وتتحدد الغاية الرئيسة في تعضيد فكرة عزلة هذا الجيل الذي يشكل بولز عصبة الرئيس عن المغرب بما هو ناس وثقافة وتحولات سوسيو تاريخية. سوف نلمس والحالة هاته دلالة تشديد محمد شكري على ما مؤداه ان بول بولز أحب المغرب ولكنه المغرب الذي جاءه عام 1931. وبصرف النظر عن الرؤية التبسيطية والمشبعة بالسذاجة التي توجه هذا الحكم المسبق، فإننا لن نتأخر في الإحاطة علما بأن المؤلف قد أفرغ جيل البيتز من أهم سماته المشكلة له وهي الاحتجاج والتمرد والغضب. ويستلزم ذلك بداهة ضرورة الاحتكام إلى الروية حين قراءة تمثيلات حضور بعض رموز هذا الجيل في طنجة وجغرافيات أخرى. لئن كان هذا الجيل والرؤى التي بشر بها رد فعل ضد التبعات الكارثية للحرب العالمية الثانية في أمريكا وتمردا جليا ضد سطوة المظهر الصناعي وطهرانية المجتمع الأمريكي وتراتبية قيمه ورؤاه إلى العالم، فإن اختيار السفر إلى ‘طنجة' كان مراهنة على فضاء ‘مختلف' عن النموذج الذي ثاروا ضده. ويحق لنا أن نتساءل في هذا المعرض إن كان افتراض الكراهية والعزلة والتعالي الذي دافع عنه محمد شكري مسوغا ومقبولا خصوصا إذا افترضنا في المقابل إن حنين بول بولز المزعوم إلى مغرب عام 1931 كان رفضا للتحول المشوه للمجتمع المغربي والذي كان محصلة إيثار الاتباع والتقليد الأعمى للنموذج الغربي عوض التطور الطبيعي الذي يحترم الخصوصية الثقافية والتاريخية ويتسمت الانفتاح الواعي والرصين على الآخر. تتمثل المفارقة الحادة في أن الكراهية المفترضة المذكورة آنفا حيال المغاربة والتي تجد أساسها في كسلهم وعدوانيتهم واتكاليتهم سوف تستعاد بشكل يحكمه التطابق من لدن محمد شكري في جل نصوصه. نتذكر في هذا الخصوص تشديده على كراهيته وقرفه من التشوه المادي والمعنوي وتحسره على طنجة القديمة التي لم يبق منها إلا ماضيها المدموغ بسطوة السحر والأسطورة: ‘... تأملت السقف. سقفنا جميعا في بيت المستقبل الأبدي. لم يعد لي من ليل طنجة إلا نملية من لا أعرفهم. هجم عليها التتر والمغول فاختفى أبطال ليلها منهزمين' الكتاب، ص، 80. لن يتوقف الكاتب الراحل عن الاستدعاء اللحوح في جل نصوصه لهذه المسافة التي أضحت تفصله عن مغاربة كسالى يقضون سحابة النهار في بلادة وخمول واتكال على الغير وعدوانية مريضة ولا يكفون عن تشويه المدينة وتحويلها إلى وكر للدعارة والتهريب والجريمة. فكيف يسمح محمد شكري لنفسه بالتعبير السردي عن هذه المسافة وينتقد في الآن نفسه بول بولز وغيره من رموز جيل البيتز الأمريكي حين تعبيرهم النقدي عن بعض مظاهر الاختلال والتشوه في المجتمع المغربي؟ سوف تتحول قراءة محمد شكري لتجربة الكاتب الأمريكي إلى محاكمة ‘أخلاقية' تتسمت الفضح والتشهير. سوف يكون لافتا للانتباه التشديد على العلاقة التي جمعته بالكاتبة الأمريكية ذات الأصول البلغارية جين آور بولز والإشارة الواضحة إلى كونها محض قناع يخفي الاختيار المثلي الجنسي لكليهما. لعل ما يثير الاستغراب في السياق ذاته أن يصدر هذا الاختيار عن كاتب تأسس مشروعه في الكتابة على انتهاك سطوة المقدس وإيثار الكتابة بلغة عارية ومتحررة من المسبقات الأخلاقية. يكثف محمد شكري من جرعات الفضح والقتل الرمزي لشخصية بول بولز حين تسليطه الضوء على مرض جين بولز المزمن الذي أصابها بالعمى والشلل والذي أودى في النهاية بحياتها عام 1974. سوف نكتشف مع اطراد القراءة ان الكاتب ينحي باللائمة على بول بولز ونوازعه السادية الشريرة وأنانيته وبخله المفرط وعلاقته ‘الخاصة' بالفنان المغربي أحمد اليعقوبي. وسوف نباغت والحالة هاته بإشارة ترشح بالدلالة إلى افتراض مؤداه إن بول بولز كان مدينا لجين في كثير من نتاجه الأدب: ‘.. لقد كانت جين تغذي نتاج بول الأدبي بوجودها معه كما يعترف هو نفسه. لم يعد يكتب شيئا مهما حسب قوله- بعد وفاتها. أما هي فكانت تنفي وجودها الأدبي فيه ولا تريد أبدا أن تعتبر نفسها ندا له عندما تقول: ‘لا ينبغي أن يكون أديبان في أسرة أدبية' أهو مبرر لعجزها عن استمرار استلهام الكتابة؟ إنها متواضعة لحد مهابتها' الكتاب، ص، 62. تستشرف خطة القتل الرمزي واقتضاءاتها درجة الإلغاء شبه التام لمكون رئيس في سيرة الرجل ويتمثل في منجزه الإبداعي. سوف تتلاشى موهبة بول بولز أ وتكاد ليصبح والعهدة على محمد شكري عيالا على تحفيز زوجته جين. ولأن رهان الشيطنة لا يستقيم بغير تقليص مساحة ‘الحضور الإيجابي' إلى حدودها الدنيا، فإن التبخيس من ‘قدرة' الكاتب الأمريكي على الخلق الإبداعي برده إلى محفز خارجي يتمثل في زوجته يصبح أشبه ما يكون بتهمة العنة أ والعجز الجنسي التي وصمه بها في جزء آخر من الكتاب. سوف أحتج على سبيل التركيب لافتراض تعالق الفقر الواضح في معرفة محمد شكري بشخصية بول بولز بمختلف أبعادها بالهشاشة والاختلال اللذان يبسمان هذا الكتاب. لقد سعى المؤلف إلى ‘تصفية الحساب' مع ‘الأب الرمزي' الذي قام بتعميده ونقله من ‘الشفهية' إلى ‘الكتابة. بيد أن افتقاره الجلي إلى المعرفة العميقة والشاملة بشخصية الكاتب الأمريكي بمختلف أبعادها وركونه المطلق إلى الجاهزية والعجلة والمسبقات السلبية في استصدار الأحكام لم يسفرا إلا عن كتاب متهافت في مبناه ومعناه..