ليس وداعا يا بنغازي، بل إلى لقاء، فما زال الحلم يملأ وجداني باستئجار 'حوش' صغير يطل على البحر في بنغازي أقضي فيه ما تبقى لي من عمر، فعلى جبينك بنغازي تاج الماء في البحر الأزرق الذي تنام فيه السماء، من أحشائك تندفع رياح العواصف شعبا يعلن أن حريته هي زاده وطريقه الوحيد للخلاص من الطاغية القاتل المجنون الذي يطارد الأطفال، مفتاحك آلاف الشهداء يسقطون رافعي الجباه تحت سنابك القتلة من خدم الطاغوت القاتل المجنون، بنغازي: اندفاع الاشتياق للحرية في العروق مطرا يهطل فيفتت جبال الخوف وصخور الرهبة من فوق الصدور، (أحد.. أحد)، المجد لك يا مدينة المجد، وبئر الماء في صحراء لا ترتوي إلا بدماء الأولاد الذين يحملون العلم ذا الثلاثة ألوان، يعلنون انبعاث عالمهم الذي لا يريدون منه إلا قطرة من الصفاء، ولكنهم طماعون فلا يريدون إلا كل الحرية. وكانت بداية الرحلة إلى بنغازي قد بدأت من ميدان التحرير في القاهرة، وتحديدا من دار نشر 'ميريت' التي تلتصق بحبل سري طوله عشرة أمتار مع ميدان التحرير: في بدايات ثورة الشعب المصري في 25 يناير كنا نجلس في 'ميريت' نلتقط بعض أنفاسنا من قوة ما بذلناه من مجهود في التظاهرات وكنت أحمل فوق كتفي 65 عاما وعظاما بدأت في الوهن، وكان يحملني فوق أكتافهم في شارع 'صبري أبو علم' شباب المجد والثورة لأهتف لهم 'ثورة.. ثورة شبابية/ مصر طالعة للحرية'. كنا نفس المجموعة في 'ميريت' يوم 17 شباط/فبراير وجاءت بعض الأخبار عن مظاهرة في بنغازي، فقال 'إبراهيم داوود' متسائلا 'لماذا لا نتصل بصديقنا الكاتب الليبي إدريس المسماري لنعرف هل هناك فعلا مظاهرات في ليبيا أم لا؟' وطلبنا من 'محمد هاشم' الاتصال بهاتف 'إدريس المسماري' في بنغازي، ففعل، ورد 'إدريس المسماري' بأنه يسير الآن في مظاهرة حاشدة في بنغازي تهتف بسقوط القذافي. والمهم الآن أني وصلت إلى بنغازي بعد خمسة أيام من بداية الثورة، وهنا أود أن أقر وأعترف بأني تلقيت معونة مالية من الشاعر الليبي الكبير 'محمد المزوغي' بمبلغ 130 جنيها، ومن المفكر الليبي، عميد كلية الإعلام في جامعة 'قار يونس'، مدير المركز الإعلامي الذي انضممت إليه مبلغ 100 جنيه، ومن الدكتور 'عطية الأوجلي' مبلغ 30 جنيها، ومن 'علي بن سعود' المدير الإداري لمركز الإعلام مبلغ 20 جنيها، ومن الكاتب والمصحح اللغوي في صحيفة ليبيا 17 فبراير التي كنت أشارك في إصدارها مبلغ 5 جنيهات، كما أني مدين (مهنيا) بعشرات الأخبار والتقارير الصادرة عن الائتلاف لنشرها في صحيفة ليبيا التي كنت أشارك في إصدارها عن المركز الإعلامي من المحامي الشاعر 'عبد السلام المسماري' والقاضي عضو الائتلاف 'جمال بنور'، وعشرات الشباب الليبي الذين قام على أكتافهم ذلك المركز الإعلامي الرائع الذي كان هو المكان الوحيد الذي مكن العالم من متابعة ثورة 17 فبراير في ليبيا عبر تسهيلاته المستحيلة لكافة المراسلين من كافة بلاد العالم، ولا يمكن عدم الاعتراف بفضل 'عبد المالك' المصري صاحب المقهى الذي كان يرفض تناول ثمن ما كنت أدخنه من أحجار المعسل، وكذلك صديقي 'عبد المجيد' السوداني الذي كان يقدم لي أجمل 'شيشة' دخنتها في ليبيا، وكان يضحك عندما كنت أناديه باسم 'النميري' ويطلب مني تغيير هذا الاسم إلى 'سوار الذهب'، وسوف تأتي تفاصيل كل هذه الشخصيات والحكايات في كتابي 'بنغازي/ ثورة على طريق الاكتمال'. والآن لقد كان من المخجل دائما لكل من آمن بالوحدة العربية أن يتمنى أحدهم الخلاص من حاكم عربي على يد (أو طائرات) حلف الناتو؛ فكيف لعربي أن يفرح ويهلل لقوات حلف الناتو بل ويدعو الله في بأن يكون خلاصه من حاكمه (العربي) على يد تحالف غربي كان أعضاؤه هم المحتلين لكافة أقطار الوطن العربي؟ مع أني لا أعارض (بل أؤيد وبلا أي تحفظ أو تردد) موقف المجلس الوطني الانتقالي الليبي، في طلبه المساعدة المسلحة من التحالف الغربي للخلاص من 'القذافي'، لكن هناك الكثير من المرارة في تقبل هذا الأمر، هذه المرارة التي يخفف من حدتها في الروح والقلب رؤية تلك الأجساد المقطعة في حالة غير عادية وغير إنسانية من الإبادة الجماعية التي يمارسها 'القذافي' وقوات كتائبه ضد الشعب الليبي، التراجيديا في المسألة بأن المرارة من الترحيب بالتحالف في الخلاص من 'القذافي' تختلط بالكثير من كراهية تاريخية لحلف 'الناتو' مازالت في الوجدان وسوف تستمر لكن ما يجعلنا نتجرع مرارتها بالأسى هي الإبادة الجماعية التي يمارسها 'القذافي' وكتائبه (وهي إبادة جماعية بالفعل وليس تعبيرا مجازيا للمبالغة) وكذلك الأحوال المعيشية المتدهورة للشعب الليبي تحت حكم'القذافي' الذي يعتبر أقدم حاكم على وجه الأرض فقد تسلطن على ليبيا منذ عام 1969 بقيادة انقلاب عسكري أطاح بالملك 'إدريس السنوسي' حيث بدأ 'القذافي' مسيرته في فترة الصحوة القومية التي ازدهر فيها المد القومي فأظهر ميولا قومية عربية في بداياته، واندفع باتجاه إعلان الوحدة العربية مع تونس ومصر وسورية لكن محاولاته (الوحدوية) فشلت جميعها لأسباب يعرفها الجميع حيث أورثه هذا الفشل كثيرا من المرارة دفعت به باتجاه مشروعه الأفريقي متوجا نفسه بتاج 'ملك ملوك أفريقيا'، بل أنه دافع باستماتة عن مشروع الاتحاد العربي الأفريقي الذي 'سوف يوحد العرب والأفارقة في فضاء إستراتيجي كبير يمنع التمزق والتشرذم العربي والتجزؤ والضياع بين كتل وفضاءات قارية مختلفة'. كانت توجهات 'القذافي' نحو أفريقيا ليست جديدة في فكر 'القذافي بل أنه طالما ردد منذ بداية الثورة في 1969 شعارات أن 'أفريقيا للأفريقيين'، وأن 'لا حلف لأفريقيا إلا مع نفسها' مؤكداً على أهمية ودور القارة الأفريقية في عالم اليوم، وفي هذا الصدد لعبت الدول الأفريقية دورا هاما في تليين موقف أمريكا وبريطانيا في القبول ببعض المطالب الليبية بشأن قضية 'لوكربي' وذلك باتخاذها قرارا في قمة 'واجادوجو' لرؤساء دول وحكومات منظمة الوحدة الأفريقية بكسر الحظر المفروض من مجلس الأمن الدولي على ليبيا بحلول شهر ايلول/سبتمبر من نفس العام الذي عقدت فيه القمة ما لم تستجب الدولتان للمطالب الليبية، ولعل هذا ما دعم توجهات 'القذافي' الأفريقية خاصة وأن الظروف الدولية قد شهدت العديد من المستجدات التي تدفع باتجاه توحيد القارة فأسس في العام 1999 تجمع 'دول الساحل والصحراء' الذي يضم الآن 23 دولة في عضويته، كما أيد كل الجهود لتطوير منظمة الوحدة الأفريقية وتحويلها إلى الإتحاد الأفريقي، لكن 'القذافي' ظل دائما مسارا للسخرية ك'مفكر سياسي' وك'زعيم' شعبي ملهم سواء داخل ليبيا أو خارجها فقد أثارت (أفكاره) التي يطرحها الكثير من الجدل والاستهجان والسخرية بالرغم من انفراده بالقرار في ليبيا لمدة تزيد عن أربعة عقود واتهامه مع عائلته (وخاصة أبناءه) بتهم الفساد وهدر مقدرات الشعب الليبي لسنين طوال وقمع الحريات العامة، بالرغم مما يطرحه من فكر (جماهيري) بالمشاركة بالسلطة، والذي أوجده في السبعينيات من القرن الفائت حسبما يقدمه في كتابه الأخضر، حيث مضى على استلامه السلطة في ليبيا نحو 42 عاما، وبنى نظاما غريب الأطوار لا نظير له في العالم على الإطلاق، ليس بالجمهوري ولا الملكي، وإنما هو مزيج من أنظمة قديمة وحديثة في خلطة مزرية بائسة وادعى دائما أنه لا يحكم وإنما يقود ويتزعم، ولكن الواقع الذي كذبه دائما كان يشير إلى أنه يكرس كل الصلاحيات والمسؤوليات في يديه، ويديه وحده، واستمر 'أبو مينيار' منفردا بالسلطة وبكل المقدرات على كل شبر من أرض ليبيا دونما شريك في الحكم حتى ولو لواحد من أولاده السبعة، من زوجته الثانية 'صفية فركاش ' التي أتى بها من شرق ليبيا (البيضاء) نفس بلدة مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الوطني الانتقالي الحالي بالرغم من أنه من غرب ليبيا، وتحديدا من (جهنم) وهي قرية بالقرب من 'شعيب الكراعية' في 'وادي جارف' بمنطقة 'سرت' وكان في طفولته أن أرسله أبوه إلى بلدة 'سرت' حيث أخذ الابتدائية عام 1956، ثم انتقل إلى مدينة 'سبها' في الجنوب, عاش في كنف أمه, وتزوج من السيدة 'فتحية خالد' وله منها ابنه البكر 'محمد القذافي'، ثم طلقها بعد استلامه السلطة مباشرة، ومنذ هذه الفترة بدأت التناقضات في شخصيته تظهر للجميع ليصل الأمر في سنة 2009 أن وصفته برقية صادرة من سفير الولاياتالمتحدة في طرابلس 'جين كريتز' بأنه 'شخصية زئبقية وغريب الأطوار، يعاني من عدة أنواع من الرهاب، يحب رقص الفلامنكو الأسباني وسباق الخيل، يعمل ما بدا له ويزعج الأصدقاء والأعداء على حد سواء'. وتضيف البرقية أن 'القذافي يصاب بنوبة من الخوف اللاإرادي من المرتفعات لذلك فهو يخشى الطوابق العليا من البنايات، كما أنه يفضل عدم الطيران فوق الماء'، لكن هذا العصابي الذي يصاب بنوبة من الخوف اللاإرادي من الأماكن المرتفعة قد استطاع أن يطرح (نظريه) سياسية في الحكم تقوم على (سلطة الشعب) عن طريق (الديمقراطية المباشرة) من خلال المؤتمرات الشعبية الأساسية كأداة للتشريع واللجان الشعبية كأداة للتنفيذ ويقدم شرحا وافيا عنها في 'الكتاب الأخضر' الذي ألفه في سبعينيات القرن العشرين الماضي. والذي يحتوي أيضا نظرية تطرح الاشتراكية بصورة لم تظهر من قبل، وطرحا للركن الاجتماعي لهذه النظرية التي تعرف ب'النظرية العالمية الثالثة' تمييزا لها عن سابقتيها الرأسمالية والماركسية. عندما يبدأ التحالف الدولي في استكمال العمل على تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1973 الذي يقضي بحماية المدنيين الليبيين ضمن بنوده التي وافقت عليها الأممالمتحدة، واستكمال هذا العمل سوف يبدأ ب'تأمين طريق آمن' لحماية المدنيين في 'مصراتة'، ومن المحتم أن يمتد هذا 'الطريق الآمن' إلى العاصمة 'طرابلس' وتحديدا 'باب العزيزية' لإنقاذ المئات من الليبيين الذين يستخدمهم 'القذافي' كدروع بشرية يحتمي بها من قذائف الطائرات، وهنا تأتي أهمية 'الطريق الآمن' إلى 'باب العزيزية' لحماية المدنيين و(قد) يصادف في طريقه 'القذافي' مزنوقا في 'البيت الصامد' فيتم القبض عليه (مصادفة) وتسليمه للمجلس الوطني الانتقالي ليحاكمه الشعب الليبي بمجموعة الجرائم التي اقترفها في حق ليبيا طوال 42 سنة كان أبسطها هي جريمة 'الإبادة الجماعية' كما يقول 'داوود شكير' دائما لكل أصدقائه وهم يشربون القهوة على رصيف المقهى في شارع 'المهدوي'، و'داوود شكير' هو الشقيق الأصغر لصاحب تسمية الشعب الليبي ب'الجرذان' التي أخذها 'القذافي' عنه، ويصر 'داوود شكير' على أن 'الطريق الآمن' سوف يصل بالتأكيد إلى 'باب العزيزية' حيث تكون هذه هي (زنقة القذافي) الأخيرة.