«انتهى زمن هاري بوتر وجماعته». بهذا، يُمكن اختصار ردود الفعل الإنكليزية على صدور الرواية الجديدة للكاتبة ج. ك. رولينغ «منصب شاغر» في 27 أيلول 2012 (صدرت الترجمة الفرنسية في اليوم التالي). الكاتبة، التي «هزّت العالم» على مدى عشرة أعوام بفضل سلسلتها الروائية «هاري بوتر» والاقتباسات السينمائية التي رافقت نموّ الساحر المراهق، والتي حقّقت إيرادات دولية بلغت نحو 7 مليارات و724 مليون دولار أميركي، انتقلت من «السحر والصراع ضد قوى الشرّ» إلى الواقع الإنساني الحيّ و«الصراع ضد الشرّ» أيضاً. ردود الفعل النقدية الإنكليزية سلبية، بغالبيتها. الرواية، التي صدرت ترجمتها العربية (من الإنكليزية) بجهد ملحوظ وإيجابي لدانيال صالح («دار نوفل»، الطبعة العربية الأولى، 2013)، غاصت في التفاصيل اليومية المتعلّقة بحيوات أناس مقيمين في بلدة «باغفورد». لكن الغوص لم يأتِ من فراغ، بل من الوفاة المفاجئة للأربعينيّ باري فيربراذر، عضو المجلس البلديّ المتمرّد، الإنساني والمهتمّ بالفقراء. بعيداً عن ردود الفعل النقدية الإنكليزية والأميركية، وبعيداً عن المقارنة الأدبية بين «منصب شاغر» وسلسلة «هاري بوتر»، يُمكن القول إن «الرواية الأولى للبالغين» هذه شكّلت منعطفاً في السيرة الإبداعية للكاتبة (31 تموز 1965)، التي انبنت أساساً على الظاهرة الأدبية/ السينمائية تلك. المنعطف متمثّل في الذهاب عميقاً، أو في محاولة الذهاب عميقاً في البؤر الخفية داخل بيئة اجتماعية منغلقة على قواعدها الصارمة، والرافضة كل تمرّد أو آخر. بحسب رولينغ، فإن الحبكة المركزية كامنةٌ في «مسؤولية المرء إزاء نفسه وإزاء الآخرين». غير أن تيو تايت (ذو غارديان)، الذي قال إن الرواية ليست «تُحفة» لكنها «ليست سيئة أيضاً»، رأى أن هذه الرسالة الاجتماعية «صالحة»، لكن الرواية «تقليدية جداً». بينما رأى أيان باركر (ذو نيويوركر) أن لغة الشخصيات بدت كأنها تريد أن تكون «شعبية»، كروايات تشارلز ديكنز، لكنها كانت «منقطعة عن التواصل مع الواقع» (نقلاً عن تقرير ل«وكالة رويترز»، منشور على الموقع الإلكتروني ل«إكسبرس» في 27 أيلول 2012). ساهمت الترجمة العربية لدانيال صالح، لشدّة أصالتها وجماليتها السردية في صوغ الجمل والتعابير، في تسهيل الانخراط في العوالم المتناقضة لشخصيات «منصب شاغر». ساهمت في تبيان معالم التمزّق الداخلي والمبطّن، بل معالم التشوّهات الحاصلة في البنى العائلية والعلاقات الاجتماعية. ساهمت في كشف حجم الاهتراء الكامن في مظاهر أُريد لها أن تتحكّم في أصناف السلوك والعيش والتواصل بين الناس، وإن على حساب الحقائق المخفية، التي تعرّت كلّياً بُعيد تلك الوفاة الصادمة لباري فيربراذر، الزوج والأب والناشط والمدرّب والمحرّض على اكتشاف الذات. نشبت الصراعات. انفجرت الأحقاد. ظهر الخلل. هذا كلّه موجود سابقاً. لكن الوفاة ساعدت على تبيان كل شيء علناً. النزاع قائم بين فقراء وأصحاب سلطات معنوية واجتماعية. الاختلاف واضحٌ بين طبقات وبيئات وأمكنة. أتقنت رولينغ وصف التناقضات والإشكالات، مانحة ما يُشبه الألوان المتناقضة التي تسم البيئات والنفسيات والانفعالات، وتناقضاتها أيضاً. يمكن القول إن الشخصيات كلّها سلبية، باستثناء باري فيربراذر. كأن النواة الدرامية تريد الاعتراف بأن الإيجابي لا يصمد في الحياة أمام صنّاع الكراهية والمؤامرات والانهيارات. الشخصيات كلّها تكاد تكون على سوء وضغينة، وكل واحدة منها لأسباب قد تتشابه مع أخرى، وقد تتناقض وإياها. الأسلوب، بحسب الترجمة العربية، سلس ومبسّط من دون أن يكون مُسطّحاً. الوصف دقيق، كأن الصفحات مرايا تعكس ما يجري عليها. الدقّة كامنةٌ في وصف النفوس البشرية، والمناخ الاجتماعي، وطبيعة الأمكنة والذوات، والمواقف العنصرية والإنسانية معاً، ومعاني العلاقات وأشكالها، وتفاصيل الانفعالات ومتاهاتها وقلقها وخيباتها وغضبها وآلامها. لعلّ ما كتبه تيو تايت، على الرغم من ملاحظاته السلبية العديدة، يبقى، في شقّه الإيجابي، اختزالاً لنصّ روائي أميل إلى وصفه بالجميل والمؤثّر والكاشف: «إنها رواية ذكية، مشغولة، وغالباً مُضحكة».