لا يكفى أن يغمر المصريين شعور بالاستياء والغضب تجاه السياسة الأمريكية تجاههم منذ ثورة 30 يونيو. فلا مناص من التواصل مع صانعى هذه السياسة لمناقشة ما يبدونه من مخاوف، حتى إذا كان لدينا يقين أن مواقفهم- أو كثير منهم- ليست بريئة، خاصة بعد اتجاههم إلى التصعيد ضد مصر منذ نهاية الأسبوع الماضى فور فض «اعتصامى» رابعة والنهضة المسلحين. فمن الطبيعى أن يغضب المصريون بسبب استهانة واشنطن بآلام المصريين وآمالهم، ولأنها أهانتهم عندما اختزلت ثورتهم فى دعم الجيش لها، ولم تعترف بحقهم فى إنقاذ وطنهم. غير أنه مهما كانت قوة الأسباب التى يستند إليها الغضب الشعبى المصرى العارم على السياسة الأمريكية، يظل السؤال الضرورى هو: ماذا بعد الغضب، ولم لا نحاول فهم دوافع هذه السياسة ومحركاتها. فلا يصح أن يبقى هذا الغضب عائقا أمام التفكير فى منطق سياسة دولة كبرى لا يفيد مصر توتر العلاقات معها، والتساؤل عن إمكان تغيير هذه السياسة عبر حوار جاد. والحال أن الغضب يحول، حين يبلغ مستوى معيناً، دون التفكير ما إذا كان وراء ما يغضبنا منطق يمكن مناقشته. فلا يمكن أن تكون سياسة الولاياتالمتحدة خالية من منطق يعتقد أصحابه فى سلامته، وقد يمكن إقناعهم بخطئه. ويتلخص هذا المنطق فى أن منح فرصة كاملة لما كان يسمى «الإسلام السياسى المعتدل» هو السبيل للقضاء على «الإسلام الجهادى المتطرف والمسلح» أو محاصرته. وتعود بداية طرح هذا المنطق إلى مطلع العقد الماضى حين تنامى خطر «تنظيم القاعدة» ونجح فى ضرب قلب الولاياتالمتحدة فى سبتمبر 2001. ودار حوار طويل وصعب فى الأوساط السياسية والأكاديمية الأمريكية حول العلاقة بين «الإسلام السياسى» الذى تمثل جماعة الإخوان المنتشرة عالميا أقوى حركاته، وتنظيم «القاعدة» بمنهجه العنيف وممارساته الإرهابية. وقد ظل الاتجاه الذى يعتقد فى إمكان الاعتماد على الوجه المعتدل لمحاصرة الوجه المتطرف الإرهابى ضعيفاً، ولكنه تنامى بسرعة فور صعود جماعات «الإخوان» وأحزابهم فى البلاد التى حدث فيها تغيير وفى مقدمتها مصر. ويبدو السيناتور ماكين «نموذجاً» فجاً للانقلاب الذى حدث فى موقف كثير من السياسيين الأمريكيين الذين تحولوا من اعتبار «الإخوان» وعاءً خرج منه إرهاب «القاعدة» وغيره إلى احتضانهم والرهان على دورهم فى محاصرة هذا الإرهاب. وقد أغمضت واشنطن عينيها عن إهدار حكم «الإخوان» فى مصر قواعد الديمقراطية ودولة القانون بسبب الرهان على أن يكون نجاحه ضربة قاصمة للإرهاب! ولذلك أصابها قلق شديد من أن يؤدى عزله إلى استعادة «القاعدة» ومنهج التغيير بالقوة المسلحة زمام المبادرة وتصاعد الإرهاب مجددا وحصوله على زخم أكبر. غير أنه ليس صعبا إقناع الأمريكيين الذين ذهبوا بعيداً فى الرهان على سلطة «الإخوان» بخطأ منطقهم عبر إثبات أن هذه السلطة دعمت الإرهاب فى سيناء بشكل غير مباشر. فقد أصدر رئيسها قرارات بالعفو عن عشرات من الإرهابيين كانوا مسجونين بأحكام قضائية نهائية، وفتح الباب أمام دخول أعداد كبيرة من أمثالهم وكميات هائلة من الأسلحة إليهم فى سيناء. كما فرض قيودا على تحرك قوات الأمن والجيش لمواجهة الجماعات المسلحة هناك. وفى هذا السياق تحديداً، ينبغى النظر إلى كلام زعيم «القاعدة» أيمن الظواهرى، فى التسجيل الصوتى الذى بثته مواقع «جهادية» فى 3 أغسطس الجارى تحت عنوان «صنم العجوة الديمقراطى». فقد قرأ بعض الأمريكيين هذا الكلام من عنوانه فقط، واعتبروه تأكيدا لقلقهم من أن يؤدى عزل مرسى إلى دعم منهج «القاعدة» الذى يرفض الديمقراطية ويعتبر العنف هو السبيل الوحيد للوصول إلى السلطة. ولم يقرأوا ما ينطوى عليه من دفاع محمد مرسى بعد أن أدرك قادة «القاعدة» عبر تجربتهم مع سلطته أن منهج «الإخوان» ليس إلا قناعاً يحجب فكرهم العنيف عن الناس، ولكن ليس عن الواقع. ولذلك ينبغى أن يعرف صانعو السياسة الأمريكية أن تمكن جماعة «الإخوان» واستيلائها على الدولة كان من شأنه تحويل مصر إلى دولة راعية للإرهاب على نحو يجعل الحرب ضده من أصعب ما يكون. أما عزل هذه السلطة قبل أن تحقق ما سعت إليه فقد فتح الباب أمام إرهاب يمكن مواجهته والانتصار عليه وهذا هو ما يفعله المصريون الآن نيابة عن المجتمع الدولى الذى يقدم بعض أقطابه غطاء سياسيا لهذا الإرهاب.