هل سيكتب التاريخ أن التلفزيونات العربية كانت مفجرة الثورات العربية في عام 2011، أم أنه سيكتب كما أرى في هذا المقال أن الفضائيات العربية هي السبب الأول وربما الرئيسي في إجهاض هذه الثورات. لا أنكر أن التلفزيونات العربية كانت عاملا مساعدا في توعية الناس بالثورة، رأى الناس أنفسهم على الشاشات ورأوا بشرا مثلهم لهم مطالب مشابهة، وشعروا أنهم لم يكونوا وحدهم ولهذا تجمعوا وزادت أعدادهم. ولكن ما إن بدأت ثورة جديدة حتى انتقلت الكاميرات إلى مكان جديد وأناس جدد بهموم جديدة، وأحس من كانت عليهم الأضواء والكاميرات بالهجران والإحباط، فالثورة كانت بالنسبة للبعض كالمرآة، إن لم ير الفرد نفسه فيها فلا يدري ما هي ملامحه وكيف سيكون يومه. التلفزيونات التي كانت سببا أساسيا في نجاح الثورة في أول أيامها في تونس، هي ذاتها التي لا تعرض الآن شيئا يذكر عن تونس. هل أحد منا يستطيع أن يقول لنا ماذا يجري في تونس، غير أنه يتذكر التونسي الذي أحرق جسده فقامت الثورة، أو أن الرئيس التونسي غادر بلاده خلسة في الليل، وأن الغنوشي أصبح بعده رئيسا للحكومة، بل واختلط الأمر على البعض بين الغنوشي «بتاع» النهضة الإسلامية، والغنوشي «بتاع» الحكومة؟ تحركت كاميرات التلفزيون بعيدا عن تونس، أطفئت الأنوار على الثورة، ذهبت دائرة الضوء بعيدا إلى مصر، وبدأ العد التنازلي لرحيل مبارك. شيء أشبه بمسلسلات التلفزيون، الحلقة الأولى تونس، والحلقة الثانية مصر، كما تشاهد المسلسلات التركية المدبلجة، وقصة «مهند» الذي شغفت نساؤنا به حبا. الثورات لم تكن مدبلجة، بل كانت ثورات عربية خالصة في معظمها، ولكن عقلية المسلسلات التلفزيونية هي التي تسيدت الموقف. نسي الناس تونس لمدة سبعة عشر يوما انتقلت فيها الكاميرات إلى مصر، ولو عاد بن علي مرة أخرى إلى تونس خلال الأيام السبعة عشر هذه ما علم به أحد في ظل التغطية التي كانت تشبه الهوس المرضي في التعامل مع ثورة مصر، نوع من الإدمان الإعلامي للحالة، حلقة في المسلسل لا يمكن أن نعكر صفوها بأحداث جانبية تفسد متعة المشاهدة. الثورة التي هي آلام وأحلام في بلد وغالبا ما يدفع أبناؤها الثمن غاليا، تصبح في بلد آخر مجرد مادة للتسلية يستعيضون بها عن المسلسلات. اليوم لا أحد يعرف الكثير عما يجري في مصر والتي تتحول فيها الثورة من حالة مدنية كانت مسيطرة في الأيام الأولى إلى حالة إسلامية سلفية، بدأت تسيطر الآن وبقوة السلاح والبلطجة. ولكن هذه قصة جانبية بالنسبة للتلفزيونات العربية، أن نخسر مصر ليس ضرورة، لأن الكاميرات انتقلت إلى ليبيا، وما إن بدأت الدراما الليبية في التشكل بكل عناصرها من ألعاب نارية في الجو والأرض ومشاهد مثيرة، حتى انتقلت التلفزيونات إلى اليمن ومن بعده سورية. الليبيون لم يقدموا للتلفزيونات العربية أبطالا على غرار المصريين الذين يجيدون «الشو» ويأتون في المرتبة الثانية بعد اللبنانيين في تقديم عرض جيد، حيث يعتبر اللبنانيون نجوما في استقطاب الأضواء مهما كانت القضية صغيرة. إسهامات الليبيين توقفت عند مقولات العقيد وأغنيته الشهيرة «زنقه زنقه»، وكان سيف الإسلام وعائشة وخميس ضمن «الكاسيت» المصاحب، شيء أقرب إلى الكومبارس خلف البطل. أما اليمن فقدم مسلسلا على غرار مصر، ولكن ينقصه عنصر الدراما والتشويق. فجاء اليمن وكأنه مصر ولكن بصورة أقل إثارة، لذا لم تحظ حلقة اليمن بالتغطية المناسبة، هي جزء من المسلسل تعود إليه التلفزيونات عندما تهدأ الأمور في مصر أو ليبيا، نص مصاحب للنص الأصلي في المسلسل العربي. هذا التنقل السريع والمتعجل للكاميرات منحنا ثورات غير مكتملة، ترك تونس نصف ثورة، وترك مصر وهي قدر تغلي رفع عنها غطاؤها ليتصاعد منها الدخان حتى اليوم، وتحت ساتر الدخان ترتكب في حق مصر حماقات كنت أتمنى أن تكون دائما في دائرة الضوء، ولكن هذا نصيبنا في مسلسل الثورات ليس لنا فيها إلا حلقات قليلة في انتظار أن يصبح المشهد مملا في مكان آخر فتعود الكاميرات إلينا. لدينا كاميرات، ولدينا عشرات القنوات في مصر، ولكننا نفشل دائما في مناقشة أمورنا إن لم نكن نؤدي عرضا يشاهده الآخرون، لذا فوجود التلفزة غير المصرية ضرورة لنتحرك في مصر. ولكن ربما تلك مشاعر اليمني والليبي وكذلك اللبناني الذي أصابه الاكتئاب من غيابه عن دائرة الضوء كل هذه الشهور، لبنان اليوم مستقر جدا أو قل كامن وساكن، لأن اللبناني لا يقبل أن يؤدي دورا في الخفاء وخارج دائرة الضوء، غياب الكاميرات عن لبنان جعله البلد العربي الأكثر استقرارا. المقولة الأساسية في هذا المقال هي أنه وبعد سيطرة عقلية المسلسلات التلفزيونية على الممثلين وعلى أصحاب الكاميرات، أثبطت الهمم وتركنا التلفزيون ولدينا نصف ثورة، لا هي ما قبل ولا هي ما بعد، هي منزلة ما بين المنزلتين، حالة من الطبخ الثوري الذي قد ينضج أو قد يحترق من دون أن ينتبه إليه أحد، وبهذا تكون التلفزيونات العربية قد أسهمت في فشل الثورة لا في نجاحها.