تسعى حركة النهضة منذ فوزها في انتخابات «المجلس الوطني التأسيسي» في 23 أكتوبر (تشرين الأول) 2011 وتمكنها من أغلبية الحكم إلى إعادة إحياء نظام الأوقاف الإسلامي. وهو سعي رسمي وليس مجرد محاولات تقوم بها شخصيات منتمية إلى حركة النهضة. فرئيس الحكومة السابق والأمين العام لحركة النهضة حاليا، السيد حمادي الجبالي، قد بعث في السنة الماضية بمشروع أمر إلى المحكمة الإدارية حول مسألة الأوقاف. ثم أعلن في مايو (أيار) 2012 وزير الشؤون الدينية، السيد نور الدين الخادمي، في جامع عقبة بن نافع، بنبرة واثقة وعازمة بأن الأوقاف في تونس ستعود وأن جهود حثيثة تبذل من أجل إحياء نظام الأوقاف الذي «أماته» بورقيبة. آخر تطورات هذا الملف، ما صرح به الوزير المستشار في الحكومة الحالية السيد نور الدين البحري من أن مجلس الوزراء ناقش مطولا مشروع قانون يتعلق بإصدار مجلة الأوقاف ومشروع الأمانة العامة للأوقاف وارتأى المجلس إعادة المشروع إلى اللجنة الفنية قصد مزيد إحكامه. إذن، من الواضح أن ملف إعادة نظام الأوقاف مسألة جدية وهدف من أهداف حركة النهضة، وأن كل المؤشرات تؤكد عزم الإسلاميين على إحياء نظام الأوقاف. ولا نعتقد أن هذا العزم يدخل فقط في الثأر من بورقيبة الذي قام بتصفية الأوقاف أو الأحباس، بل أغلب الظن أن هذا المشروع يستبطن أهدافا أخرى؛ أهمها أسلمة الحقل الجمعياتي الذي تهيمن عليه التوجهات الحداثية العلمانية. طبعا، قد يرى البعض في مشروع قانون إعادة الأوقاف بادرة مهمة ولا تثير أي نوع من التحفظات، خصوصا أن نظام الأحباس يعتبره الفقهاء أحد النظم المالية في الإسلام ويعود إلى العهد النبوي الذي شجع على التحبيس حتى إن الصحابة كانوا يتبارون في الأوقاف. كما أن للأوقاف في ذاكرة المجتمعات الإسلامية صورة مشرقة بحكم الوظائف الاجتماعية والاقتصادية والدينية والتعليمية التي اضطلعت بها، إذ قامت الموقوفات في العصور الإسلامية بتأسيس وإحياء المساجد ودور العلم والمستشفيات وإنشاء الأربطة والقيام بشؤون أهل العلم والدين. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: إلى أي حد بالنسبة إلى مجتمع قطع مع نظام «الصدقة الجارية» وأسس علاقة مع الدولة تقوم على الحق والواجب يمكن أن يعيد بناء هياكله التقليدية الدينية، وهل نظام الأوقاف في ظل ما أصبح عليه المجتمع التونسي من عقلية وثقافة وسلوك إضافة إلى التجاذبات التي يعيشها اليوم، سيكون فقط رافدا للنظام الاجتماعي الديني أم أنه آلية من آليات إحداث دولة داخل الدولة ومجتمع مدني إسلامي أمام مجتمع مدني حداثي علماني؟ في الحقيقة، كي نضع مشروع قانون إعادة الأحباس (الأوقاف) في إطاره وفهمه الفهم الدقيق، من المهم تبيئته داخل السياق التاريخي التونسي للتعرف إلى دلالات بعث مثل هذا المشروع ومقاصده. فكما هو معروف، تبنت تونس بعد الاستقلال مشروعا تحديثيا. لذلك، فإن الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة وفي إطار تمهيد الأرضية الاجتماعية والثقافية لإرساء سياسة تحديثية فإنه قام بمجموعة من الإصلاحات الكبرى. وهي إصلاحات ذات صلة بالمسألة الدينية؛ مثل إصدار مجلة الأحوال الشخصية والتعليم الزيتوني، وأيضا قام في 31 مايو 1956 بإلغاء الأوقاف العامة وتحجيرها، معلنا أن الدولة التونسية ستتحمل المصاريف التي كانت تؤمنها جمعية الأوقاف. كما نص أيضا قانون 18 يوليو (تموز) 1957 على منع التحبيس الخاص والمشترك. ومن ثمة، فإن هذين القانونين البورقيبيين هدفا إلى تفكيك القاعدة الاقتصادية للهياكل التقليدية وإعادة تركيبها وفق سياسة بورقيبية تحديثية تفك الارتباط بين الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي الديني. وإذا ما وضعنا في الاعتبار موقف الإسلاميين التونسيين الرافض لمشروع بورقيبة ومعارضته لسياسته ذات المظاهر العلمانية التي تولي كل الاهتمام لقيم الترشيد العقلاني، فإنه يمكننا أن نفهم بعض أسباب التركيز على مسألة إعادة نظام الأوقاف. غير أن المشكل الذي يثيره طرح مسألة إعادة نظام الأوقاف، هو أن النخب التحديثية في تونس تعد المشروع التحديثي منظومة قيمية شاملة، وأن نظام الأوقاف ليس فقط منهجا ماليا اقتصاديا إسلاميا، بل هو يحمل قيمه الثقافية التي تنعش الهياكل التقليدية، خصوصا أن التصديق على مشروع قانون إعادة الأوقاف سيدعم بقوة التغلغل الاجتماعي لحركة النهضة ويمكنها من تقويض غالبية مكونات الفضاء الجمعياتي التي تقف بالمرصاد ضد كل ما يمس مكاسب تونس الحداثية في المجالات كافة. ذلك أن الغالب على النسيج الجمعياتي التونسي على امتداد العقود الخمسة الأخيرة، انخراطها في جوهر مشروع الدولة الوطنية الحديثة، مما جعلها في قطيعة مع تاريخ الجمعيات الإسلامية التي كانت منتشرة بكثرة في مرحلة الاستعمار الفرنسي لتونس. فهل هو الحنين إلى الأوقاف ودورها التاريخي على امتداد العصور الإسلامية أم أنها استراتيجية ذات مستندات تاريخية ودينية للتغلغل في حياة التونسيين وربطها بفكرتي «الخير العام» و«الصدقة الجارية» وما ينتج عنه من ولاءات غير ظاهرة؟