مع انفجار اللغم الرابع، صبيحة يوم الاثنين قبل الماضي، في منطقة جبل الشعانبي التونسي، اتخذت الأمور طابعا غامضا من جهة، وتزايد قلق التونسيين وخوفهم من جهة أخرى. فسقوط قرابة 16 شخصا بين رجال أمن وجيش، إضافة إلى ضعف السيطرة الأمنية على المنطقة التي تتحصن فيها هذه الجماعات، بدليل تواتر انفجار الألغام، عمق الحيرة، وولّد سلسلة من الاستفهامات. ولعل أول الالتباسات الدامغة يتعلق بعدم الوصول إلى تحديد هوية هذه الجماعات المسلحة، حيث إن الخطاب الرسمي غائم، ويكتفي بالوصف العام بأنهم جماعات متشددة دينيا. وهي نقطة مهمة جدا باعتبار أن عدم معرفة هوية تلك الجماعات من شأنه أن يضاعف من الغموض والقلق وأمور أخرى، على رأسها استغلال أطراف معينة هذه الدوامة لخلط الأوراق. فإلى حدود اللغم الرابع، وما قبل ذلك حادثة اغتيال شكري بلعيد، لا يعرف التونسيون من يقف وراء عملية الاغتيال، وأيضا الألغام، ولا نظن أن الإجابة بكونهم تيارات دينية متشددة، إجابة دقيقة وواضحة وجدية بالمعنى الاتصالي والإعلامي للكلمة؛ فهل هم ينتمون إلى تنظيم القاعدة أم جبهة النصرة أم ماذا؟ ولا ننسى أن الجزائر عندما دخلت هذا النفق، منذ أكثر من 20 سنة، ساد الخطاب نفسه، حيث كان الجيش يتهم ما يسميه الجماعة الإسلامية المسلحة التي كانت بدورها تتهم الجيش، وظل ملف الإرهاب في الجزائر رهين تبادل الاتهامات، من دون أن تتضح الرؤية ويعرف الجزائريون من قتلهم. بالنسبة إلى تونس، ما يتردد حاليا في دوائر غير رسمية أن هذه الجماعات المسلحة البعض يراها تابعة ل«أنصار الشريعة»، وآخرون يقولون إنها لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. والأنكى من كل هذا، تعبير بعض رجال الأمن عن مخاوفهم من انتقال هذه الأحداث الإرهابية من الأطراف والجبال إلى مواطن العمران والمدن، خصوصا أنه ترددت أخبار أو شائعات تقول إن هناك إمكانية لاستهداف مساحات تجارية كبرى، إضافة إلى تهديد هذه الجماعات بتصفية وجوه إعلامية وثقافية معروفة. وفي الحقيقة، ما قام به الجيش الجزائري المعروف بقوته في مجال الاستخبارات، ذلك الاثنين، من إعلان حالة الطوارئ على الحدود مع تونس، تخوفا من تسلل مسلحي جبل الشعانبي إلى الأراضي الجزائرية، وصدور أوامر من قيادات الجيش بتأمين الحدود مع تونس، خاصة ولايتي القصرين والكاف، باستخدام كل الإمكانات المتاحة للتصدي لهذا الخطر الإرهابي، ومسح الحدود بطائرة حربية.. كل هذه التدابير للجارة الجزائرية الكبرى تقوي جدا المخاوف المذكورة. السؤال البسيط المسكوت عنه: هل عجز رجال الأمن، ومعهم الجيش، عن السيطرة على منطقة جبل الشعانبي والقبض على الجماعة المتحصنة فيه؟ إن هذا السؤال الذي يتردد على لسان النخبة والمواطنين لا يحمل فقط مضمونا استفهاميا، بل، وتحديدا، يستبطن حيرة كبيرة تمهد بدورها لتصديق بعض الطروحات التي ترجح تحالف هذه الجماعات المسلحة مع عصابات التهريب في الداخل وشبكات متشددة في الخارج، إضافة إلى سيناريوهات أخرى تميل إلى التركيز على الدوافع الجيو - استراتيجية لبعض الدول التي من مصلحتها اختراق تونس وخلط الأوراق. إذن تعيش تونس حاليا نوعا من التحول النوعي بالنسبة إلى ظاهرة الإرهاب، بعد أن كانت مجرد عنف سياسي. كما انتقلت مظاهر التشدد الديني، التي أصبحت تُلمح في الفضاء العمومي التونسي بشكل عام إلى مستوى آخر من الدلالة والفعل؛ ذلك أنه في المرحلة الأولى كثر الحديث في صفوف تلك الجماعات وبعض شيوخهم عن أن تونس أرض دعوة، وليست أرض جهاد. ولكن يبدو أن النجاح في مرحلة الدعوة، بفضل المسالك المفتوحة التي وفرتها الدولة لأصحاب هذه الدعوات، قد شجعهم على المرور إلى طور ما بعد الدعوة. من هنا نفهم، لماذا يرمي البعض مسؤولية الأحداث الإرهابية الحالية على النخبة الحاكمة ويحملها مسؤولية ما سيحدث أيضا، باعتبار أن معالجة الترويكا لظاهرة العنف السياسي المؤدلج كانت ضعيفة، والبعض يعتبرها متواطئة، خصوصا لدى دفاعها الشرس عن رابطات حماية الثورة. كما اعترفت الدولة التونسية رسميا بأحزاب دينية متشددة تعلن معارضتها للديمقراطية، ولا تتأخر في تقسيم التونسيين إلى مؤمن وكافر! طبعا توصيف موقف النخبة الحاكمة بهذا الشكل لا يعني أنها تحرض على العنف، ولكن المشكلة، كما يراها البعض، تكمن في الخلفية الفكرية للمعالجة ذاتها التي تعتمد سياسة حقوقية ناعمة. والواضح أن الجماعات التي تزرع الألغام وتبتر أرجل الأمن التونسي، بصدد استغلال هذه المعالجة الناعمة البطيئة، وأيضا الاستفادة من مكاسب الديمقراطية، وإدخال تونس نفقا لا تتحمله مطلقا.