وادي لوكوس سبب الحياة و عصب الرخاء الذي عرفه حوض اللوكوس و سهول الهبط الغنية عبر التاريخ، لقد شكل الجدار الواقي و السد الطبيعي المنيع الذي حصن جنوب حاضرة ليكسوس في التاريخ القديم و شمال ثغر العرائش في التاريخ الحديث، و ذلك لعمقه و عرضه و غزارة صبيبه الذي يتجاوز 50 متر مكعب في الثانية و مساره الملتوي على شكل ثعبان عظيم، كما شكل الوادي سببا في ازدهار المنطقة تجاريا عبر حقب التاريخ القديم، الوسيط، الحديث، و المعاصر من خلال الحركة الملاحية، حيث يعتبر مصبه أقدم مرسى مغربي بالمحيط الأطلسي. إن الحديث عن هذا الوادي سيحملنا لا محالة إلى سرد حكايات و أحداث كثيرة طبعت التاريخ على مداه، لكن مقامنا اليوم في هذا المقال مجرد إشارة إلى تسمية وردت عن وادي لوكوس في ربائد التاريخ الوسيط من خلال أبرز المؤرخين و الجغرافيين المسلمين الذين برزوا و تميزوا في هذه الحقبة الزمنية، و الحديث هنا عن اسم سفدد أو ( وادي سفدد ). القرن 10 م يحدثنا محمد بن حوقل (1) من خلال كتابه (صورة الأرض) عن وادي سفدد في خضم استعراضه للوصف الدقيق و المفيد للمناطق و الأشياء التي رآها في رحلاته العالمية خلال 30 عام من السفر و التجوال، حيث ذكر وادي سفدد ( لوكوس ) بأنه نهر عذب عظيم يشرب منه أهل تشمس ( ليكسوس ) و أهل مدينة البصرة (2) الذين استخدموه في ملاحتهم التجارية نحو المحيط الأطلسي و البحر المتوسط، كما بين منبعيه الغزيرين القادمين من ( بلد دنهاجة و كتامة ) (3)، فيقول : (( ... وإذا أخذ منها الآخذ يريد الجنوب على سيف البحر المحيط لقيه وادي سفدد وهو واد كبير عظيم غزير الماء يحمل المراكب عذب ومنه شرب أهل تشمّس وهى مدينة لطيفة قديمة أزليّة أوّليّة جاهليّة وعليها سور من البناء الأوّل تركب وادي تشمّس هذا المعروف بسفدد وبينها وبين البحر نحو ميل ويمدّ سفدد شعبتان تقع فيه إحداهما من بلد دنهاجه من جبلى البصرة والثانية من بلد كتامة وكلتاهما ماء كثير وفيه يحمل أهل البصرة تجارتهم في المراكب ثمّ يخرجون إلى البحر المحيط ويعودون إلى البحر الغربي فيسيرون منه حيث شاؤوا وبين مدينة تشمّس هذه وبين مدينة البصرة دون المرحلة على الظهر... )). جانب مما تبقى من أسوار البصرة المدعمة بالأبراج الشبه دائرية
القرن 11 م تحدث أيضا عن وادي سفدد عبد الله بن عبد العزيز البكري (4)، في كتابه التاريخي الموسوعي الثمين " المسالك و الممالك " الذي جمع فيه عددا كبيرا من الكتب المؤلفة قبله في هذا المجال، تكلم فيه عن الأمصار و الأقوام مستعرضا عادات الشعوب و قصص الزمان، فقال : (( ... ثمّ إلى وادي سفدد، ولا يسكن في وادي سفدد أبيض اللون إلّا اعتلّ وقلّ ما يسلم من علّته، وإنّما يسكنه السودان. وإذا رأوا رجلا أبيض اللون قد دخل عندهم ينادي بعضهم بعضا: ميز ميز. ثمّ من وادي سفدد إلى حوض أصيلة، ثمّ على ما تقدّم... )). يعطينا وصف البكري لسكان وادي سفدد انطباعا واضحا عن سمار بشرة الأهالي المحليين، حتى أن الإنسان الأبيض يشكل استثناء في النسيج السكاني للمنطقة، و قد يعزى هذا لطبيعة المنطقة المعروفة بقوة شمسها و رطوبة جوها التي يصعب على غير أهلها التعايش معه، هذا إضافة إلى اللهجة البربرية للأهالي البعيدة عن اللغة العربية التي عرفت نهضتها الحقيقية بالمغرب في نفس هذه الفترة الزمنية بعد بناء مدينة فاس و استقطابها لمحاور الأدب و العلوم العربية من إفريقية ( تونس ) و الأندلس. القرن 12 ورد اسم وادي سفدد أيضا في كتاب ( نزهة المشتاق في اختراق الآفاق )(5) للإدريسي (6) حيث قال : (( ... ومن مدينة طنجة ينعطف البحر المحيط الأعظم آخذاً في جهة الجنوب إلى أرض تشمس وتشمس كانت مدينة كبيرة ذات سور من حجارة تشرف على نهر سفدد وبينها وبين البحر نحو ميل ولها قرى عامرة بأصناف من البربر وقد أفنتهم الفتنة وأبادتهم الحروب المتوالية عليهم. ومن تشمس إلى قصر عبد الكريم وهو على مقربة من البحر وبينه وبين طنجة يومان وقصر عبد الكريم مدينة صغيرة على ضفة نهر لكس وبها أسواق على قدرها يباع بها ويشترى والأرزاق بها كثيرة والرخاء بها شامل. ومن مدينة طنجة إلى مدينة أزيلا مرحلة خفيفة جداً وهي مدينة صغيرة وما بقي منها الآن إلا قدر يسير وفي أرضها أسواق قريبة وأزيلا هذه ويقال أصيلا علها سور وهي متعلقة على رأس الخليج المسمى بالزقاق وضرب أهلها من مياه الآبار. وعلى مقربة منها في طريق القصر مصب نهر سفدد وهو نهر كبير عذب تدخله المراكب ومنه يشرب أهل تشمس التي تقدم ذكرها وهذا الوادي أصله من مائين يخرج أحدهما من بلد دنهاجة من جبلي البصرة والماء الثاني من بلد كتامة ثم يلتقيان فيكون منهما نهر كبير وفي هذا النهر يركب أهل البصرة في مراكبهم بأمتعتهم حتى يصلوا البحر فيسيروا فيه حيث شاؤوا. وبين تشمس والبصرة دون المرحلة على الظهر والبصرة كانت مدينة مقتصدة عليها سور ليس بالحصين ولها قرى وعمارات وغلات وأكثر غلاتها القطن والقمح وسائر الحبوب بها كثيرة وهي عامرة الجهات وهواؤها معتدل وأهلها أعفاء ولهم جمال وحسن أدب... )). في هذه الفقرة تأكيد على ما جاء في وصف بن حوقل و البكري و زاد عنهما قليلا من التفصيل لمنطقة وادي سفدد ( لوكوس ) و مصبها بما فيها حواضرها ( البصرة، قصر عبد الكريم "القصر الكبير حاليا"، و تشمس "ليكسوس" ) و نشاط ساكنتها، و شكل النهر و روافده و وظائفه، مضيفا بعض الإشارات الأخرى كحالة عدم الاستقرار و الحروب و الفتن المتوالية التي عانى منها سكان المنطقة و الذين يتشكلون أساسا من البربر، كما أشار الإدريسي إلى نهر ( لكس ) الذي توجد بضفته مدينة القصر الكبير حيث الأسواق و الخيرات و الرخاء، و هذا النهر هو نفسه سفدد أو لوكوس إلا إذا كان الجغرافي يقصد به رافد وادي المخازن.
الإدريسي في قاعة روجر الثاني مع حشد من الوجهاء والأمراء ويقوم الإدريسي بشرح كروية الأرض.
1) أبو القاسم محمد بن حوقل أو محمد بن علي النصيبي أو النصيبيني (ت. 367 ه/ 977 م) (ولد في نصيبين في شمال شرق الجزيرة الفراتية ضمن الحدود التركية اليوم، كاتب وجغرافي ومؤرخ ورحالة وتاجر مسلم من القرن العاشر للميلاد من أشهر أعماله (صورة الأرض) 2) مدينة البصرة تدعى أيضا (الحمراء)، و (البصرة الكتان)، و هي حاضرة مغربية مساحتها حوالي 30 هكتار أحيطت بأسوار عالية مدعمة بأبراج شبه دائرية عليها عشرة أبواب، تقع على الطريق الجهوي 408 غرب وزان، شمال سوق الأربعاء و جنوبالقصر الكبير بحوالي 20 كلم، تبعد عن المحيط الأطلسي بحوالي 40 كلم، كانت مركزا لإقامة الأمراء الأدارسة قبل أن تصبح عاصمة لدولة إدريسية صغيرة تابعة لحكم الفاطميين ممتدة من الريف إلى منطقة غمارة، تعرضت أسوارها للهجوم و دمرت على يد (أبو الفتوح يوسف زيري) عام 979 م، لكنها انتعشت زراعيا وصناعيا بعد ذلك، حتى تحولت إلى مركز تجاري واقتصادي مزدهر في القرن الحادي عشر الميلادي، اشتهرت بالصناعة و زراعة القطن وإنتاج الكتان.. فقدت أهميتها و تدهورت شيئا فشيئا عبر القرون اللاحقة إلى أن نشب فيها الخراب وزال أثرها تدريجيا. 3) هي قبائل شعب كتامة البرانس، التي ذكر ابن خلدون أن إليها تنسب قصور كتامة بالمغرب الأقصى، وأضاف ابن منصور أن مدينة القصر الكبير هي التي كانت تعرف قديما بقصر كتامة أو قصر عبد الكريم، كما ذكر البكري في كتابه المسالك والممالك مكانا منسوبا إليهم قريبا من جبل (صرصر) يسمى (قصر دنهاجة) ووصفه أنه على تل وتحته نهر عظيم وفيه آثار للأولين، و به كان ينزل ملوك المغرب في القديم. 4) أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز بن محمد بن أيوب بن عمرو البكري، نسبه عربي يرجع إلى قبيلة بكر بن وائل أكبر قبائل ربيعة في شبه الجزيرة العربية ، جغرافي وموسوعي وأديب ونباتي عربي أندلسي، ولد في ولبة قرب اشبيلية حوالي عام 1030م وتوفي في قرطبة عام 1094م اشتهر في القرن الحادي عشر الميلادي ، وهو أول الجغرافيين المسلمين في الأندلس، قيل إن ملوك الأندلس كانوا يتهادون كتبه. في عام 1949 م أطلقت وكالة الفضاء الأميركية ناسا اسمه على فوهة من فوهات القمر تقديرا لإسهاماته المتميزة في حقل الجغرافيا. يعتبر أبو عبيد البكري، أكبر جغرافي أنجبته الأندلس، فقد ألّف كتابين جليلين في الجغرافية أوّلهما ( معجم ما استعجم ) أورد فيه جملة مما ورد في الحديث والأخبار، والتواريخ والأشعار، من المنازل والديار، والقرى والأمصار، والجبال والآثار، والمياه والآبار، والدارات والحرار، منسوبة محدودة، ومبوّبة على حروف المعجم مقيّدة ؛ أما كتابه الثاني فهو ( المسالك والممالك ) وصف جغرافية الأندلس وأوروبا، وأفريقيا الشمالية، وله في علم النبات كتاب ( أعيان النبات والشّجريّات الأندلسية ). 5) نزهة المشتاق في اختراق الآفاق أو ( كتاب روجر )، يعتبر موسوعة جغرافية للعالم في القرن الثاني عشر، ألَف الإدريسي الكتاب للملك روجر صاحب صقلية بناء على طلبه، وضمنه كل ما عرفه الأقدمون من معلومات سليمة، وأضاف إليها ما اكتسبه وما رآه ورصده في رحلاته واختباراته ، وقد ظل الكتاب مرجعاً لعلماء أوروبا مدة زادت عن ثلاثة قرون، وفيه ألف وسبعون خريطة، وقد حققه المستشرق أومبرتو ريتستانو. 6) أبو عبد الله محمد بن محمد الإدريسي الهاشمي القرشي، عالم مسلم و أحد كبار الجغرافيين في التاريخ و أحد مؤسسي علم الجغرافيا، كما أنه كتب في الأدب و الشعر و النبات و درس الفلسفة و الطب و النجوم في قرطبة، استخدمت مصوراته و خرائطه في سائر كشوف عصر النهضة الأوروبية حيث لجأ إلى تحديد اتجاهات الأنهار و البحيرات و المرتفعات، و ضمنها أيضًا معلومات عن المدن الرئيسية بالإضافة إلى حدود الدول.