د. عبد السلام الحسين الجعماطي * احتضنت جزيرة تورة منذ القرن الرابع الهجري على أدنى تقدير ميناء بحريا يشهد حركة كثيفة للرواج الملاحي والتجاري؛ وهو زمن كانت الدولة المغربية خلاله قد مر على قيامها ما يناهز القرنين، وأضحت وقتئذ ذات سيادة ترابية على أراضيها وثغورها وهوية وطنية ثابتة لدى أهلها. ورغم الوضعية غير المستقرة التي عاشتها دولة الأدارسة خلال هذا القرن، فإن عيون المغاربة لم تغفل عن التيقظ والحذر، ولا سواعدهم ومهجهم عن بذل العزيز والنفيس من أجل التصدي للأخطار التي كانت تتهدد كيانهم الوطني. وفيما يلي استعراض لبعض المعطيات التاريخية الموثوقة عن هذا المرفأ المغربي العريق الذي تحوم حوله أطماع الإمبريالية وتحاول بشتى الوسائل طمس هويته التاريخية والحضارية. يقدم كتاب "المسالك والممالك" للجغرافي الأندلسي أبي عبيد عبد الله بن عبد العزيز البكري المولود بجزيرة شلطيش عام 405ﻫ. والمتوفى بقرطبة سنة 487ﻫ حقائق تاريخية قيّمة عن جزيرة "تورة" (أما "ليلى" التي لا أصل لها في الجغرافية العربية فما هي إلا تحريف للفظة الإسبانية " la isla" أي "الجزيرة" لا غير). والكتاب المذكور منشور ومتيسر بالمكتبات الخاصة والعامة، لمن ينشد الحقيقة التاريخية في مصادرها الأصلية، وقد حققه باحثان أجنبيان هما أدريان فان ليوفن وأندري فيري، وصدر بالاشتراك بين الدار العربية للكتاب بتونس ودار الغرب الإسلامي ببيروت سنة 1992. يتكون المؤلف من جزئين، وينقسم من حيث المواضيع إلى قسمين متقاربي الحجم، يعالج في القسم الأول في مقدمة عامة ومسهبة تاريخ البشرية منذ بدء الخليقة وتستعرض تاريخ الأنبياء منذ آدم (عليه السلام) وحتى بعثة محمد (صلى الله عليه وسلم) ويتضمن الفصل الموالي مختلف المعتقدات الدينية وبعض الأساطير القديمة، ثم وصف لأهم الهياكل الدينية المشهورة لدى مختلف الشعوب والحضارات؛ ويليه قسم جغرافي عام عن الأراضي والبحار والأنهار والأقاليم السبعة(1) . أما القسم الثاني من الكتاب، فيكتسي أهمية خاصة بالنسبة إلى موضوع الدراسة، إذ يتضمن وصفا للساحل المغربي اعتمادا على نصوص سابقة لسنة 460 للهجرة، وهي سنة تأليفه. ومن المرجح جدا أن التفاصيل التي يتضمنها تعود إلى القرن الرابع الهجري، وأنها نقلت عن مؤرخ مغربي اغترب بقرطبة عاصمة الخلافة الأموية بالأندلس، على عهد الحكم المستنصر الأموي (350-366ه) يدعى محمد بن يوسف الوراق (ت. 363ﻫ)، الذي ألف للخليفة المذكور حسب ما ينص عليه المقري في "نفح الطيب"(2) "كتبا في مسالك إفريقية وممالكها وفي أخبار ملوكها وحروبهم والقائمين عليهم"؛ ومن أكثر أوصافه تفصيلا وصفه لإفريقيا الشمالية... ومن هذا القسم يتضح لنا معرفة البكري العميقة بالطرق وبكل الساحل بمرافئه وخلجانه العديدة"(3)؛ ففي مجرى وصف البكري للطريق البحري الذي كان يربط بين طنجةوسبتة، يحدد مواقع المراسي الموجودة بين المدينتين المغربيتين، ف"إذا خرج الخارج من طنجة إلى سبتة في البحر فإنه يأخذ إلى جانب الشرق ، وأول ما يلقى جبل المنارة، ثم مرسى باب اليم، وهو غير مكن(4) وفيه سكنى ورباط وواد لطيف يريق في البحر، وبين طنجة وبينه ثلاثون ميلا في البر، وفي البحر نصف مجرى(5) ، ويقابل باب اليم جزيرة طريف [طريفة حاليا TARIFA] وبينهما ثلث مجرى ، ثم يلقى بعد باب اليم وادي زلول ، عليه ثمار وعمارة كثيرة ... ثم حجر نابت في البحر يعرف بالمبخة ، ثم مرسى موسى ، وهو مرسى مأمون مشتى(6)... وفيه نهر يريق في البحر [وهو وادي المرسى حاليا] وكان عليه حصن هدمه بنو محمد [الأمراء الأدارسة] ومصمودة [قبيلة بربرية ينسب إليها القصر الصغير] سنة اثنتين وثلاثمائة، ثم بناه أمير المؤمنين الناصر فهدموه أيضا سنة أربعين، وحول هذا الحصن في غربيه قبائل من البربر في ساحل رمل فيه ماء طيب، وهو متصيد أهل سبتة؛ وبين مرسى موسى ومرسى باب اليم في البر ثمانية أميال؛ وبازّاء مرسى موسى من بر الأندلس بورت لب ، ويقطع الغدير بينهما [ المقصود: مضيق جبل طارق] في نصف مجرى؛ ومرسى موسى موضع أكثر بقع الأرض قردة [ وهي موجودة بهذا الجبل لحد الساعة ]، وهي تحكي ما ترى من فعل من مرّ بها من الناس، فإذا رأت النواتية [أي البحارة] يجدفون في القوارب، أخذت عيدانا وجعلت تحكي عملهم، ويليه مرسى جزيرة تورة(7) وفي بره قرية تعرف بتورة ، فنسبت الجزيرة والمرسى إليها، وهي جزيرة في البحر كهيئة جبل منقطع عن البرّ يقابلها في البرّ على شاطئ البحر أجراف عالية، والمرسى بينهما وبين تلك الأجراف. ثم مرسى بليونش ، وبليونش قرية كبيرة آهلة كثيرة الفواكه وبغربيها نهر يريق في البحر عليه الأرحاء وبينه وبين مرسى جزيرة تورة في البرّ خمسة أميال، ثم موضع يعرف بالقصر على خندق يجري فيه ماء كثير في الشتاء ويقل في الصيف ، وبهذا القصر آثار للأول من أقباء [ أي سراديب] وغير ذلك؛ ثم موضع يعرف بماء الحياة، عيون منبعثة بين أحجار من تحت شرف رمل طيّبة عذبة يصل إليها الموج وينبط الماء العذب في هذا الرمل بأيسر حفر [يتميز المكان لحد الآن بغنى الشبكة الهيدروغرافية والمخزون المائي الباطني]، ويذكر أن بهذا الموضع نسي فتى موسى الحوت، ويوجد في ذلك الموضع خاصة دون غيره حوت ينسب إلى موسى... ثم مرسى لطيف يعرف بمرسى دنيّل، وبازّائه في البرّ قرية تعرف بهوارة(8) عامرة بها عيون عذبة، ثم حجر نابت في البحر يعرف بحجر السودان ثم سبتة"(9). ومن الجلي أن الساحل الشمالي للمغرب المطل على مضيق جبل طارق كان منذ زمن مبكر يعج بالنشاط البحري، فكثرة المراسي الممتدة على طول الشريط الساحلي الصخري الوعر والضيق الذي تتخلله شواطئ رملية متفاوتة الرقعة، برهان ساطع على وجود مواصلات بحرية ومبادلات تجارية كثيفة، سواء بين ضفتي المضيق أو بينهما وبين الموانئ المتوسطية والأطلنتية. ولعل في اشتهار المسافات البحرية بين مختلف هذه المراسي وما يقابلها من موانئ الأندلس لدى الجغرافيين العرب بمن فيهم البكري الذي لم يقدر له زيارة المغرب الأقصى رغم قربه النسبي منه من جهة، وفي محاكاة القردة للمسافرين عبر الطرق البرية وللبحّارة في حركة التجديف بالمجاديف، عبر الخطوط البحرية في البوغاز من جهة أخرى، قرائن كاشفة لأهمية النشاط الطرقي والتجاري بهذه المنطقة الإستراتيجية في تلك الفترة المبكرة. كما أن معرفة أنواع الأسماك التي زخرت بها أعماق المياه المغربية وقتئذ، دليل جلي على ممارسة سكان المنطقة للصيد البحري بشكل كثيف. أما جزيرة "تورة" التي يصفها البكري وصفا طبوغرافيا دقيقا ومطابقا لموقعها المشهود حاليا، كونها "جزيرة في البحر كهيئة جبل منقطع عن البرّ يقابلها في البرّ على شاطئ البحر أجراف عالية والمرسى بينها وبين تلك الأجراف"، فقد كانت -عكس وضعها الحالي الذي يوحي بغياب أي دور لها في المواصلات البحرية- محط رحال أو نقطة تزود للسفن التي تعبر المضيق طولا وعرضا؛ ولعل القرية أو المدشر الذي يحمل اسمها حتى الساعة كان أكثر انتعاشا وحيوية من الوقت الراهن بفعل استقباله للوافدين بحرا، في الآن الذي عد فيه منطلقا للمغادرين. وغير بعيد عن جزيرة تورة، شكلت قرية بليونش العامرة بمرساها الاستراتيجي منطلقا للسفن التجارية التي كانت تشحن مختلف الفواكه المنتجة بعين المكان؛ وكل هذه المعطيات التاريخية لا تدع مجالا للشك في أن هذه الرقعة الجغرافية من شمال المغرب ظلت طوال قرون عديدة إحدى بوابات البلاد نحو أسواق الحوض الغربي من البحر المتوسط ومنطقة للتجارة الدولية، مرتكزة على المواد الفلاحية والمنتجات البحرية مثل الأسماك والمرجان. والرواية هذه موضوع هذا المقال حجة لا يتطرق إليها الشك على أصالة مغربية المنطقة، فسكانها كانوا يشكلون من قبيلتي مصمودة وهوارة اللتين انتقلت عناصر منهما إلى الأندلس بعد الفتح الإسلامي لها عام 92ﻫ/ 711م؛ ووجدت لدى المغاربة منذ تلك الحقبة المبكرة روح وطنية صادقة برهنوا عليها بتصدّيهم لمحاولة أمويّي الأندلس في عهد عبد الرحمن الناصر (300-350 ﻫ) إيجاد موطئ قدم لهم بالمنطقة، عن طريق إقامة حصن ساحلي، غير أن المحاولة هذه باءت بالفشل كما يبين النص. خلاصة القول إن جزيرة تورة هي بقعة مغربية لها تاريخ عريق في تنشيط الملاحة والتجارة بالساحل الشمالي الممتد بين طنجةوسبتة، فضلا عن أهميتها في مراقبة مضيق جبل طارق، وأدائها لدور فعال كنقطة عبور بين ضفتيه؛ وبين هذا وذاك، لم تكن تلك المنطقة في زمن من تاريخ الدولة المغربية العريقة موضع نزاع أو تأرجح في التبعية السياسية للقوى الإقليمية بالحوض الغربي للمتوسط، على الرغم من تعدد المحاولات الهادفة إلى بسط السيطرة عليها منذ العصر الوسيط مثلما سلف تبيانه في هذه الدراسة. * أستاذ وباحث في تاريخ الغرب الإسلامي وحضارته. (1) أنظر مقدمة كتاب المسالك والممالك، ج.1، ص. 13-17 (2) أبو العباس المقري ، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب، الجزء الثالث، تحقيق د. إحسان عباس، بيروت، 1988، ص. 163. (3) أغناطيوس يوليانوفيتش كراتشكوفسكي ، تاريخ الأدب الجغرافي العربي، ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم، الطبعة الثانية، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1987، ص. 298. (4) مكن: بمعنى غير واق للسفن الراسية من أمواج البحر العاتية. (5) المجري البحري العربي مسافة قدرها ما تقطعه السفينة الشراعية بالريح الطيبة في يوم وليلة؛ انظر: عماد الدين إسماعيل بن محمد بن عمر أبو الفداء، تقويم البلدان، تحقيق م. رينو والبارون ماك كوكين دي سلان، بيروت، دار صادر، د.ت.، (عن طبعة باريس، 1840)، ص. 19؛ الدكتور حسين مؤنس، تاريخ الجغرافيا والجغرافيين في الأندلس، الطبعة الثانية، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، القاهرة، 1986، ص.211. (6) ) مشتى: أو شتوي: صالح لاستقبال السفن شتاء، في مقابل مرسى صيفي ينحصر نشاطه في فصل الصيف فقط. (7) في نسخ أخرى للكتاب توجد رسومات مختلفة لهذا العلم الجغرافي: التورية-التوراة-التوارة (8) هوارة: اسم لقبيلة بربرية كبيرة استوطنت شمال إفريقيا والأندلس خلال العصر الوسيط. (9) أبو عبيد البكري، المسالك والممالك، ج. 2، ص. 782-783.