بقلم أحمد بنميمون 1 في عرائش الذاكرة ها أنذا في العرائش بعد خمسين سنة، لكنني لم أجد عرائش الحلم والشباب ، ولم ألفَ خلال بحثي عما عهدته قائماً مستمراً فيها شيئاً، ليس بين البشر فحسب ، بل وحتى بين الشجر والحجر، فلم ألف من ثانويتي التي درستُ بها إلا بوابتها القديمة ، أما داخلها فقد تغير كلياً. ثمّ جعلت أتنقل بين أحياء المدينة و"جناناتها" فوجدت كل شيء زال ، حتى كاد ينتابني دوار وأنا أدفع عن لساني على غير رضى مني قول الشاعر القديم : (ما بكاء الكبير بالأطلالِ[] وسؤالي وما ترد سؤالي؟) وما زلت أطوِّفُ وأطوِِّف حتى رأيت أن ليس بيني وبين أهل الكهف كبير فرق حتى في عدد سني غيابهم عن مدينتهم التي كانت طاردتهم ففروا منها بجلدهم، إلا أنني أشهد أن عرائش الحلم لم تبعدني ، بل غادرتها وقد توجتني ايامها بكل ما كان يطلبه تلميذٌ من نجاح فيها. 2 منذ يومي الأول بالعرائش قبل ما يقارب خمسة أشهر، هالني الدمار الشامل الذي أصاب عرائش الذاكرة، خلال الخمسين سنة الأخيرة، فجعلت وأنا أجوبها من أقصاها غى اقصاها أردد مع الشاعر القديم: ما بكاء الكبير بالأطلال [] وسؤالي وما ترد سؤالي إذ لم ألف جداراً قديما واقفاً كما كان، ولا وجدت ممن بحثت عنهم من أصدقائي القدامى إنساناً يرشدني إلى أي مدخل نحو روح المكان، فكثير من اصدقائي بها هم الآن تحت الأرض أو في مكان آخر بعيد عنها، لقد تذكرت صديقي الذي كان يلتمس الصعود على أولى درجات الغناء، الشاب المجد:جمال الدين البقالي، وصديقاً آخر أتذكره ولا يحضرني اسمه فقد كان هو من يصاحبني إلى منزل الشاعر الراحل المختار الحداد الذي كان ضريراً وكان منزله بساحة التحرير في العمارة التي تقع مقهى لوكوس في طابقها الأرضي، ومعه قرأت كتباً ما كان يمكنني أن أصل إليها في ايامي تلك. وقد توفي الشاعر المختار سنة 1972، وإن أنس لا أنس قصيدته الرائعة بعنوان (المنارة)التي تناول فيها علاقته بمنارة المدينة التي تضيء حسب رؤيا الشاعر المحيط كله و(تدغدغه بالشعاع) بينما تتركه في غربته الروحية ومعاناة حالته كإنسان كفيف البصر ، ثاقب البصيرة التي كانت تكشف له عن خبايا الأمور، وقصيدته عن (الوردة والإنسان) التي تناول فيها كيف أن فتاة رائعة الحسن كان معجباً بها أهدته وردة اكتشف مع مرور الوقت أن الوردة لم تذبل لأنها ليست طبيعية بل مصنوعة من بلاستيك، وفي ذلك الزمان كان البلاستيك حديث عهد بالظهور، وقد انطلت الحيلة على الشاعر وفي قصيدته هذه يتناول المعادل الموضوعي لهذه التجربة وأثرها في عمق نفسه ما بين حسن بشري ساحر وجمال طبيعي باهر ، وعجرز ذاتي قاهر. ولقد هالني في شوارع العرائش التي تنطلق من ساحة التحرير بها، هذا الانتشار المخيف للمقاهي ، وكأن الناس لا تملك طريقة لاستثمار وقتها غير الجلوس على مقاعدها في انتظار غودو الذي لن يأتي ، وانتظار الموت الآتي لا محالة بحكم قوة الأشياء. حيث لاتكاد تفتح مقهى حديثة أبوابها حتى يسارع إلى مقاعدها الناس كأنهم الذباب تجذبه روائح لا يعرفها إلا هو. لكن لي رأي في تشجيع السلطات المختصة للإكثار من هذه الأماكن ، في مختلف مدن هذا الوطن ،لحاجة في نفس الحاكمين فيه، وسأعرض لها بالتفصيل في مكان اخر. لكنني كنت كلما مررت بباب ثانوية مولاي محمد بن عبد الله، أتذكر رجلاً ساندني في العرائش في مرحلة الطالب هو الأستاذ خليل العطاونة الفلسطيني مرهف الإحساس ، عميق الشعور بالغربة والضياع ، شديد التأثر بأية كلمة قد يفهم منها أنه ليس موضع ترحيب في بلاد الغربة، وقد كان الأستذ خليل أستاذي في شفشاون قبل أن ألتقي به أستاذاً لنفس المادة خلال المرحلة الثانوية التي أمضيتها في العرائش. فكم أتمنى أن لو كان هذا الأستاذ الفلسطيني حاضراً معنا في هذه الأيام ، ليشهد انتصار المقاومة الفلسطينية في غزة، لولا أنني كنت سمعت أنه نوفي إلى رحمة الله خلال ثمانينات القرن الماضي أو في بداية التسعينات منه . فلتسترح في قبرك أيها الأستاذ العظيم خليل العطاونة ، فقد كنت أستاذاً عالماً، لا تتوانى في جعل دروسك حلقات علمية في ما تتناوله من حقائق الجغرافيا ووقائع التاريخ. فما كان أجدر ان تسجلا ليوم بفرح لا يوصف أن فلسطين بخبرة شبابها تطلق صواريخ من صنع محليٍّ ، وبعقول فلسطينية مبدعة ، تحت حصار ظالم قاس ، لم تعشه أية مدينة في التاريخ ، مسجلة في الصبر والصمود أساطير سيذكرها التاريخ. وأتذكر أن الاستاذ خليل كان يمضي الدقائق الأخيرة من دروسه في حكاية نكتة كثيراً ما ينطلق في سردها بألإشارة إلى واحد منا ، وقد عرفت شفشاون الوديعة الصغيرة المساحة خلال بداية الستينات ظاهرة إطلاق صواريخ ألعاب ، خلال شهر رمضان المعظم، بعد أن حمل الإسبان مدفعي الإفطار والسحور ،وكل بنادقهم التي صدئت بعد الحرب الأهلية في إسبانيا، مع جلاء جيش الاحتلال عنها سنة 1957، ليظل الناس دون "عمارة " تطلق وقتي الإفطار والإمساك، ففي ليلة آخر شعبان وافق سنة 1664، وقف الأستاذ خليل مشيراً إليَّ ومخاطباً كل القسم قائلاً: غدا سيطلق صاروخان من جهتين من هذا العالم: الأول من قاعدة كاب كينيدي بالولايات المتحدة، والثاني من شفشاون مع أذان صلاة المغرب خلال رمضان القادم. وانفجر القسم في ضحك بريء غير مؤذ. فقد كان الجميع ألف في أستاذنا عادته المحببة هذه. رحم الله الأستاذ الفلسطيني الشاعرخليل العطاونة (دفين العرائش)فقد كان لي وأنا فيها هذه المدينة أخاً كبيراً، وموجها ناصخاً، وأستاذاً مربياً فاضلاً. يحترم فيَّ ما كنت أبديه من رغبة في الكتابة الشعرية، وإن لم يتأخر عن السخرية مني ذات نهاية أحد دروسه المفيدة، فقد كان طبعه السمح مجبولاً على ذلك. فقد كان يضحك كوسيلة لمقاومة قساوة الغربة هو الذي لم تتح له فرص الإنخراط في المقاومة المسلحة في وطنه لاعتبارات سياسية معقدة كان يعيشها الشعب الفلسطيني في تلك الأيام قبل انطلاقة الرصاصة الأولى صبيحة فاتح يناير 1965 كما يذكر التاريخ، إذ عرفته لأول مرة أستاذاً بمدينتي، مسقط رأسي سنة 1962. لألتقي به في العرائش صديقاً أكثر منه أستاداً لنفس المادة : تاريخ يقرأ واقع العالم كله : شرقيه وغربيه بعد نهاية الحرب الكونية الثانية. وما شهده وطننا العربي الكبير من مآسي وانقسامات وثورات وحروب ، لا نزال نعيش تأثيراتها ومضاعفاتها إلى يوم الناس هذا.