مدير "البسيج": القيادي في "داعش" عبد الرحمان الصحراوي بعث بالأسلحة إلى خلية "أسود الخلافة" التي فُككت بالمغرب    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الارتفاع    المغرب يتصدر قائمة مستوردي التمور التونسية    الارتفاع يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    الاتحاد الأوروبي يعلن تعليق عقوبات مفروضة على قطاعات اقتصادية أساسية في سوريا    أمن مراكش يوقف فرنسيين مبحوث عنهما دوليا    رصاصة شرطي توقف ستيني بن سليمان    دراسة تكشف عن ارتفاع إصابة الأطفال بجرثومة المعدة في جهة الشرق بالمغرب    دينغ شياو بينغ وفلاديمير لينين: مدرسة واحدة في بناء الاشتراكية    فنلندا تغلق مكتب انفصاليي البوليساريو وتمنع أنشطتهم دون ترخيص مسبق    السد القطري يعلن عن إصابة مدافعه المغربي غانم سايس    المهاجم المغربي مروان سنادي يسجل هدفه الأول مع أتليتيك بلباو    وزير يقاتل في عدة جبهات دون تحقيق أي نصر!    ائتلاف مغربي يدعو إلى مقاومة "فرنسة" التعليم وتعزيز مكانة العربية    الذهب يحوم قرب أعلى مستوياته على الإطلاق وسط تراجع الدولار وترقب بيانات أمريكية    المعرض الدولي للفلاحة بباريس 2025.. المغرب وفرنسا يعززان تعاونهما في مجال الفلاحة الرقمية    إصابة نايف أكرد تقلق ريال سوسييداد    ألوان وروائح المغرب تزين "معرض باريس".. حضور لافت وتراث أصيل    انفجار يطال قنصلية روسيا بمارسيليا    فتح بحث قضائي بخصوص قتل سبعيني لابنته وزوجها ببندقية صيد    "كابتن أميركا" يواصل تصدّر شباك التذاكر في أمريكا الشمالية    وزيرة الفلاحة الفرنسية: اختيار المغرب ضيف شرف المعرض الدولي للفلاحة بباريس يعكس جودة التعاون الثنائي    غوتيريش: وقف إطلاق النار في غزة "هش" وعلينا تجنب تجدد الأعمال القتالية بأي ثمن    الملك يأمر بنقل رئيس جماعة أصيلة إلى المستشفى العسكري بعد تدهور حالته الصحية    السعودية تطلق أول مدينة صناعية مخصصة لتصنيع وصيانة الطائرات في جدة    طقس بارد نسبيا في توقعات اليوم الإثنين    الداخلة تحتضن مشروعًا صحيًا ضخمًا: انطلاق أشغال بناء المركز الاستشفائي الجامعي محمد السادس بسعة 300 سرير    الصين: "بي إم دبليو" تبدأ الإنتاج الضخم لبطاريات الجيل السادس للمركبات الكهربائية في 2026    اتحاد طنجة يسقط أمام نهضة الزمامرة بثنائية نظيفة ويواصل تراجعه في الترتيب    غياب الإنارة العمومية قرب ابن خلدون بالجديدة يثير استياء وسط السكان    قاضي التحقيق بالجديدة يباشر تحقيقًا مع عدلين في قضية استيلاء على عقار بجماعة مولاي عبد الله    الوزير يدعم المغرب في الحفاظ على مكسب رئاسة الكونفدرالية الإفريقية للمصارعة وانطلاقة مشروع دراسة ورياضة وفق أفق ومنظور مستقبلي جديدة    مناقشة أول أطروحة تتناول موضوع عقلنة التعددية الحزبية في المغرب بجامعة شعيب الدكالي    آزمور.. مولود نقابي جديد يعزز صفوف المنظمة الديمقراطية للشغل    نقابة UMT تختم المؤتمر الوطني    قطار يدهس رجل مجهول الهوية بفاس    نائب رئيس الكنيست الإسرائيلي يدعو إلى قتل الفلسطينيين البالغين بغزة    صدمة كبرى.. زيدان يعود إلى التدريب ولكن بعيدًا عن ريال مدريد … !    نجوم الفن والإعلام يحتفون بالفيلم المغربي 'البطل' في دبي    ألمانيا.. فوز المحافظين بالانتخابات التشريعية واليمين المتطرف يحقق اختراقا "تاريخيا"    المغربي أحمد زينون.. "صانع الأمل العربي" في نسختها الخامسة بفضل رسالته الإنسانية المُلهمة    الإمارات تكرم العمل الجمعوي بالمغرب .. وحاكم دبي يشجع "صناعة الأمل"    إسرائيل تنشر فيديو اغتيال نصر الله    مودريتش وفينيسيوس يقودان ريال مدريد لإسقاط جيرونا    جمال بنصديق يحرز لقب "غلوري 98"    هل الحداثة ملك لأحد؟    نزار يعود بأغنية حب جديدة: «نتيا»    نجاح كبير لمهرجان ألوان الشرق في نسخته الاولى بتاوريرت    سامية ورضان: حيث يلتقي الجمال بالفكر في عالم الألوان    فقدان الشهية.. اضطراب خطير وتأثيره على الإدراك العاطفي    الشاذر سعد سرحان يكتب "دفتر الأسماء" لمشاهير الشعراء بمداد الإباء    فيروس غامض شبيه ب"كورونا" ينتشر في المغرب ويثير مخاوف المواطنين    التخلص من الذباب بالكافيين يجذب اهتمام باحثين يابانيين    رمضان 2025.. كم ساعة سيصوم المغاربة هذا العام؟    اللجنة الملكية للحج تتخذ هذا القرار بخصوص الموسم الجديد    أزيد من 6 ملاين سنتيم.. وزارة الأوقاف تكشف التكلفة الرسمية للحج    الأمير رحيم الحسيني يتولى الإمامة الإسماعيلية الخمسين بعد وفاة والده: ماذا تعرف عن "طائفة الحشاشين" وجذورها؟    التصوف المغربي.. دلالة الرمز والفعل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجنون كخلاص من عالم أفسده العقلاء
نشر في العرائش أنفو يوم 05 - 05 - 2020

من بين المواضيع الإشكالية والمهابة ليس على مستوى الحياة الإجتماعية فقط، و إنما حتى على المستوى التفكير و هي الجنون، إد تجد الناس يهابون المجانين حتى من باب الدعابة، و في نفس الوقت نرتعش ممن يوصفون بالمجانين، باعتبارهم أشخاص مرضى يمثلون خطرا على أنفسهم قبل غيرهم، هكذا أصدر من يعتبرون أنفسهم عقلاء أحكامهم، و مع تلازمية الرهبة و الإنبهار بالجنون يحضر هيجل مبينا أن القدرة على تحمل الذات كانت من نصيب الإنسان وحده، و لهذا كان امتياز الجنون إذا جاز التعبير وقفا على الإنسان وحده، ويذهب نيتشه أبعد من هيجل بقوله “هناك أمر واحد سيظل إدراكه مستحيل إلى الأبد: ألا و هو أن تكون عاقلا”، و إذا كان هيجل يضع الجنون داخل الفكر، فإن نيتشه يضع الفكر داخل الجنون، أما باسكال فطالما اعتبر أن الناس مجانين بالضرورة، أما كونهم غير ذلك فصورة أخرى من صور الجنون. و إذا كان الإنسان يتحدد دوما بوصفه حيوانا عاقلا، و كان هذا العقل هو ميزته الخاصة، فكيف يمكن لهذا العقل، الذي يبدو أنه كل الإنسان، أن يمنح معقولية، وجدارة وقيمة لمقابله، ولوجهه المظلم والمعكوس المتمثل في الجنون؟ أو لنقل هل يمكن للعقل أن يعترف بمعنى وقيمة للجنون؟ هل يمكننا قبول أن يكون الجنون صورة للحكمة، وشكلا من أشكالها، أو على الأقل، طريقا يسمح لنا ببلوغ الحكمة؟ هل هناك حقا معنى للرغبة في التوافق مع عالم عديم المعنى؟ ألا يوجد أسباب أخرى للرغبة في التَمَيُز عن عالم مجنون أكثر من التطابق معه؟ وبالتالي ما هو وضع الجنون وكذا المجنون؟ ألا يمكن أن يكون هذا الجنون خلاصنا من انحراف العاقل؟، و هل صحيح أن الإنسان فعلا حيوان عاقل و ليس مجنون؟ فكيف نعيد الإعتبار للمجانين إذن و من خلالهم للجنون؟
يلزمنا في البداية تعريف معنى الجنون، إذ يعرفهم المعجم العربي الوسيط بكونه مشتق من فعل جنن و نقول “جَنَّ الشيءَ يَجُنُّه جَنّاً: سَتَره. وكلُّ شيء سُتِر عنك فقد جُنَّ عنك. وجَنَّه الليلُ يَجُنُّه جَنّاً وجُنوناً وجَنَّ عليه يَجُنُّ،بالضم، جُنوناً وأَجَنَّه: سَتَره؛ قال ابن بري: شاهدُ جَنَّه قول الهذلي: وماء ورَدْتُ على جِفْنِه،وقد جَنَّه السَّدَفُ الأَدْهَمُ وفي الحديث: جَنَّ عليه الليلُ أَي ستَره، وبه سمي الجِنُّ لاسْتِتارِهم واخْتِفائهم عن الأبصار، ومنه سمي الجَنينُ لاسْتِتارِه في بطنِ أُمِّه”. وجِنُّ الليل وجُنونُه وجَنانُه: شدَّةُ ظُلْمتِه وادْلِهْمامُه، وقيل: اختلاطُ ظلامِه لأَن ذل.و هو حسب لسان العرب زوال العقل أو فساد فيه. بينما عرفته اندري لالاند في معجمه الفلسفي باعتبار “لفظ عام ومبهم جدا”، فهو مفهوم ضبابي غير واضح، ذي حدود غير مضبوطة بما أن الأمر لا يتعلق بتفسير ماهية الجنون بل بتقديمه بوصفه بديلا متاخما للعقل. إن الجنون، عند العديد من اليونانيين، هو الهوس (mania) الذي غالبا ما يكون مرتبطا مع عدة كلمات قديمة وبعواطف الروح التي غالبا ما ينظر إليها سلبيا: مينوس (menos) ، باثوس (pathos)، باثيما (pathema)، إيبيثوميا (epithumia)، للحديث بالإغريقية، و إنسانيا (insania)، فورار (furere)، ديليروس (delirus)،اضطراب (perturbation)، أنيمي (animi)، أو كذلك الليبيدو (libido) للمصطلحات اللاتينية. كل واحدة من هذه الكلمات تفتح الكثير من الفروق التي كان يعالج الجنون من خلالها في العصور القديمة اليونانية والرومانية: مرض الروح، المعاناة، الإلهام الإلهي، العاطفة، الشر، الرغبة، الحركة، الارتجاج، تؤثر، شهوة وغيرها. من الملاحظ إذن أن هناك تنوعا في الأبعاد و الدلالات التي يمكن أن يأخذها الجنون عند فلاسفة اليونان القدامى. تارة ينظر إلى الجنون إيجابيا حينما يفتح للعلم بشكل خفي تنبؤات (présages)، و تارة أخرى ينظر إليه سلبيا عندما ينسب إلى أمراض الروح التي تورط في المغالاة (intempérance). ربما، في الأساس، أنه يوجد في الجنون بعض من الإيجاب و السلب حتى وإن كان ذلك من خلال الرؤى الجديدة التي تفتحها و المعاناة التي، غالبا ما، تولدها هاته. ألم تقل العرب في الجنون فنون؟
الحيدث عن الجنون من زاوية فلسفية تقتضي أن نعرج على فيلسوف الجنون ميشيل فوكو من خلال كتابه ( تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي ) دون نسيان تاريخ الجنون لكلود كيتيل لكن دنا مع فوكو تحديدا الذي افتتح تقديم مناقشة أطروحته بالقول ” من أجل الحديث عن الجنون، ينبغي امتلاك موهبة شاعر” و على الفور رد عليه جورج كانغلهايم عضو لجنة المناقشة ” إنك تمتلكها، يا سيدي” طبعا تناول فوكو في أطروحته و في كتابه أيضا العلاقة بين الجنون وبين العقل ،على مدى أكثر من أربعمائة عام من التاريخ الأوروبي، أي منذ القرن السادس عشر وحتى النصف الثاني من القرن العشرين المنصرم، لكنه خصّ بالدرس الموسّع العصر الكلاسيكي، أو ما عُرف ب”عصر التنوير”، وتحديدا القرنين السابع عشر والثامن عشر.. و يعتبر فوكو أن كل شكل من أشكال الجنون كان له فى الماضي مكانه ومؤشراته وإلهه الحامي، وأن نظرة الناس إلى الجنون في القرون الوسطى كانت مختلفة عن العصر الكلاسيكي، وعن نظرتنا إليه في العصر الراهن. وكان كل عصر يشكل تصوره عن هذه الظاهرة التي ترعب عالم “العقلاء”، لذا كان الهمّ منصباً على التحكم في الجنون و المجانين، ولم يمنع هذا التحكم من الاحتفاظ بكل مظاهر سيادته، ويرى فوكو ان عصر النهضة أعاد إلى الجنون صوته، ولكنه تحكم في مصادر عنفه، وسيأتي العصر الكلاسيكي لكي يسكت صوته بقوة غريبة، ففى عصر النهضة كان العقل واللاعقل مجتمعين ، بمعنى أنه لم يكن هناك رفض صارم ل”اللاعقل”، بحيث كان هناك شعراء مجانين ، إلا أنه في القرن السابع عشر استبعد الجنون نهائياً من الساحة، وظهر (المستشفى العام) في سنة 1661م كي يتجسد الحجز فيه بامتياز، سجناً وإصلاحية ومأوى، بمعنى آخر أداة قمع، تظطلع بكل شيء باستثناء العلاج. ثم يتوقف فوكو طويلاً أمام جنون الفلاسفة والشعراء والأدباء والفنانين، أمثال هولدرلين، ونيتشه… إلخ. ويرى انه جنون يحقّ له أن يحاكم العقل الغربي المتغطرس وليس العكس، إذ لا يوجد أي عقل في العالم يستطيع أن يرتفع إلى مستوى جنون فريديريك نيتشه أو الشاعر الكبير هولدرلين. وأخيرا يثنى فوكو على هذا الجنون ويتحدث عنه بشاعرية، فهؤلاء المجانين الكبار – حسب رأيه – قدّموا روائع خالدة للثقافة الإنسانية. مثلا عمل عمر كوش/ حين يحاكم الجنون العقل الغربي. المجنون إذن على الرغم من المفارقة موضوع داخل الخارج، و طيلة فترة القرن الخامس عشر ظل مربوطا بالموت، بالعدم، وسيظل كذلك لفترة طويلة كما يتبيّن من التجربة الكلاسيكية للجنون مع فوكو الذي يرى كما اسلفنا الكر بأن في عصر النهضة أعاد صوته لكنه تحكّم في مصادر عنفه، أما العصر الكلاسيكي فقد جاء لكي يُسكته بقوّة. فالفيلسوف العقلاني ديكارت، صنّف الجنون في خانة الحلم وألقى عليه كلّ أشكال الخطأ. فالجنون حسب تأويل فوكو لديكارات مَقصيّ عند الذات التي تشك، كما سيكون من المستحيل ألاّ تفكر هذه الذات أو تكون منعدمة الوجود، لقد حصّن العقل نفسه ضد الجنون، وزال خطره من الممارسة العقلية «إن شك ديكارت يتخلص من سحر الحواس، ليخترق عالم الحلم، نبراسه في ذلك الأشياء الصحيحة، إلاّ أنه يُقصي الجنون باسم ذلك الذي يشكّ، ولا يستطيع أن يخرج عن العقل وأن لا يفكر وأن يكون منعدم الوجود». وابتداء من هذه الفترة «استُبعد الجنون نهائيا». لقد حدثت قطيعة أو، كما يسميها فوكو، أقيم خطّ فاصل تستحيل معه إمكانية تلك التجربة التي كانت سائدة في عصر النهضة وبمقتضاها يتداخل العقل واللاعقل. لكن فوكو ما يلبث و هو يحفر معرفيا أن يرى أن: «الانزياح عن العقل دون معرفة ذلك، لانعدام الأفكار، معناه الغباء، و الانزياح عن العقل والوعي بذلك، لأننا تحت نير عبودية هوى عنيف، معناه كون المرء ضعيفا. أما الإبتعاد عنه بثقة وباقتناع تام، فهذا فيما يبدو هو ما نُطلق عليه الجنون». مع أنه سبق و اعتبر الجنون من صنع الوسط الإجتماعي و الثقافي، من هنا لا يمكن للمجنون أن يكون كذلك بذاته، بل فقط في أعين طرف ثالث، هو الوحيد الذي يستطيع أن يُميّز بين العقل، وممارسة العقل، و بالتالي إصدار حكم قيمة مضمونه “مجنون”. فوكو إذن سيعيد الإعتبار للجنون لكن من بوابة قصة لديدرو، بعنوان “ابن أخ رامو”، و يَرويها لنا على هذا النحو: “في الوقت الذي حصّن فيه ديكارت نفسه، عن طريق اليقين، من أنه لا يُمكن أن يكون مجنونا، قام واحدا من أولئك المعتوهين، ابن أخ رامو بخرق هذا الحظر واعترف عن وعي منه بأنه مجنون، ولكنه وعي مستعبد، فهو مجنون لأنهم نعتوه بذلك وتعاملوا معه كذلك” فبدون الجنون فإن العقل سيفقد حقيقته وسيغرق العاقلون في رتابة وخواء، العقل الذي لا يكون هو ذاته إلاّ بامتلاك الجنون يكف عن تعريف نفسه بنفسه، ونقيضه يُصبح “عقل العقل”، من حيث أن العقل لا يُتَعرّف عليه إلاّ بضرب من ضروب التملّك. لأن العقل يصعد شيئا فشيئا نحو من يُدينه، ليفرض عليه الإستعباد المنحطّ، ذلك فإن الحكمة التي تعتقد إقامة رابط للمحاكمة والتحديد مع الجنون تكون قد طرحت في الوقت ذاته رابطا امتلاكيا وانتماء غامضا لتقول:”هذا مجنوني”، وذلك أنني أمتلك ما يكفي من العقل للتعرف على جنون هذا المجنون. و لقد تحولت علاقة العقل بالجنون إلى علاقة امتلاك، ومن هنا أصبح العقل يَفهم ذاته عن طريق نقيضه: إن العقل لا يمكن أن يحكم على الجنون دون أن يضع نفسه موضع تساؤل ضمن علاقات امتلاك، ولذلك فإن اللاعقل ليس غريبا عن العقل، بل يوجد داخله، يحاصره ويمتلكه ويحوّله إلى شيء، ويحيل هذا الأمر بالنسبة للعقل على ما هو داخلي، وعلى ما هو شفاف وجلي أيضا. فبينما تحتل الحكمة والحقيقة في العقل مواقع خلفية، لا يشكل الجنون دائما سوى ما يمكن أن يمتلكه العقل منه. “فمنذ مدة طويلة كان هناك مجنون الملك… ولم يكن هناك بشكل رسمي حكيم الملك”.
و أخيرا جاء الفرج وتمّ التعرف على الجنون في حقيقته التي ظلت مجهولة لمدة طويلة، هذا ما يدعيه تاريخ الطب العقلي الكلاسيكي، و بَطَلا هذا التحول المعرفي هما بينال في فرنسا وتوك في انجلترا. لكن مجهود أجيال كاملة من الأطباء والفيلانثروبيين، سيَشطبه فوكو هكذا بجرة قلم قائلا: الخطيئة التي اقترفاها بينال وتوك هي محاولة موضَعَة الجنون، وكشف حقيقته وذلك بتشكيل “حقل يجب أن يبدو فيه الجنون من خلال حقيقةٍ خالصة وموضوعيّةٍ وبريئة في الوقت ذاته… ما سيربحه الجنون على مستوى دقة قدره العلمي، سيخسره إذن على مستوى القوة في التصوّر الملموس… فكلما كان موضوعيا، كان أقل حسما. والحركة التي حررته لكي تراقبه، هي، في الوقت ذاته، العملية التي ستبدده وتُخفيه في كل الأشكال الملموسة للعقل”. وعلى هذا الأساس فإن تحرير المجانين الذي يعزى إلى توك وبينال هو مجرد أسطورة، فعملهما يبقى في العمق عملا اضطهاديا، والتحرر الذي اعتقد المؤرخون أنهم كانا يصبوان إليه أفضى، في حقيقة الأمر، إلى نتائج عكسية. و هنا ضرورة الإنفتاح على كتابه المراقبة و المعقابة، بحيث يمكن اعتبار مستشفيات المجانين بمثابة سجون مراقبة و عقاب و كثيرا ما نعت الحكام الطغاة حتى في الحضارىة العربية معارضيهم بالجنون و حكموا عليهم بأن يودعوا في المصحات العقلية، أو في أحسن الأحوال حتى لا يثق في أقوالهم الناس باعتبارهم مجرد مجانين، و حتى مشروع فرويد هو أيضا في نظر فوكو فاشل، لم يُخلّص المريض نهائيا من الإضطهاد ولم يتقدّم في مسار تحريره عما كانت عليه الحال عند توك وبينال، لقد اكتفى فقط بوضع كل اللبنات التي أعدها توك وبينال بين يدي الطبيب. فهو قد خلص المريض ظاهريا من الوجود المارستاني الذي وضعه داخله المحرران «ولكنه لم يُخلّصه مما كان يُشكل أساس هذا الوجود، لقد قام بتجميع سلطاته، ومدّدها إلى الحدّ الأقصى، ووضعها بين يدي الطبيب، وخلق بذلك الوضعية التي يجسدها التحليل النفسي حيث أصبح الاستلاب، من خلال قطيعة بالغة الذكاء، غير مستلب، لأنه أصبح، داخل الطبيب، لأن التحليل النفسي لا يستطيع سماع صوت اللاعقل وفك رموز علامات المجنون، لذلك سيظل غريبا عن العمل المستقل للاعقل إذ يقول فوكو هنا: “إنه لا يستطيع تحرير ولا تسجيل ما هو أساسي في هذا العمل، والأدهى من ذلك أنه لا يستطيع شرحه”. إذن كل مقاربة علمية للجنون ميئوس منها، وأية محاولة لفهمه لا تؤدي إلاّ إلى الفشل الذريع. ومن الأفضل، على كل حال، أن يكون الأمر كذلك، لأن في اللاعقل تتمظهر أرقى العبقريات الإنسانية، ويُتيح إنتاج إبداعات فكرية عظيمة، فمنذ نهاية القرن 18م لم تعد حياة اللاعقل تكشف عن نفسها إلاّ من خلال التَجَسُد في أعمال كأعمال هولدرلن ونيرفال ونيتشه وأرتو و غيرهم، و إذا كان ما أنتجه هؤلاء المجانين جنونا فإنه جنون يحقّ له أن يحاكِم العقل الغربي المتغطرس وليس العكس. فليس الجنون مرضا كما يحاول المجتمع و الطب أن يصوراه بل هو تعبير عن حالة عقلية تقف في منتصف الطريق بين مرحلة ذهنية وأخري تنقل الكائن من مرحلة ابستمولوجية الي اخري، و نادرا ما يوجد إنسان يخلو من ظاهرة الجنون بل جميعنا نمارس الجنون بطريقة او اخري لكن نخفي ذلك بفعل عوامل عدة قد يكون بعضها إجتماعي أو ديني أو سياسي، لذلك يعرّف فوكو الجنون بقوله: “الجنون معرفة، إنّه معرفة لكنه معرفة صعبة، ومنغلقة، وباطنية”، و بما أنه كذلك فقد احتفى به بالقول: “إن حضور(المجنون) يتم ضمن المشاركة المرئية المضيئة والمظلمة للكينونة واللاكينونة”، لغة الجنون أيضا هي لغة الغاية النهائية، والبداية المطلقة: نهاية الإنسان الغارق في الليل، واكتشاف النور في نهاية هذا الليل و فجر الصباح، هو نور الأشياء في لحظة بدايتها الأولى، سلطة الجنون هي عودة الغنائية، من خلال لمعان لحظي، تقوم دفعة واحدة بإنضاج زوبعة النهاية، وتُنيرها وتعمل على تَهدِئتها ضمن الأصل المستعاد، لأن النور ليس ممكنا إلاّ في ليل الجنون، نور يختفي عندما ينمحي الظل الذي يُبَدِدُه، فالإنسان في عصرنا الحاضر لا حقيقة له إلاّ في لغز المجنون الذي هو كذلك وليس كذلك، فكل مجنون يحمل ولا يحمل في داخله حقيقة الإنسان الذي يكشف عن كل خباياه من خلال إسقاطات إنسانيته، فتكون لحظة الجون محاولة لاستعادة الذات الهاربة في نواميس المجتمع و خلاص للروح المعذبة، و إعادة رتق ثقب اللامعنى في جدار حياتنا، و خير ما أختم به هو القول المأثور لجيلبير كيث تشيسترتون (Chesterton)، نقلا عن لاكان في أطروحته عام 1932: “ليس المجنون من فقد عقله، بل المجنون هو الذي فقد كل شيء ما عدا العقل”لأن في الواقع يتعلق الأمر بفهم المنطق الذي يقود العقل الوحيد حينما فقد اتصاله مع الآخر الرمزي للإستجابة لوضع اللامعنى المفتوح في وجوده.
و كل حجر و جنونكم عاقل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.