السياق: نشرت الجريدة الرقمية (بوعرفة المدينة) موضوعا عن الإعلام العمومي المغربي تحت عنوان "التلفزة المغربية وتكريس التفاهة"،قدمت له بهذا التعليق: (من حقنا أن تكون تلفزتنا الوطنية مغربية إسلامية وليس تغريبية هجينة لا أصل لها ولا فصل يجب عليها تكريس هويتنا الحضارية وقيمنا الموروثة والقيم الانسانية النبيلة مع التفتح الواعي والناقد على الحضارات والأخرى وغن كان هذا هو هدف المدرسة المغربية الوطنية فكيف تتعارض مؤسستان نعتمد عليهما في تكوين مواطن ينهل من الحضارة العالمية دون الانغماس فيها كليا والتشبت بهوته الحضارية المغربية) وبعد شرف قراءته والاطلاع عليه...أقول أنه كان محفزا لي للإسهام في هذا الموضوع الهام... شئ من التاريخ: بالرجوع إلى ما بعد الاستقلال والبدايات الأولى للسبعينيات سنقف على إعلام –أقصد هنا بالتحديد:الإذاعة الوطنية أولا ثم التلفزة الوطنية لاحقا في الستينيات من القرن الماضي-سنجد إعلاما مخالفا تماما لما هو عليه الآن،بل وأرقى...وإذا كان الشأن عند الدول-لانقول المتقدمة،ولكن على الأقل تلك التي سبقناها في الحصول عل الاستقلال -أنها تعرف التقدم إلى الأمام في شتى المجالات بما فيها ما جاء في الموضوع المشار إليه أعلاه: التعليم والإعلام...فإن الشأن ببلدنا السعيد معكوس تماما،إذ تعرف أهم القطاعات،من بينها التعليم والصحة والسكن والإعلام...تقدما إلى "الخلف".يحق لنا أن نقول عنها:(خمس في المغرب من المهلكات:التعليم والصحة والسكن والإعلام والمواصلات) حديث رواه مسلم. فما كان يبث بإذاعتنا،وفيما بعد بتلفزتنا،-على قلة الإمكانيات وضعف التجربة...-خلال الفترة المشار إليها آنفا،من أخبار وتحاليل وبرامج سياسية.. وأغان وتمثيليات أسبوعية وسهرات أسبوعية(من تقديم محمد بناني نجم ومقدم السهرات يومها)...الشئ الذي يفرض علينا،على الأقل أخلاقيا،ونحن نشير لتلك الفترة ألا نمر عليها هكذا سريعا دون التذكير بأهرامات وهامات سامقة في مجالات عديدة منها الإعلام والفن والمويسقى والطرب...من أمثال:(محمد بن ددوش،لطيفة القاضي،لطيفة الفاسي،بديعة ريان،الصديق معنينو،الطاهر العربي(آه وما أدراك ما الطاهر العربي،الذي كان يلقب ب(سايغون)،ذو الرشاد....وغيرهم من إعلاميينا المتميزين-رحم الله من مات منهم-). و(بوشعيب البيضاوي،القدميري،عبد العظيم الشناوي،الدغمي،عبد الرزاق حكم،حبيبة المذكوري،الحسين السلاوي،أحمد البيضاوي،الطاهر جيمي،المعطي البيضاوي-رحمهم الله جميعا-)....وغيرهم كثير،هذه مجرد نماذج على مستوى الفن-تمثيلا وغناء وموسيقى...- تحتفظ به الذاكرة الفردية والجمعية أيضا.. كنت تلمس في إعلامنا تنمية الذوق الرفيع عند المواطن،مستمعا كان أو مشاهدا،كنت أيضا تلمس التطبيق العملي لمقولة (البادية تتمدن) بمعنى أن المدينة بقيمها المدنية والحضارية كانت تؤثر في البادية،وهذا ديدن المدن وسكانها عبر التاريخ وعند من سبقنا من الأمم...كان يتم وبالتدرج الرفع من مستوى الوعي السياسي لدى المواطن..بارتباط ما كان يذاع ويبث بقضايا وطنية..مما يربي الناشئة على الارتباط بالوطن وحبه ويعلي حس المواطنة عندهم... خلفيات ما وقع: عند تقييم برامج إعلامنا الوطني اليوم والحكم عليها بالرداءة وتكريس التفاهة وتدمير قيمنا الحضارية وهدم جهاز المناعة في أمتنا المغربية وطمس معالم هوية شعبنا واجتثات شبابنا من جذوره التاريخية ليصبح مجرد ريشة في مهب الريح...وتوظيف المرأة/ الجسد بكل دونية وتشيئ وسفاهة...في الكثير من ذلك بشكل بشع يحط من قيمة بناتنا ونسائنا والدور الريادي الذي يمكن أن يلعبنه في المجتمع...لابد من استحضار خلفيات ذلك والأهداف المسطرة للانحدار به إلى ما انحدر إليه. إن أي تقييم وحكم لا يستحضر الخلفيات والماضي القريب..لا يخلو من اختزال مخل بالموضوع، من شأنه أن يقلل من جرعة الرسالة المراد تبليغها للرأي العام المغربي عموما وللمختصين خصوصا..من خلال التحليل. لقد عرف المغرب عدة أحداث مؤلمة،ودون الغوص في تفاصيل ما وقع منها في الستينيات،بين المعارضة آنذاك،الممثلة في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والقصر،لأنها لم يكن لها تأثير يذكر،سلبيا كان أم إيجابيا، على ما نحن بصدد،ونخص بالذكر على سبيلب الإشارة فقط: *أحداث 1963. *الإضراب العام الذي خلف العديد من الضحايا لسنة 1965. ونكتفي فقط بما عرفه المغرب منها(الأحداث) في بداية السبعينيات،لأنه في تقديرنا، تلك هي الفترة التي بدأ يعرف فيها تعليمنا وإعلامنا وصحتنا وسكننا....منعرجا خطيرا،أو لنقل بداية المنعرج بل بداية الدخول في النفق المظلم.. من تلك الأحداث المؤلمة: *المحاولتان الانقلابيتان الفاشلتان لسنتي (1971 و1972). *أخطر وأكبر إضراب عرفه قطاع التعليم سنة 1979. *الأحداث الدامية ليونيو 1981. *...................................... حيث كان بين كل حدث وحدث مما سبقت الإشارة لنماذج منها يتفتق العقل الأمني عن "إبداع" من "إبداعاته"..فمن تم بدأ التفسير الكارثي/التفسير بالمآمرة لكل ما يقع بالبلاد،وتصويره على أنه استهداف للنظام القائم ..وبدأت كل المشاريع والمخططات تحكمها المقاربات الأمنية،بدل المقاربة التصالحية،التحاورية...بين الأقطاب الأساسية في البلاد آنذاك المتمثلة في الحكم ممثلا في القصر والمعارضة..إذ كانت هناك جهات تستفيد من الصراع القائم ومن شأن أي تقارب بين المعارضة والقصر أن يلحق الضرر بمصالحها الخاصة فكانت تعمل على توتير الأجواء وشحنها. ومن هذه المقاربات ذات الخلفيات الأمنية: - الحط،وبالتدريج،من مستوى الأداء الإعلامي لوسائلنا الإعلامية الوطنية وتحريف مسار رسالتها... خصوصا بعد تولي سئ الذكر إدريس البصري وزارة الداخلية،المعروفة إلى وقت قريب،بأم الوزارات، في نهاية النصف الأول لعقد السبعينيات وفيما بعد أضيفت له مهمة الإشراف على الإعلام،فكان أول عمل قام به إسناد الإشراف على الإعلام لوال من الداخلية (الوالي طريشة)،فكانت سابقة في العالم العربي إن لم نقل في العالم أجمع،أن يتولى مسؤولية الإعلام مسؤول رفيع بوزارة الداخلية.في حين كان أول مدير للإذاعة والتلفزيون هو العالم والمفكر الكبير،عالم المستقبليات،المهدي المنجرة،بدون تعليق،وأترك الحرية للقارئ(ة) الكريم(ة) الوقوف عند هذه المفارقة العجيبة من عالم مفكر إلى وال بوزارة الداخلية.... فبدأ من يومها التردي وتكريس التفاهة والتجهيل واللاذوق والتسطيح...استهزاء وتسفيها لعقول المغاربة...بدأ تشجيع نشر البداوة - مع احترامي الشديد لسكان البادية،فالبداوة في نظري منظومة قيم تخالف كل ما هو مدنية وتحضر...لا ارتباط لها بمحل سكنى حضرا كان أم مدرا،إذ ليس كل ساكن البادية "بدوي" وليس كل ساكن المدينة "متمدن"- فبدأت التمثيليات والمسلسلات والممثلون(مع التحفظ على ذكر الأسماء فالشارع المغربي يعرفهم واحدا واحدا)...الذين يكرسون بلهجة ممسوخة هجينة "البداوة" في المجتمع...ويمدون بكل الدعم المادي وغيره من جهات رسمية من أموال الشعب ودافعي الضرائب.فانقلبت الآية وأصبحت المدينة تتبدى. - نفس الأمر بالنسبة للتعليم العمومي والمدرسة المغربية الوطنية،إذ مورس عليه التهميش والإقصاء والإجهاز على ما حققه المغاربة من مكتسبات نتيجة تضحياتهم أثناء فترة المقاومة للتحرر ونيل الاستقلال...فكان جزاؤهم،بل عقابهم، الإجهاز على : أ- 1) المجانية. 2) التعميم. 3) التعريب. 4) الوحدة. ب- وضع توصيات مناظرة إفران الأولى والثانية المتعلقة بالتعليم، على الرف.وعدم أجرأتها. ج- التركيز بشكل ملفت على مسألة تمويل التعليم في كل مخططات التنمية ،تقريبا،لسنوات (81-83 و88-92). اتخذ في المرحلة الأولى شكل تقليص ميزانية التعليم تناغما مع برنامج التقويم الهيكلي،المفروض على المغرب من طرف صندوق النقد الدولي والبنك العالمي،عبر ما يسمى ب:ترشيد نظام التعليم في شروط تستطيع المالية العمومية تحملها.مقابل إعطاء الأولوية في ميزانيات الدولة لسداد الدين الخارجي. وهكذا نجد العمل الممنهج الجهنمي الرامي إلى تقليص جودة التعليم العمومي وتهميش دور المدرسة العمومية مقابل سداد ديون الأبناك العالمية الدائنة...وفي المقابل تشجيع التعليم الخصوصي،لقطع الطريق والحؤولة بين أبناء وبنات الفقراء والطبقات المهمشة والمسحوقة في المجتمع وبين الحصول على حق من حقوقهم التي كفلتها لهم المواثيق الدولية ألا وهو الحق في العليم والتمدرس. في حين نجد دولا،نالت استقلالها سنوات بعدنا،فاقتنا تقدما تكنولوجيا بسنوات ضوئية لسبب بسيط أنها كانت تستثمر عائداتها المالية في تعليم بناتها وأبنائها..لأنها كانت بكل اختصار تمنهج أولوياتها وتطبق شعار: نجوع ونعرى...ولا تفرط في تعليم أولادنا. د- دون أن ننسى الإشارة إلى "الميثاق الوطني للتربية والتكوين" الذي جاء ليطلق رصاصة الرحمة على تلك المكتسبات خصوصا المجانية والتعريب..هذا الميثاق الذي سبق لقوى سياسية معارضة أن حذرت من خطورته منذ اليوم الأول لصدوره،حزب البديل الحضاري نموذجا وذلك عبر آليتين: الأولى:تنظيم ندوة وطنية بالدار البيضاء بمقر جريدة الجسر،استدعي لها خبراء في مجال التربية والتعليم،إذ أفرزت الندوة عدة توصيات تحذر من مغبة تطبيق هذا الميثاق. الثانية:رفع مذكرة للديوان الملكي تطلب فيها من ملك البلاد استعمال صلاحياته لتأجيل تطبيق الميثاق إلى حين استفتاء الشعب فيه. كان هذا قبل أن يعترف أحد أبرز مهندسي الميثاق،الراحل مزيان بلفقيه-سنوات بعد تنزيله-بفشله. ونظرا لأن مجال النشر لا يسمح بالتوسع في الحديث عن هاذين المجالين أوبتناول قطاعات ومجالات أخرى أكتفي بهذه الإشارات. على سبيل الختم: إن مشكلنا في المغرب كان ولا يزال مشكلا حضاريا بنيويا جوهره سياسي...لذا فإن حله لن يكون إلا عن طريق قرار سياسي شجاع من الجهات العليا بالبلاد،لأن ما كان وراء إفساده قرار سياسي فلن يتم إصلاحه إلا به.. إضافة إلى ملحاحية واستعجالية وضع مشروع مجتمعي توافقي،بشرط أن يستفتى فيه الشعب استفتاء حرا ونزيها، برنامج يتضمن مقاربات علمية حديثة...حتى يكون بمثابة رافعة لكل القطاعات المجتمعية لانتشالها مما تتخبط فيه...مستحضرين في ذلك المصالح العامة للوطن وللمواطنين بما فيهم الأجيال القادمة. أقدر أنه بدون ذلك سيبقى إعلامنا وغيره يراوح مكانه.. وستبقى آفاق تطوره واستجابته لقضايا ومتطلبات جيلنا الحالي وأجيالنا القادمة...مع تحديثه طبعا ليستطيع مواكبة عصر التطورات الإعلامية والاقتراب من مصاف وسائل الإعلام المتقدمة بالاطلاع على تجارب إعلامية رائدة والانفتاح عليها دون التفريط قيد أنملة في ثوابتنا وقيمنا وأسس حضارتنا...انفتاحا بلا ذوبان وتحصينا بلا انغلاق... غير واضحة المعالم، والرؤيا لواقع منشود ستبقى ضبابية وغير واضحة إن لم نقل منعدمة على الأقل في الأمد المنظور.