لا ينجح نضال من دون حماسة عاقلة، ولا ينجح نضال يفتقر إلى حماسة تلغي العقل. في حديث مع تلفاز روسيا اليوم، قلت ما يلي: إذا كان الحوار يعزز الحراك الشعبي، ويضم إليه أعدادا متزايدة من الواقفين على الحياد، وهم نسبة كبيرة جدا من المواطنين تتكون من أخلاط شعبية ومجتمعية متنوعة طبقيا ومذهبيا وإتنيا، وإذا كان يؤدي في الوقت نفسه إلى إكراه النظام - أو قطاعات منه - على إعادة النظر في مواقفه، أو إلى تلبية مطالب الشعب المحقة، فإنني سأؤيد شخصيا الحوار مع النظام، وإلا فإنني لن أشارك في أي حوار، لأنه لن يكون حوارا، بل تغطية للحل الأمني لا بد من أن ترفض المعارضة تقديمها، وإلا خانت الشعب ووضعت نفسها في صف أعدائه وخصومه، الأمر الذي لا يمكن أن أوافق عليه، أنا أو أي معارض، بما أن النظام أغلق بالحل الأمني باب الحل السياسي، وتاليا باب الحوار، وأنه يتحمل المسؤولية كاملة عما يحدث في سوريا من عنف واحتجاز للحل الحواري والسلمي. قلت هذا ردا على سؤال طرحه تلفاز دولة تتهم المعارضة بالتخلي عن الحوار والنزوع إلى العنف والسلاح، فماذا كانت النتيجة؟ سارع بعض أبطال «المعارضة» في الخارج، الذين لم يلعبوا أي دور على الإطلاق في تاريخ سوريا المعاصر والحديث غير التمتع بالعيش الآمن خارج وطنهم والتخلي التام عن شعبهم، إلى اتهامي بخيانة «الثورة» والسقوط في حضن النظام. ما الخطأ في أن تبدي المعارضة استعدادها للحوار وفق بيئة تخدم أهداف الشعب وتغير النظام؟ وأية جريمة تكمن في أن يتعهد المرء بالامتناع عن القيام بأية خطى تخدم السياسات المعادية له؟ ومن قال وأين أن الحوار حرام ودنس، وأن الثوري هو الذي لا يحاور ويرفض رفضا نهائيا وقاطعا الحوار كمبدأ وممارسة، ويعلن ليل نهار رفض أي حوار بغض النظر عن موضوعه وأطرافه وأهدافه، ويكرر أن لا حوار مع النظام تحت أي شرط وظرف، ويتخلى بالتالي عن قسم كبير من المجال السياسي وممكناته التكتيكية والاستراتيجية، ويحجم عن خوض حوار تخدم شروطه قضيته، بحجة أن الحوار يستحيل أن يخدمها، لمجرد أنه حوار؟ أخيرا، من الذي رأى في تاريخ الثورات جميعها واحدة تنطلق من أول إلى آخر يوم دون أي نوع من أنواع الحوار مع النظام الذي تريد التخلص منه، أو مع أي طرف من أطرافه، ومن قرأ في أي كتاب سياسي أو ثوري ما يزعم أن الحوار لا يمكن أن يكون غير خيانة معلنة، وأن الثوري يسقط بمجرد أن يبدي استعداده للحوار مع الغير أو يحاوره بالفعل؟ أريد، بداية، طمأنة ثوار آخر زمن إلى أن النظام مثلهم: يرفض الحوار ويعتبره هزيمة له، وأنه سيواصل الحل الأمني حتى هزيمتهم أو سقوطه. وإذا كان بينهم من يعتقد أن المؤتمر الحواري الذي عقد برئاسة الأستاذ فاروق الشرع كان يعني طي صفحة الحل الأمني وفتح باب الحوار، فإنه لم يفهم ما حدث، ولو فهم، لكان لاحظ أن المعارضة أبعدت عن المؤتمر كي لا تكون هناك سابقة حوارية عامة وعلنية معها، لأن مشاركتها في الحوار كانت ستمثل لأول مرة في تاريخ البعث اعترافا رسميا بأنها طرف داخلي له حق المشاركة المتساوية مع النظام في الحياة السياسية والعامة. كي لا يحدث هذا، رفض النظام البيئة التي جعلتها المعارضة شرط إسهامها في المؤتمر، الذي اعتمد من جانبه مفردات هذه البيئة كتوصيات طالب السلطة بتحقيقها، لكن هذه رفضتها من جديد جملة وتفصيلا، قبل أن تسخر بصورة علنية من جهود الأستاذ الشرع، وتستبدلها ببدعة أسمتها حوارات المحافظات، قاطعتها المعارضة بدورها كما قاطعت مؤتمر الشرع، دون أن يشفع لها موقفها في الحالتين عند ثوريي «السان ميشيل» الأشاوس، الذين أخشى كثيرا أن يأتي وقت يستجدون فيه الحوار مع النظام، فلا ينالونه حتى مع بواب أو مخبر فيه. ليس رفض الحوار واتهام كل من يتحدث عنه غير دليل على تخلف الوعي السياسي عامة والديموقراطي خاصة: فالسياسي يعلم أن الحوار ورقة يمكن أن تكون ضاغطة جدا على الخصم، وأنها قد تسبب له من الإرباك ما قد تعجز الوسائل الأخرى عنه، وأن كل صراع قد ينتهي بحوار يمهد لتفاوض وتاليا لحل لا تعينه الرغبات بل موازين القوى، التي يجب على كل ثوري العمل لبنائها بطريقة تجعل نتائج الحوار لصالحه، فيكون رفض الحوار خيانة للثورة، وقبوله خدمة حقيقية لها، على عكس ما يظن بعض الجهلة بأبسط أوليات السياسة. بدلا من العمل لخلق ميزان قوى كهذا، يضيع ثوار آخر زمن وقتهم في تخوين من يدعو إلى حوار يسهم في بناء ميزان قوى في صالح الشعب، لاعتقادهم أن لا دور لأي حوار في بنائه، وأنه سيكون في جميع أحواله لصالح الخصم، الذي يرفضه مثلهم في الحالة السورية الراهنة، لكنه يستخدمه كورقة يشق بواسطتها الحراك الشعبي، لإيمانه أنه سيجد في ثوار آخر زمن من يعينه على بلوغ هدفه، بقسم البشر إلى مؤيدين للحوار فهم خونة، ورافضين له فهم ثوار، مع أن الواقع كثيرا ما قال عكس ذلك تماما، وأكد أن التخلي عن مبدأ الحوار قد يعادل في ظروف معينة التخلي عن ورقة السياسة، التي لا تنتصر ثورة إن تخلت عنها. أما الديموقراطي، فهو مع الحوار كمبدأ، لكنه لا يرى منفصلا عن حاضنته العامة، ويقومه انطلاقا من فاعليته وجدواه وما يمكن أن يقدمه من خدمة للنضال الشعبي. من أين ينبع كره الحوار، الشائع جدا في سوريا اليوم؟ أعتقد أن في ما قلته قبل أسطر يقدم جوابا عن هذا السؤال: من الجهل السياسي ومناهضة الديموقراطية، وبالتالي من رؤية العمل العام بأعين تعزل مفرداته بعضها عن بعض، فتؤله بعضها دون تبصر وتفكير، رغم أنه قد يكون مبنيا على خطأ، وتشيطن غيره فتدينه وتتنكر له ولمن يخالفونها الرأي حياله، مع أنه قد يكون صحيحا ومفيدا، مما يدفع بالأمور في حالتي التقديس والشيطنة إلى مسارات تنتهي إلى متاهات تلحق ضررا شديدا بالقضية التي يتبناها المرء، يحجم العاقل في العادة عن الانخراط فيها، لأنه يدرك مسبقا أنها تخدم خصمه. أغلق النظام باب الحوار عندما أغلق باب الحل السياسي بقوة الحل الأمني. ويغلق بعض معارضيه بابه بدورهم، من خلال نظرة إلى الثورة تفتقر إلى وعي الواقع وتعقيده، وإلى رحابة الرؤية الديموقراطية التي يتمسح هؤلاء بها في أحاديثهم، لكنهم يقتلونها في عقولهم إن كان لديهم عقول وفي الواقع، فيصير موقفهم مطابقا تماما لموقف النظام، الذي يعتقدون أن الثورة تنجح حكما بمجرد أن يعلنوا القطيعة معه ويكثروا من شتمه، متجاهلين تفوقه عليهم ليس فقط في قواه الأمنية، وإنما كذلك في طرق إدارة لعبة سياسية يعرف كيف يعزف على أوتارها بدراية، وفي أحيان كثيرة بنجاح، رغم أنه على باطل، في حين يفشلون هم، مع أنهم على حق. من سوء حظ المرء أن يعيش في زمن يجبره على التذكير بمبادئ الحساب البدائية، بينما ينتمي العمل النضالي إلى عالم الرياضيات العليا. ومن سوء طالع الثورات أن يكون بعض من يزعمون الانتماء إليها على هذا القدر من الجهل والتفاهة، وأن لا يكون لديهم أي رهان آخر غير جرها إلى وضع تصير فيه خلافات أطرافها تناقضات رئيسة تضعها بعضها في مواجهة بعض، بينما تحتاج جميعها إلى أعلى قدر من الوحدة، في وجه خصم أثبتت الوقائع أنه موحد إلى إشعار آخر.