"الاجابة تونس".. هي العبارة التي يرددها المصريون كلما تعلق الأمر بكيفية الخروج من أزمتهم السياسية وآمال تحقيق الديمقراطية في بلادهم. لايرتبط الأمر فحسببإمكانية"تصدير" ما يسمى بالاستثناء السياسي التونسيالى المنطقة العربية، ولكن أيضابإمكانية تقليد ديناميكية المنظمات النقابية وجمعيات المجتمع المدنيالمشكلة للمشهد السياسي في تونس والتي باتتتمثل سلطة مقترحات ورقابة قوية للسلطات. نقابة الصحفيين التونسيين هي أحدى هذه المنظمات المهنية النقابية التي أصبحت تعدنقابة ذات ثقل وتأثير متنامي. لا يتردد الصحفيون التونسيونفي القول "بأن قصة نقابتهم هي قصةالبحث عن الحرية". هي بالنسبة لآخرين أكثر من هذا، هي أحد المؤشرات الأساسية لنجاح التجربة الانتقالية نحول الديمقراطية في تونس. فمنذ الأيام الأولى للثورة برزت نقابة الصحفيين كفاعل اساسي في المشهدين النقابي والسياسي. هذه المقالة تسرد مسيرة التحول والبحث عن التموقع التي عرفتها نقابة الصحفيين التونسيين. النقابة.. الملجأ العربي الجديد! كثيرة هي مؤشراتالدور الجديد الذي أصبحت تتمتعبهالنقابة الوطنية للصحفيين التونسيينفي محيطها المحليوالإقليمي. ففي شهر ماي سنة 2016،استضافت نقابة الصحفيين فعاليات المؤتمر الثالث عشر للاتحاد العام للصحفيين العرب وهو المؤتمر الأول من نوعه الذي تعقده كبرى المنظماتالنقابية العربية للصحفيين في شمال افريقيا منذ تأسيسها سنة 1964(1).كانت العادة في السابق،هي أن تشرف بلدان المشرق العربيعلى تنظيم مثل هذه المؤتمرات. انعقد المؤتمر بتونس العاصمة تحت شعار "لا للإفلات من العقاب بالنسبة للجرائم المرتكبة ضد الصحفيين" وهو موضوعيُعدَ من المحظورات في المنطقة العربية(2). أصبحت تونس ونقابة الصحفيين التونسيين،بالنسبة للعديد من المراقبين، ملجأالعديد من الصحفيين العرب الهاربين من الحروب الأهلية والمضايقات في بلدانهم على شاكلة العديد من الصحفيين السوريين والليبيين والمصريين والعراقيين واليمنيين الذين اتخذوا من تونس مقرا جديدا لعملهم ولإقامتهم. خباب عبد المقصود، صحفي مصري ومنتج برامج مقيم في تونس، واحد من عشرات الصحفيين العرب الذين اتخذوا من تونس فضاءا لممارسة مهنته الصحفية يقول "في سنة 2015 قررت الخروج من مصر بعد أن أصبح الاعلام تقريبا ذا صوت واحد. كنت مراسلا ومنتجا في فريق آخر كلام (تلفزيون "أون تيفي" المصري الخاص). لم أكن وحدي الذي غادر البرنامج ، فأغلب فريق البرنامج أصبح خارج مصر. لم أتردَد في المجيء الى تونس التي واصلت ثورتها ولازالت على طريق التغيير".يضيف"عبد المقصود":مساحة الحرية والأمان في تونس تجعلني أشعر أنني قادر على نقل حكايات الناس كما أراها".(3) عاما بعد انعقاد مؤتمر اتحاد الصحفيين العرب في تونس بالحساسية التي حملها شعاره، أعلن الاتحاد الدولي للصحفيين من مقر نقابة الصحفيين في تونس يوم 18 نوفمبر2017 عن مشروعمعاهدة دولية جديدة لحماية الصحفيين في العالم. كان من الواضح أن الاعلان عن هذه المعاهدة الجديدة من تونس وبحضور "أنطوني بلانجير" الأمين العام للاتحاد الدولي للصحفيين و"ناجي البغوري" نقيب الصحفيين التونسيين، بمثابة اشعارلما أصبحت تتمتع به تونس ومنظمتها الصحفية من دور مهم وكملجأ جديد في المنطقة العربية لكلَ المبادرات الحامية للصحافيين والمدافعة عن حرية الاعلام. فضلا عن مؤتمر اتحاد الصحفيين العرب،قررت الكنفدرالية الدولية للصحفيين عقد مؤتمرها القادم، أواسط سنة 2019في تونس تحت اشراف نقابة الصحفيين التونسيين، وهو الحدث الذي يعدُالأول من نوعه في المنطقة العربية وافريقيا. يعدَ اختيار تونس لتنظيم المؤتمر العام للاتحاد الدولي للصحفيين حدثا استثنائيا في تاريخ الصحافة العربية أرجعه مؤيد اللامي رئيس الاتحاد العام للصحفيين العرب"الى نضال وجُهد الصحفيين التونسيين في ترسيخ مبادئ الحرية والديمقراطية في بلادهم"(4) فطوال السبعة السنوات الأخيرة التي أعقبت الثورة تحولت نقابة الصحفيين التونسيين الى رقم صعب في المعادلة النقابية والسياسية في البلاد، دفع يوسف الشاهد، خامس رئيس حكومة بعد الثورة، الى الحضور بنفسه الى مقر النقابة بالعاصمة يوم 14 جانفي 2017، بمناسبة الذكرى السنوية للثورة وبمناسبة الذكرى التاسعة من تحول "جمعية الصحفيين التونسيين" الى "نقابة وطنية للصحفيين"(13 جانفي 2008).جاء رئيس الحكومة بنفسه الى مقر نقابة الصحفيين بالعاصمة تونس معلناعن جملة قرارات اجتماعية واقتصادية شملت بشكل خاص دعم الصحافة المكتوبة التي تعيش أزمة اقتصادية خانقة أدَت الى اغلاق العديد من الصحف في السنوات الأخيرة. كان حضور رئيس الحكومة شخصيا الى مقر النقابة بمثابة الاعتراف بالمكانة التي أصبحت تتمتع بها نقابة الصحفيين بعد عشريات من القمع والتضييقات. أشواق الحرية من المهم أن نعود الى السنوات الأخيرة التي سبقت الثورة لنفهم هذا التطور الذي شهدته نقابة الصحفيين التونسيين مكانة وأهمية.فقد اتسمت هذه السنوات، بحسب تعبير النقيبة السابقة للصحفيين التونسيين نجيبة الحمروني،وهي أول امرأة تعتلي منصب رئاسة نقابة صحفية في المنطقة العربية، بمثابة "سنوات الصراع من أجل شرعية الوجود"(5). طوال الخمس سنوات التي سبقت الثورة، خاض الصحفيون التونسيونصراعا طويلا من أجل فرض مطلبهم بتحويل هيكلهم الى "نقابة" متخليين عن دورهم الذي رُسم لهم من قبل نظام الرئيس زين العابدين بن علي الذي أراد أن يواصل هذا الهيكل دوره "كجمعية" تقاس أهمية دورها بمدى التزامها بالخطوط الحمر التي رُسمت لها. كانت توازنات النظام في تلك الفترة وتزكيته لبعض المرشحين في انتخاباتها عنصر مهم في وجودها ودعمها ماليا وتحديد دورها مسبقا. تاريخ نقابة الصحفيين التونسيين هو في الحقيقة تاريخ المنظمات النقابية في تونس، حيث تأسَس أول هيكل مهنيجامعا للصحفيين في تونس سنة 1962 تحت اسم "الرابطة التونسية للصحافة" قبل أن يتحول اسمها سنة1969الى "جمعية الصحفيين التونسيين". في جانفي 2008 استطاع الصحفيون التونسيون تحويل "جمعيتهم" الى "نقابة وطنية للصحفيين التونسيين". في عام 2009 ، شنت الحكومة حملة ضدالنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، بعد أن بدأت الأخيرة تنتقد الحكومة لتقييد حرية الصحافة ومعاملة قاسية للصحفيين. أدت الحملة إلى الإطاحة وتهميش المكتب التنفيذي الشرعي والمنتخب بشكل مستقل واستبداله بمكتب جديد مواليًا للرئيس. عايشت هياكل الصحفيين التونسيين بتسميتها المختلفة حقبة الثلاثين سنة من حكم مؤسس الجمهورية التونسية الحبيب بورقيبة سنة 1956، كما تعايشت مع رُبع قرن من فترة حكم الرئيس زين العابدين بن علي هذا فضلا على فترة الثلاثة الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم البلاد بعد الثورة. طوال حوالي نصف قرن، خاض الصحفيون التونسيون صراعات متعددة من أجل الاستقلالية وحرية الاعلام. الكاتبة الصحفية والناشطة النسوية المخضرمة"نورة البورصالي"(6) اشتغلت في ثلاثة صحف تمكنت السلطات السياسية من اغلاقها قبل الثورة وهي جريدة "المغرب" و"الرأي" و"لوفار"، كما عايشت "البورصالي" طوال الثلاثين السنة الماضية اعتقال العشرات من الصحفيين التونسيين وسجنهم. وصَفت"البورصالي" حالة الانغلاق الاعلامي التي بلغت أوجها في السنوات الأخيرة قبل الثورةبانها "حالة ديكتاتورية تدعو الى الاكتئاب"(7). رياح الثورة جاءت الثورة وبادرت السلطات السياسية الانتقالية قبل انتخابات 23 أكتوبر 2011 بدفع من نقابة الصحفيين ومنظمات المجتمع المدني الى سنَ تشريعات جديدة وقتية(8). أنصفت الثورةالمكتب الشرعيلنقابة الصحفيين التونسيين وأعاد الصحفيون التونسيون بأغلبية ساحقة الشرعية لمكتبها المُنقلب عليه. كانت نقابة الصحفيين التونسيين من أولى النقابات التونسية التي عقدت مؤتمرها العام بعد الثورة يومي 4 و5 جوان 2011. اُنتخبتنجيبة الحمروني كأول امرأة نقيبة الصحفيين في تونس وفي المنطقة العربية. كانت البلاد وقتها تعيش صراعا سياسيا حاميا بين القوى الديمقراطية وبين التيار الاسلامي وحلفائه الذين فازوا بأول انتخابات ديمقراطية تجري في البلاد. طُرح السؤال وقتها عن الدور الذي من المفترض ان تقوم به نقابة الصحفيين في هذه المعركة الحاسمة في الفترة الانتقالية أين ستتموقعنقابة الصحفيين؟ هل سيكون لها دور فاعل ومستقل؟ هل ستكون أداة للأطراف السياسية في المعركة الجاريةأم ستكون مجرد مراقب سلبي لما يحصل؟!كان امتحانا عسيرا للنقيبة التي وقع انتخابها حديثا ولمكتبها الجديد. تمكن مكتب نقابة الصحفيينفي تلك الفترة من ايجاد عناصر "كيمياء"التموقع المناسبة في الساحة النقابية والسياسية. كان عنوان هذه الكمياء كلمة مفتاح هي "الاستقلالية" مع تأكيد النقابة في كل مواقفها انها جزءا أساسيا من المعركة السياسية حول الحريات في تونس. مثل هذا الدور كان محل اعتراف من قبل نورالدين الطبوبي الامين العام للاتحاد العام للشغل (أكبر النقابات العمالية في تونس). أكدالطبوبي هذا الامر في افتتاح المؤتمر الرابع لنقابة الصحافيين الذي عقد يوم 19 ماي 2017. اعتبر الامين العام لاتحاد الشغل ان النقابة نجحت بذكاء في تجاوز كل المحن التي اعترضتها منذ الأيام الاولى للثورة "واستمات غالبية الاعلاميين في الدفاع عن فسحة الحرية ضد جميع محاولات الالتفاف عليها". الصحفية حنان زبيس والتي كانت من ضمن أعضاء لجنة الحريات في نقابة الصحفيين أثناء الفترة النيابية للنقيبة لنجيبة الحمروني (2011 /2014) تؤكد هذا التمشي بأكثر وضوح وتقولاخترنا في النقابة "الانخراط المباشر في الصراع السياسي من أجل الحريات، كل الحريات ضد حكومة الترويكا"(9). وتفسر زبيس هذا الاختيار بالقول" كانت تلك الفترة تأسيس لواقع صحفي جديد يقطع مع هيمنة السلطة على المشهد الاعلامي ويكرس حرية الصحافة واحترام أخلاقيات المهنة والدفاع عن حقوق الصحفيين عبر منظومة قانونية متكاملة"(10). في الحقيقة كانالبروز السياسي لنقابة الصحفيين مستجيبا للروح الجديدة السارية في البلاد بعد الثورة، والتي لعبت فيها منظمات المجتمع المدنيوالنقابات وأساسا الاتحاد العام التونسي للشغلدورا مركزيا في انجاح التحول التونسية. خصوصية دور النقابات ومنظمات المجتمع المدني هو الذي مكن تونس من الاحراز على جائزة نوبل للسلام سنة 2015. كانت هذه المرة الاولى التي تُمنح فيها الجائزة النرويجية الدولية لمنظمات عربية بعد منحها من قبل لثلاثة شخصيات عربية في السابق(11). مثلت هذه الجائزة اعترافا دوليا لشبكة النقابات والجمعيات المستقلة في تونس ولدورها في انجاح ما سُمي "بالاستثناء الديمقراطي التونسي". صحيح أن نقابة الصحفيين التونسيين لم تكن من ضمن الرباعي(12) الذي تحصل على الجائزة، ولكنها كانت عنصرا أساسيا في عملية التشبيك النقابي والجمعياتي التي ضمَت العشرات من النقابات والجمعيات الأخرى والتي تصدَت لكل محاولات قمع الحريات في تونس وتأكيد قيم التعددية والاختلاف في المجمع التونسي. على المستوى الاعلامي كان دور نقابة الصحفيين رياديا فيدعوة كل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة الى احترام استقلالية وحرية الصحافة. معركة الاستقلالية منذ وصول الاسلاميين وحلفائهم الى السلطة بعد انتخابات أكتوبر2011 تسارعت وتيرة التعيينات المُسقطة على وسائل الاعلام ومحاولات احتوائها. قامت الحكومة وقتها بتعيين عناصر قريبة منها سياسيا وايديولوجيا على رأس وسائل الاعلام العمومية ونصبت من ترى فيهم "موالين" على رأس ادارة بعض وسائل الاعلام المصادرة من قبيل جريدة "الصباح" اليومية واذاعة "شمس افم"بالإضافة إلىالتلفزة الوطنية (القناة الاولى والثانية) "دون أية معايير حقيقة ولا كفاءة" بحسب بيانات نقابة الصحفيين التونسيين. كانت قرارات الحكومة في تلك الفترة مبررة في نظر أنصارها ومسانديها الذين اعتبروا أن الاعلام التونسي "غير محايد" ويبالغ في نقد حكومتهم بل انهم ذهبوا في التهجم عليه مطلقين عليه شتائم وشعارات من قبيل "اعلام العار"!. ارادة اخضاع وسائل الاعلام لرغبات الحكومة عبر عنها بشكل واضححمادي الجبالي، أول رئيس حكومة ينتمي الى حركة النهضة بعد الثورة، عندما ادعى أنوسائل الاعلام لا تعبر على الواقع السياسي الجديد حيث قال يوم 19 ديسمبر2011 في تصريح له على الاذاعة الوطنية "ان وسائل الاعلام الآن لا تعبر عن الارادة الشعبية المجسمة لنتائج الانتخابات"!. في فترة الصراع على الاستقلالية مع السلطة الجديدة بعد الثورة، تعرض العديد من الصحفيين الناقدين للحكومة الى عمليات تشهير وتشويه، وخاض أنصارالحكومة في شهر مارس 2012 اعتصاما عرف "باعتصام تطهير الاعلام" أمام مقر التلفزة الوطنية مطالبين بعزلمن اعتبروهم "اعداءا للثورة" من الناقدين للحكومة وسياساتها في التلفزة العمومية. مضى الضغط الذي مارسته الحكومة وانصارها من الاسلاميين في تلك الفترة الى اقصاه عبر الاعتداء بالعنف على العديد من الاعلاميين والمدوَنين. كل هذه الانتهاكات كشفها وعدَدها تقرير الحريات الذي أصدرته نقابة الصحفيين يوم 3 ماي 2012(13). ووجهت فيه الاتهامات للحكومة بمحاولة قمع حرية الصحافة وتدجين وسائل الاعلام. بعد اصدار هذا التقرير الذي أزعج الحكومة، لم تتوانى نقابة الصحفيين في اتخاذ مواقف حاسمة في الاعتداءات الواقعة ضد الصحفيين وعملية الاخضاع لوسائل الاعلام العمومية والخاصة عن طريق التعيينات. كانت قوة ردَة فعل نقابة الصحفيين بمقدار قوة الهجمة من الحكومة وأنصارها. تعدَدت الوقفات الاحتجاجية للصحفيين التونسيين بقيادة النقابة. ومضت حركة الصمود والتصدي للهجمة على استقلالية الاعلام الى اقصاها بالدخول في اضرابيين عاميين، هما الأولان في تاريخ البلاد.شلَا هذان الاضرابان كل وسائل الاعلام وأحرجا الحكومة ودفعاها الى التراجع عن العديد من الاجراءات التي اتخذتها(14). كان هذان الاضرابان دافعا للحكومة والبرلمان التونسي الى التفكير جديا في الاستجابة لمطلب انشاء الهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري،ووقف عمليات تسريح الصحفيين من بعض المؤسسات الاعلامية العمومية أو التي تملك فيها الدولة الجزء الأغلبي من رأس مالها. نجحت الحركات الاحتجاجية والاضرابات التي خاضتها نقابة الصحفيين في فرض واقع اعلامي جديد وأقنعت فيه الحكومة أنه لا بديل لها الا التحاور مع النقابة والقبول بدورها كضامن نقابي للإعلام حر ومستقل في البلاد. لم يكن لهذا الدور الجديد لنقابة الصحفيين أن ينجح لولا مساندة تنسيقية الجمعيات والنقابات داخل البلاد ولولا الحزام الذي وفره دعم المنظمات الدولية الداعمة لحرية الاعلام في العالم والتي كانت مساندا قويا لنقابة الصحفيين(15). مأسسة نقابة الصحفيين مع خروج نقابة الصحفيين من معركة الاستقلالية بشبه "نصرمؤقت" لأن معركة الاستقلالية وحرية الاعلام هي مجهود متواصل ولا يتوقف على حكومة بعينها. تفطنت النقابة أن هناك معركة أخرى مصيرية لا تقل أهمية عن معركة الاستقلالية والدفاع عن حرية الاعلام وهي معركة تحول النقابة الى مُؤسسة ذات ادارة قارة وهياكل منتخبة وحوكمة تمكنها من الادارة الداخلية الناجحة دونها لا يمكن أن تخوض بنجاح معاركها الخارجية. مهدي الجلاصي،عضو المكتب التنفيذي الحالي لنقابة الصحفيين والذي يمثل الجيل الجديد من الصحفيين الذين تابعوا التطور الهيكلي للنقابة خلال الخمسة السنوات الأخيرة يقول "أصبح عمل نقابة الصحفيين أكثر تنظيما وفاعلية منذ سنة 2014 أي منذ تأسيس الادارة التنفيذية وادارة الاتصال ومرصد الانتهاكات ضد الصحفيينومراصد انتهاكات أخلاقيات المهنة المتعاقبة". ويضيف الجلاصيهذا العمل المؤسساتي الذي تحولت فيه النقابة الى مؤسسة منظمة داخليا توازى مع تجديد هياكلها المركزية والجهوية وانتخاب أعضاء فروع نقابة الصحفيين في الجهات وتمكين الصحفيين العاملين في القطاع في الجهات لأول مرة من العضوية في الفروع الجهوية للنقابة التي كانت في السابق حكرا على الصحفيين المنتسبين للإذاعات العمومية الجهوية"(16). التركيز على العمل النقابي الجهوي وكثافة الانتشار لفت انتباه ممثلي منظمات المجتمع المدني الأخرى العاملة في تونس حيث تقول يسرى فراوس، الناشطة النسوية وممثلة الكنفدرالية الدولية لحقوق الانسان "أن التمثيلية الواسعة للنقابة خاصة بتنشيط دورالفروعالجهوية دعّم مهمتها في رصد الانتهاكات المختلفة المسلّطة على الصحفيين كما ان اصدار تقارير دورية في الغرض جعل عمل النقابة يسير نحو الحرفية التي تفتقدها عديد المؤسسات المدنية الوطنية الأخرى(17). مكن التنظيم الاداري الجديد لنقابة الصحفيين أعضاء مكتبها من التفرغ أكثر لمهامهم النقابية واتاح لهم أكثر وقت للاهتمام بالملفات النقابية متخليين عن الجانب الاداري والتنفيذي والاتصالي لمختصين في الميدانتنتدبهم النقابة وفق مقاييس علمية. كان الأمر يهدف الى خلق إدارة قادرة على العمل بمعزل عن طبيعة التداول والأشخاص الذين ينتخبون دوريَا في مؤتمرات النقابة. الفاهم بوكدوس، المدير التنفيذي الحالي للنقابة، يقول ان هذا الأمر ما كان لينجح لولا حزام المنظمات المحلية والدولية المهتمة بالتجربة النقابية الصحفية التونسية. ويضيف بوكدوس "كان لا بد من عقد شراكات دولية مع منظمات مختصة من أجل انجاح هذا المسار الجديد". ويضيف بوكدوس "عقدنا شراكات استراتيجية طويلة الأمد من أجل مراقبة تطور تجربة حوكمة النقابة وديمومة عملها". غير أن المدير التنفيذي للنقابة يشير الى أمر مُهم وهو ان هذه الشراكات مبنية على مبدأمحوري وهو العمل على أساس الحاجيات الحقيقية للشريك التونسي مما يُخرج الشراكة من احتمالات الوصاية والتوظيف"(18). في الحقيقة فان الارهاصات الأولية لمأسسة النقابة وتنظيمها اداريا بدأت فعليا منذ بدايات الثورة غير أن الصراع حول الاستقلالية وحرية الاعلام وقتها حال دون الاهتمام بهذا الجانب بالشكل الكافي. مع تركيز الادارة التنفيذية بشكل كامل في الفترة النيابية للنقيبناجي البغوري ومع قرار رئيس الحكومة حق ملكية مقرها الحالي وسط العاصمة أصبح هذا الهيكل في وضعية أفضل للقيام بدوره بأكثر أريحية واستقلالية. الصحفية ريم سوودي، والتي شغلت رئيس فرع نقابة الصحفيين بدار "الصباح"في الفترة النيابية السابقة تقول"أن مأسسة النقابة كان لها الأثر الواضح على الاداء العام سواء تعلق الأمر بمعالجة الأوضاع المهنيةالهشةللصحفيين ومجابهة عملياتطرد الصحفيينأوغلق المؤسسات الاعلامية". غير ان ريم سوودي تستدرك لتقول "إن الحوكمة وحسن الادارة تتطلب ايضا التجرد من النزعات والمصالح والعلاقات الذاتية عند أخذ القرارات سواء بالنسبة لأعضاء المكتب المنتخبين أو من أعضاء الادارة التنفيذية". تشير سووديالى "ضبابية المقاييس التي زكَتها النقابة مؤخرا عند ضبط قائمة صحفيين وقع تسوية وضعيتهم في المدة الاخيرة وادمجوا رسميا في الاذاعة الوطنية"(19)، وهي من جملة حزمة القرارات التي أعلنها رئيس الحكومة أثناء زيارته الأخيرة لمقر النقابة. بين الدورين.. النقابي والسياسي الأكيد أن العوامل الذاتية والعلاقات الشخصية لا يمكن التخلص منها بسهولة في قضايا الشأن العام بشكل كامل ونهائي، غير انه لا أحد ينكر اليوم أن المأسسة الجديدة لنقابة الصحفيين التونسيين مكنت هذا الهيكل منانخراط أكثر في الملفات المهنية للصحفيين وتنظيم أكثر لعملها تحت عنوان "تقسيم العمل في هياكلها من أجل أكثر نجاعة". فضلا عن حوكمة العلاقات واتخاذ القرارات داخل هياكل النقابة، يشير بعض الصحفيين الى انتقادات أخرى محورها في نظرهم"خفوت دورها السياسي" الذي بلغ أوجه في السنوات الأولى للثورة. حنان زبيس، التي كانت عضوة لجنة الحريات في مكتب نجيبة الحمروني تقوم بمقارنة وتقولفترة النقيب ناجي البغوري(أُنتخب نقيبا للصحفيين سنة 2014 اعيد انتخابه في مايو 2017) شهدتتهدئة أكثر مع السلطة وتراوحت علاقة النقابة معها بين فترات مواجهة وفترات مهادنة". وتضيف زبيس: "إن المكتب الجديد للنقابة اختار التحالف مع جمعية مديري الصحف وراهن أكثر على الحصول على مكاسب مادية ومهنية للصحفيين أكثر منه على لعب دور سياسي في البلاد وشن حرب مفتوحة مع الحكومة"(20). ولكن هل يمثل هذا النقد الأخير نقطة ضعف أم قوة لمكتب االنقابة الجديد؟! هل يتعلق الأمر بتغليب الدور المؤسساتي والاداري والنقابي على الدور السياسي الذي انخرطت فيه النقابة بشكل واضح بعد الثورة؟ هل أن قضية المأسسة والحوكمة الداخلية تتعارض مع الفاعلية والدور السياسي؟ أم هل أن الأمر يتعلق بالأساسبتقلص نسبة التهديدات على الحريات وحرية الاعلام بشكل عام بعد انتخابات أكتوبر 2014 والتي أوصلت حزب نداء تونس الى السلطة خلفا لتحالف الترويكا الذي قاده الاسلاميين؟ كانت كل هذه الاسئلة مثار جدل بين المنخرطينفي نقابة الصحفيين. كان الأمر يشير الى الحركية التي يعيشها القطاع الاعلامي والذي تحولت فيه نقابة الصحفيين الى قطب جامع لكل الجسد الاعلامي بجميع تلويناته. طبعا أعضاء المكتب التنفيذي الجديد يقولون أن الدور السياسي والنقابي المهم الذي قامت به النقابة منذ الثورة لم تغيره التوازنات السياسية الجديدة في البلاد وخاصة بعد هزيمة الاسلاميين بشكل نسبي في آخر انتخابات تشريعية. يستدل الكثير من الصحفيين "بيوم الغضب" الذي نظمته نقابة الصحفيين يوم 2 فيفري 2018، احتجاجا على تكرر المضايقاتوالاعتداءات الأمنية على الصحفيين،كدليل قوي على عدم مداهنة مكتب نقابة الصحفيين الحالي للحكومات التي جاءت بها انتخابات أكتوبر2014. يقول اعضاء المكتب التنفيذي الحالي ان عملية مأسسة النقابة وعلاقاتها مع المنظمات الاعلامية والنقابية الأخرى تحكمها المصالح والمبادئ المشتركة في الدفاع عن الحريات الاعلامية والسياسية في البلاد. من خارج القطاع الاعلامي توجه الناشطة النسوية يسرى فراوسبعض اللوم على عدم انخراط نقابة الصحفيين بالشكل الكافي في معارك الحريات العامة والفردية وتقول بأن مواقف نقابة الصحفيين من بعض ملفات انتهاك الحريات الفردية والعامة هي "مواقف شحيحة" لان حزمة حرية التعبير هي حزمة واحدةوترجع فراوس ذلك ربما بالنسبة اليها الى "الانتماءات السياسية والشخصية لبعض قياداتها النقابية". نقد فيه الكثير من الجدل لأن مسألة الاختصاص في العمل الجمعياتي واهتمام كل منظمة بقطاع معين هو من جوهر دور كل منها دون أن ينفي امكانية تناسقها وتكاملها في الدفاع عن الحريات العامة والخاصة. رغم هذه الانتقادات، فان الجميع بات يعتقد تقريبا في تونس، أن نقابة الصحفيين تعيش مرحلة تحول مهمة ومتعددة الأبعاد في اتجاه استقرارها كمنظمة محترفة قوية ومستقلة مدافعة عن حرية الاعلام وعلى الحقوق الاجتماعية والمهنية للصحفيين. من الواضح ختاما، أن دور نقابة الصحفيين في تونس تجاوز مجرد التأثير في القطاع الاعلامي الى المساهمة بشكل مباشر في انجاح التحول الديمقراطي في البلاد.نحو أمام تجربة استثنائية يُنظراليها، كمثال يمكن الاحتذاء به ونموذجا "للتصدير" في المنطقة العربية. * إعلامي وكاتب تونسي هوامش واحالات: (1) انعقد المؤتمر بتونس العاصمة بتاريخ 21 و22 ماي 2016 (2) بحسب منظمة مراسلون بلا حدود الفرنسية قتل خلال سنة 2016، 19 صحفيا في المنطقة العربية من جملة 51 صحفيا قتلوا في العالم، فيما تعجُ سجون المنطقة العربيةبالصحفيين والمدنونين. (3) تصرحات خاصة لصاحب المقال. (4) بيان الاتحاد العام للصحفيين العرب بتاريخ 2 ماي 2017. (5) تصريحات نجيبة الحمروني بعد تقديم ملفها لهيئة الحقيقة والكرامة يوم 28 جانفي 2016. (6) توفيت الصحفية نورة البورصالي يوم 13 نوفمبر 2017. (7) كتاب جماعي تحت عنوان "صحفيون تونسيون في مواجهة الديكتاتورية" من اصدار مركز تونس لحرية الصحافة جويلية2013. (8) المنشورين 115 و 216 المؤرخان يوم 2 نوفمبر 2011. مكن هذان المنشوران من حماية أكثر للصحفيين وتمنعُ سجنهم في قضايا النشر وتمنحُ حرية اصدار الدوريات والصحف وتلغي شرط انتظار الترخيص القانوني المسبق الذي كان معمولا به قبل الثورة. كان يُراد من نظام التراخيص المسبق في عهد بن علي مراقبة الدوريات والحدَ من حرية اصدارها بحسب الولاء للنظام. كما وقع في الاشهر الاولى من الثورة حلٌ "وكالة الاتصال الخارجي"، وهي ادارة أحدثتها سلطات الرئيس المخلوع "بن علي"لعبت دور المراقب على وسائل الاعلام وطريقة لتوزيع الاعلانات بحسب الولاء للسلطة والخضوع لها. (9) حكومة الترويكا أو حكومة الثلاثي الحاكم تشكلت من حركة النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل من أجل العمل والحريات. (10) تصريحات خاصة لصاحب المقال (11) منحت جائزة نوبل للسلام الى ثلاثة شخصيات عربية وهم على التوالي محمد أنور السادات وياسر عرفات وتوكل كرمان (12) الرباعي الراعي للحوار الوطني في تونس هم الاتحاد العام التونسي للشغل والعمادة الوطنية للمحامين ورابطة حقوق الانسان والاتحاد العام التونسي للصناعة والتجارة (اتحاد الاعراف). (13) التقرير السنوي 3 ماي 2012، ليوم 3 ماي من كل سنة، رمزية خاصة بالنسبة للصحفيين التونسيين. ففي ذكرى اعلان "ويندهوك" الذي صدر في ناميبيا يوم 3 ماي 1991 والذي أقر وثيقة "استقلالية وحرية الصحافة الافريقية"، درج الصحفيون التونسيون على اصدار تقريرهم السنوي حول "واقع الحريات الصحفية"، وهو التقليد التي توارثته المكاتب المختلفة لنقابة الصحفيين الى اليوم. (14) كان اضراب 17 أكتوبر 2012 والذي أعقبه بعده بسنة اضراب 17 سبتمبر 2013 أحد الاشكال النضالية التي خاضتها النقابة من أجل اجبار الحكومة على احترام حرية واستقلالية الاعلام. كما دفع هذان الاضرابان الحكومة الى مراجعة علاقتها بلجان حماية الثورة وهي مليشيات شعبية من الاسلاميين المتطرفين الذين عُرفوا باعتداءاتهم المتكررة على الصحفيين. (15) لعبت الكنفردالية الدولية للصحفيين ومنظمة "مراسلون بلا حدود" و"المنظمة الدولية لدعم الاعلام" و"منظمة البند 19″ وغيرها من المنظمات الدولية دورا مهما في التحول والدور الجديد الذي أصبحت تقوم به النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين وفي توفير حزام من التضامن النقابي الدولي للعمل الذي يقوم به الصحفيون التونسيون في الداخل. (16) تصريحات خاصة لصاحب المقال. (17) تصريحات خاصة لصاحب المقال. (18) تصريحات خاصة لصاحب المقال. (19) تصريحات خاصة لصحاب المقال. (20) تصريحات خاصة لصحاب المقال.