باختصار شديد، تجاوز التناقض بين الخارج الدولي والنظام السوري نقطة اللاعودة، ولم يعد هناك من غطاء عربي أو إقليمي أو دولي لسياسات النظام الراهنة، بعد قرار الجامعة العربية حول الوضع السوري، ومطالبات إيران وحزب الله بإصلاحات جدية وعميقة في سوريا تتجاوز ما أعلنه النظام من إصلاحات، أملاها موقف يرى البلاد بدلالة السلطة بدلا من أن يرى السلطة بدلالة المجتمع والدولة، وإلا فإنه لن يخرج من الأزمة اليومية التي تعصف بنا منذ قرابة ستة أشهر، دون أن تبدو لها نهاية، بل تزداد تعقيدا وتفجرا بعد كل تدبير «إصلاحي» سلطوي. لم يعد هناك دولة غير روسيا والصين لم تغلق أبوابها الخلفية، التي قد تعيد ذات يوم علاقاتها إلى ما كانت عليه قبل شهر آذار من العام الحالي مع النظام في دمشق. وليس هناك حتى داخل روسيا والصين تأييد جدي لسياسات النظام الراهنة، التي ترى في الحدث السوري مؤامرة يجب مواجهتها بالقوة من أجل الحفاظ على النظام الذي تستهدفه وليس من أجل تغييره، وإلا تحققت أهداف المؤامرة بيد أهل السلطة، إن هم أجروا تغييرا جديا وعميقا كالذي طالبهم بإنجازه وزير الخارجية الإيراني السيد علي صالحي والسيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله. في أجواء كهذه، لا سؤال للسوريين غير التالي: كيف يفكر أهل النظام، وهل يعون حقيقة ما يجري؟ ألا يرون أن سياساتهم لا يجوز أن تقتصر على الحل الأمني، أو على استعادة الأمن أو فرضه سمها ما شئت وأن هذا الحل فشل، بدلالة المرات الكثيرة التي تم فيها اقتحام درعا على سبيل المثال لا الحصر، دون إخماد حراكها الشعبي فيها، وتكرار اقتحام منطقة بعيدة نسبيا كالرستن بالدبابات خلال عشرين يوما لم يتحقق خلاله أمن، ربما يكون أثار قدرا هائلا من الفوضى في حياة السكان هناك، وتسبب بقدر كبير من الغضب والرغبة في الثأر لديهم، وأدى في كل مكان تقريبا إلى عكس ما أريد به، والدليل: تلك المظاهرات التي لا تلبث أن تتجدد وتتسع في كل مكان يتراجع فيه الحضور الأمني الكثيف أو يمر وقت طويل على وجود الجيش فيه. بإغلاق معظم دول العالم أبوابها الخلفية التي كانت تصلها بالنظام وراءها، وبالإجماع العربي والإقليمي والدولي الشامل على رفض الحل الأمني كخيار بوسعه حل الأزمة الداخلية، وبتصاعد الصراع الداخلي، بلغنا نقطة جعلت التناقض الخارجي مع النظام يبلغ حدا من الضخامة يحتم حدوث أي حل داخلي في إطاره، ويجعل من المحال بلوغ أي حل داخلي خارج أو ضد إرادات وسياسات ومصالح خارجية: أميركية / أوروبية. وضع الحل الأمني أقدار سوريا بين يديها، الأمر الذي حذرنا منه مرارا وتكرارا خلال الأشهر الستة الماضية، وقلنا إن حدوثه سيكون حتميا، ليس فقط لأن المنطقة بأسرها تمر في لحظة تحول تاريخية استثنائية المقومات والهوية والنتائج، بل كذلك لأن سوريا ليست خارج العالم، ولأن نظامها ليس فوق التاريخ أو قادرا على فرض إرادته عليه، كما توهم كثيرون من أهله وما زالوا يتوهمون، مع أنه كان قد دخل في تحالفات إقليمية تتجاوز قدراته، سيجد صعوبة كبيرة في السيطرة عليها خلال الشدائد والأزمات، بإمكاناته الذاتية، علما بأن الحليف الإيراني يفتقر بدوره إلى القوة التي تمكنه من حمايته، وسياسة التحالف مع المتشددين في طهران والمعتدلين في اسطنبول تتطلب طاقات يفتقر إليها تمكنه من احتواء هؤلاء وأولئك، وإقامة توازن دائم بينهم يكون هو مركزه، وأن قيام فرنسا بفك طوق العزلة الدولية عنه عام 2008 لم يكن يعني أنه صار قادرا على منع تجديدها في أي وقت، لأن وضعه الذاتي لم يكن هو الذي أجبر باريس على القيام بخطوتها، بل سعيها المعلن إلى فك روابطه مع إيران وحزب الله وحماس، ولإجباره على التخلي عن مواقفه بقوة الضغوط والسياسات الخارجية والدولية... الخ. إذا كان حل الأزمة السورية سيكون محكوما أكثر فأكثر من الآن فصاعدا بالخارج، فمن الواضح أن هذه الواقعة تطرح سؤالين: هل يستهدف الخارج أهل النظام جميعهم أم أن هدفه يقتصر على رئيس الجمهورية الدكتور بشار الأسد، الذي يطالبه الأميركيون والأوروبيون بالتنحي. ويبدو من سير الأحداث أنهم يعدون تدريجا ما يلزم لتحقيق مطلبهم هذا، وأنهم يتقدمون بخطى ثابتة نحو خلق غطاء شرعي عربي ودولي يبرر خطواتهم اللاحقة، بما في ذلك ما قد يكون غير سلمي ودبلوماسي منها، علما بان تدخلهم في الشأن السوري بات شاملا وفاضحا، وإلا فما معنى قيام سفراء أجانب بزيارة مدن وقرى سورية دون إذن من وزارة الخارجية، وإبلاغ الوزارة بالزيارات بعد وقوعها، على ما في ذلك من استهتار بالسلطة وتحد لقراراتها؟ عربيا: جمدت معظم دول الخليج علاقاتها مع دمشق. ثم حددت معظم الدول العربية من خلال قرار اتخذته جامعة الدول العربية سبل إصلاح الوضع السوري الداخلي، إن قبلها النظام كانت نهايته أكيدة، وإن لم يقبلها قد يفتح الباب أمام قرار عربي بالتدخل الإنساني الدولي، كما حدث في ليبيا. بينما أعلنت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أن المدنيين السوريين بحاجة إلى حماية دولية، وبدأ الحديث حول العمل على استصدار قرار بذلك من مجلس الأمن الدولي، ويقال إن روسيا بعثت برسالة إلى النظام تطالبه فيها بوقف سياساته الراهنة، مع أنه يكاد يكون من المؤكد أن وقفها يعني اتساع حجم ونطاق التظاهرات إلى درجة غير مسبوقة، ووضع النظام في موقف لا يحسد عليه، يعني قيامه إقرارا صريحا بفشله، مع ما سيترتب على ذلك من فتح الأبواب أمام احتمالات داخلية لا تحمد عقباها بالنسبة إليه. يقال إن موسكو نبهت إلى أن عدم قبول طلبها سيجبرها على المشاركة في القرار المطلوب حول حماية المدنيين والتدخل الإنساني، وليقلع النظام عندئذ شوكه بيديه. دوليا: تصاعدت العقوبات وصار كل يوم يشهد المزيد منها، وتزايدت إدانات الدول والمنظمات الدولية لسياسات النظام الأمنية، بينما بدأت تتصاعد لهجة تهديد ووعيد عسكرية المضامين، كقول ساركوزي: إن وقت التدخل العسكري في سورية لم يحن بعد، وقول كاميرون: إن إنكلترا لن تتدخل إلا بقرار دولي: تصريحات تذكر بدورها بما سبق التدخل العسكري في ليبيا. ما هي انعكاسات هذا الوضع على المعارضة السورية في الداخل والخارج؟. وما هي نقاط التقاطع والتعارض بينها وبين الجهات التي تمسك الآن بالقسم الأكبر من ورقة سوريا، والتي يبدو أن لديها أجندة خاصة تجاه المعارضة، تقوم على عزلها عن الحدث وتهميشها لصالح تيار معارض يتخلق اليوم عبر مؤتمرات خارجية تبدو عبثية، لكنها تفضي إلى مزيد من إزاحة المعارضة الداخلية جانبا، بينما تتصرف هذه كأنها لا تفهم ما يجري، ولا تفعل شيئا ضده، في حين يدور حديث متزايد حول ضرورة السلاح في الصراع الداخلي، مع ما يعنيه هذا من تهميش للحراك السلمي، المدني والأهلي، وللقائمين فيه، ومن شد للمجتمع الأهلي، حامل الحراك الشعبي الرئيس، إلى العنف والتطرف السياسي والاقتتال الانتحاري؟ هل يعني بروز دور الخارج وبناء معارضة خارجية واللجوء إلى السلاح تبلور وضع يسد الطرق أمام فرص أية حلول داخلية وطنية، وهي تكاد تكون معدومة الآن، وإقصاء المعارضة عن مستقبل سوريا وتصغير دورها إلى أدنى حد ممكن، وإخراج الحراك عن سياقه الحالي، وبالتالي وضع اليد على سوريا مختلفة عن تلك التي يريدها قطاع هائل من الشعب: سوريا بعيدة عن فلسطين والجولان، بعيدة عن الديموقراطية وإن نال شعبها بعض الحرية، ليس حكمها بيد مجتمعها المدني المتحد مع مجتمعها الأهلي، وليست بالتالي سوريا العدالة والديموقراطية والمساواة. ماذا ستفعل المعارضة؟ وماذا سيفعل الشباب الثائر والمجتمع الأهلي؟ وماذا سيفعل النظام؟ وهل سيواصل سياساته الحالية التي تخدم هذا الخطر وتقويه، عوضا عن أن تقوم بخطوة إنقاذية تضع مصالح البلاد فوق مصالح أشخاصه، وتخرجها من الكارثتين: الراهنة والآتية، الكارثة التي يديرها هو بأكثر الطرق والأساليب فشلا وخدمة لأعداء سوريا، والكارثة التي تحاك خيوطها بدهاء شديد في الخارج، وتشبه شبكة تحاك حول بلادنا ستلقى عليها في وقت غير بعيد، كي لا تبلغ الحرية وتبني الدولة الديموقراطية / المدنية، وتحرر الجولان وتعود إلى فلسطين والوحدة العربية والنفط وثروات العرب، بل تذهب إلى مكان غير الذي تموت من أجل أن تبلغه؟ نحن في فترة انعطافية ومفصلية: بعد أن انهار الحل الأمني وتحول إلى نفق لا مخرج منه، تنتظر سوريا في نهايته كارثة قاتلة بكل الأبعاد والمعاني. وبانت الحقيقة ساطعة، وهي أن هذا الحل انتحاري بالنسبة إلى النظام أيضا، وأنه يقتل الشعب: الجهة الوحيدة القادرة على حماية البلاد مما يدبر لها. بينما تتراكم إشارات الاستعداد لهجوم الخارج العام، وعلامات حيرة المعارضة وضياع النظام، وانكشاف المجتمع والدولة. سادتي في كل مكان وموقع: هذا هو واقع الحال، فماذا أنتم فاعلون كي تنقذوا وطنكم؟.