05 مارس, 2018 - 09:36:00 عقارب الساعة تشير إلى الثانية بعد الظهر. صخب لعب الأطفال يهيمن على المكان. في حي السلام، أحد الأحياء الشعبية المهمشة بمدينة القنيطرة. يقف شكري عبد السلام أمام باب بيته. وهو يتأمل في سكون تام، رافعا عينه إلى السماء التي أصبحت تمطر رماداً. أربع سنوات وهو يعاني من الكحة الدائمة. وفي كل صباح يتقيأ قطرات من الدم إن لم يتناول دواءه بشكل مستمر، الشيء الذي أرجعه طبيبه إلى التلوث الذي يعاني منه المكان الذي يقطن به. فشكري لا يدخن ولا يشرب الكحول حتى يعاني من أمر كهذا. عند الصعود إلى الطابق الثالث من المنزل، حيث يقطن شكري. تجد في جنبات السلم كمية صغيرة من حبيبات سوداء، شبيهة بمادة "البارود"، هذه الحبيبات تتسرب عبر بوابة السطح، والنوافذ، وبذلك تنتشر في البيت بأكمله. في غرفة النوم، كما في الصالون، معظم الأغطية والأفرشة يلاحظ عليها آثارالغبار الأسود، كأن الأخير مرشوش بطريقة متعمدة، يقول شكري بخصوص هذا الأمر"يتم تنظيف كل الأقمشة الملطخة بالغبار، إلا أنه بعد مدة قصيرة تعود نفس بقايا الغبار"، ويضيف "حتى أن الغسيل الأبيض المنشور على السطح، إذا استقر في حبل الغسيل لمدة ثلاث أو أربع أيام يتحول إلى اللون الأسود بفعل الغبار". الآثار الصحية في استبيان قمنا به على 50 عينة عشوائية من مختلف الأعمار، من سكان أحياء الساكنة، باب فاس، الفوارات، القريبة من الحي الصناعي مصدر انبعاث الغبار، تبين أن حوالي 16 شخص (32 في المئة)، يعانون منمشاكل تنفسية (الربو، كحة دائمة، صعوبة في التنفس). وفي اتصال مع أحمد العراقي، وزير البيئة السابق والخبير البيئي حول الموضوع. فإن الغبار الأسود بحسب الخبير "يتكون من جسيمات معلقة تؤثر بشكل مباشر على الرئة، وتسبب مختلف الأمراض التنفسية كالربو والحساسية، كما أنه يسبب أمراض القلب والشرايين، وأمراض السرطان" حسب الدراسات العلمية في الموضوع. ذلك ما تؤكده منظمة المجتمع العلمي العربي ARSCO ، فبحسب المنظمة فإن المواد العالقة ينجم عنها تأثيرات صحية متعددة، كتهيج الجهاز التنفسي كما هو الحال في مرض الربو. إضافة إلى أمراض القلب و الرئتين( تدني في كفاءة عمل الرئتين) وأحياناً تؤدي إلى الموت المبكر. وتفيد طبيبة بالمستشفى الإقليمي بمدينة القنيطرة رفضت ذكر اسمها، "علميا فإن الحبيبات الدقيقة المنتشرة في سماء مدينة القنيطرة، عند استنشاقها من طرف الإنسان بشكل متكرر، فإنه غالبا ما يصاب بالكحة الدائمة وصعوبة في التنفس، ومن الممكن أن تتطور إلى الاختناق، الشيء الذي قد يسبب ضيق في الشعب الهوائية"، وتضيف " منذ أن ظهر الغبار الأسود في سماء مدينة القنيطرة، ازدادت الحالات التي تعاني من مشاكل تنفسية هنا بالمستشفى، خصوصا من مرض الربو". وبحسب دراسة نشرت في مجلة EuropeanRespiratory Journal سنة 2003، فإن من المرجح أن الجسيمات المنتشرة بالهواء تقتل أكثر من 500 ألف شخص في كل عام في العالم. وحسب المجلة فإن السكان الأكثر عرضة للخطر هم من كبار السن الذين يعانون من أمراض الجهاز التنفسي والقلب والأوعية الدموية. وتؤكد منظمة الصحية العالميةWHO، أن التعرض المزمن للجسيمات يزيد من مخاطر الإصابة بالأمراض القلبية الوعائية والأمراض التنفسية، فضلاً عن سرطان الرئة. مصدر انبعاث الغبار منذ سنة 2011 (سنة ظهور الغبار)، وساكنة مدينة القنيطرة تعاني من الغبار الأسود. هذا الأخير عبارة عن سحابة سوداء تحمل معها أجساما دقيقة متطايرة في السماء، تسقط على أسطح ونوافذ المنازل، خصوصا القريبة من المنطقة الصناعية. تتواجد بالمنطقة الصناعية عدد من المصانع والوحدات الصناعية، أبرزها المحطة الحرارية لتوليد الكهرباء التي تأسست سنة 1978، والتي مازالت تعمل إلى حدود الساعة بمادة الفيول الثقيل التي استغنت عنه الكثير من المحطات الحرارية في العالم، نظرا للأضرار التي يلحقها بالبيئة، واستبدلته بمصادر الطاقة المتجددة الصديقة للبيئة. ولعل كل الاحتجاجات التي شهدتها المدينة عقب تفشي الغبار الأسواد، كانت تضع المحطة الحرارية التابعة للمكتب الوطني للكهرباء في خانة "المسؤول الأول" عن الغبار، من دون تأكيد السلطات المعنية ذلك أو نفيه. رائحة كريهة تجتاح المكان، على بعد أمتار قليلة من المحطة الحرارية، يجلس أحمد (اسم مستعار) على كرسي بلاستيكي وهو يدخن سيجارته. حول المحطة الحرارية التي يعمل فيها، يقول أحمد "إن المحطة مقسمة إلى قسمين، القسم الأول هو الجزء القديم الذي تم تشييده منذ ثلاثين سنة، والذي يشتغل بالفيول الثقيل"، ويضيف "يصدر هذا الجزء من المحطة دخان أسود كثيف بين الفينة و الأخرى، خصوصا في الليل وبداية طلوع الشمس". ويصف أحمد شكل الانبعاث الذي يصدر من المحطة بقوله: "عند صدور الدخان من الفوهتين تشعر كأنك تشاهد نار جهنم بعينيك"، ويرجع أحمد ذلك "إلى أن الجزء القديم من المحطة طال عمره وأصبح متهالك، بالرغم من الإصلاحات التي تقوم بها إدارة المحطة لتحسين عمله، إلا أن ذلك لم ينفع". أما القسم الثاني من المحطة كما يتابع أحمد "هو الذي تم تشييده في يونيو 2012 من طرف شركة "كاجيليكإنرجي" المنضوية تحت مجموعة فينتشي الفرنسية بقوة 315 ميغاوات".أأت بالنسبة لأحد العمال بمصنع مجاور للمحطة الحرارية، فإن" الكثير من العمال يعانون من الكحة الدائمة، وضيق في التنفس"، لكن في نظر العامل هذا هو القدر، و"طرف الخبز صعيب"، وليس هناك بديل. يقول مصدر رسمي من داخل المرصد الجهوي للبيئة والتنمية المستدامة لجهة الغرب- ا لشراردة- بني حسن، رفض ذكر اسمه، "إنه بات من المؤكد أن مصدر الغبار الأسود هو المحطة الحرارية بالمدينة"، ويضيف المصدر"كان الشك أولا في بعض المصانع، وفي الحرق العشوائي (حرق إطارات العجلات، الخشب...) الذي كان منتشراً بقوة في المدينة، إلا أنه بعد توقيف الجهات المعنية لجل أنشطة الحرق العشوائي، ومراقبة العديد من الوحدات الصناعية، تظل المحطة الحرارية المسؤول الأول المحتمل عن صدور الغيار الأسود". هذه المسؤولية تمت الإشارة إليها لكن ليس بشكل مباشر في البلاغ الصادر في شهر أكتوبر2017 عن المرصد نفسه، بحيث تضمن البلاغ أنه ومنذ شتنبر 2017، تقوم الوحدة المتنقلة للمختبر العمومي للدراسات والأبحاث بإجراء قياسات للانبعاثات الغازية على مستوى المحطة الحرارية، كما أنه تم من خلال ذلك تحسين عملية الاحتراق وتقليل ساعات تشغيل المحطة ب 50 بالمائة، وذلك عبر خفض كمية الفيول المستهلكة. وقد تبين أن البيان أعطى حيزا كبيرا للمحطة الحرارية أكثر من المصانع المجاورة. و بالنسبة للدكتور محمد بن يخلف المتخصص في المجال البيئي، وعضو المكتب الوطني للإتلاف المغربي من أجل المناخ والتنمية المستدامة، فإن المسبب الأول للغبار الأسود هو المحطة الحرارية. ويفسر بن يخلف بأن الغبار ينتج عن احتراق غير كامل للفيول الثقيل التي تستعمله المحطة. وبحسب موقع "كهرباء العرب" المتخصص، فإن الكبريت الموجود في الفيول الثقيل عندما يحترق، يتحد مع الأوكسيجين ليكون ثاني أوكسيد الكبريت، والذي بدوره يسبب تآكل المنشآت، فيتفاعل مع المعادن الموجودة مع أنواع مختلفة من الكبريت، ويكون أنواعا مختلفة من مركبات الكبريت، أسوأها كبريتيد النيكل، المرتبط بمرض السرطان (الجدول أسفله يوضح آثار المواد الناتجة عن احتراق الفيول على صحة الإنسان والبيئة). وينتج عن هذا الاحتراق غبار أسود هو عبارة عن حبات دقيقة عالقة وصغيرة، الشيء الذي يعطي القدرة للغبار أن يخترق الجهاز التنفسي، مع احتمال استقراره في أنسجة الرئة. تحقيق بعد تحقيق دون الحد من الغبار بعد الاحتجاجات التي عادت إلى المدينة مؤخرا، قامت السلطات من جديد بفتح تحقيق في أسباب الغبار الأسود، بعدما كانت قد أجرت تحقيقا في الموضوع سنة 2014. ضمت نتائج التحليل مؤشرات مقلقة، مثلا فإن نسبة الجسيمات العالقة (PM10) بمنطقة بير الرامي مرتفعة إلى 126 ميكروغرام، في حين أن متوسط القيمة المسموح بها بالنسبة لمنظمة الصحة العالمية هي 50 ميكروغرام. وفي بيان لكتابة الدولة لدى وزير الطاقة والمعادن والتنمية المستدامة، والمديرية الجهوية للبيئة لجهة الرباط – سلا – القنيطرة، صادر في شهر أكتوبر2017، أوضح أنه بعد الزيارات التي قامت بها الوحدة المتنقلة للمختبر العمومي للدراسات والأبحاث، سيتم إعداد تقرير حول نتائج التحليلات في نهاية نونبر2017 وتقديمها إلى اللجنة الإقليمية لتمكينها من إقرار التدابير والإجراءات التي ينبغي اتخاذها وفقا للقوانين الجاري بها العمل، إلا أن النتائج لم تظهر بعد. وعن أسباب عدم قياس جودة هواء المدينة بشكل دوري ومستمر، كما في المدن الصناعية كمدينة الدارالبيضاء، أكد لنا مصدر رفض ذكر اسمه - من المرصد الجهوي للبيئة والتنمية المستدامة لجهة الغرب - الشراردة - بني حسن، بأن "المحطة الدائمة لمراقبة جودة الهواء في المدينة، التابعة لمديرية الأرصاد الجوية غير مشغلة منذ إنشائها، أي منذ سنة 2007، والتي من المفترض أن تكون مجهزة بمحاليل وأدوات لقياس جودة الهواء بشكل مستمر، و 24/24 ساعة بدون توقف، مع تقديم تقرير كل أسبوع"، يقول لنا المصدر. يأتي كل ذلك في ظل توقيع المغرب على أكثر من 60 اتفاقية دولية تخص احترام البيئة والحد من التلوث، كما أنه استضاف في ما بين 7 و 18 نونبر 2016، مؤتمر الأممالمتحدة للتغير المناخي في دورته الثانية والعشرين، والذي نصت توصياته على التزام كل الدول الأطراف باحترام البيئة ومحاربة التلوث. كما ينص الدستور المغربي، والقانون- الإطار رقم 99.12 الصادر سنة 2014، الذي يعتبر بمثابة ميثاق وطني للبيئة والتنمية المستدامة على مبدأ الاحتراز الذي يتمثل في اتخاذ تدابير ملائمة وفعالة ومقبولة اقتصاديا واجتماعيا، لمواجهة الأضرار البيئية المفترضة الخطيرة، ما لم يتم في قضية الغبار الأسود. * تم إنجاز هذا التحقيق بدعم من المنظمة الدولية لدعم الإعلام "أيمس" بشراكة مع الجمعية المغربية لصحافة التحقيق "أمجي".