كان نصف يوم وليلة عصيبة تلك التي قضيناها بالمحكمة الابتدائية ببوعرفة 16 و17 يونيو 2011، ونحن نتابع أطوار محاكمة ساكنة بوعرفة في شخص المناضلين الصديق كبوري والمحجوب شنو وثماني شبان آخرين ،لم يرتكبوا جرما إلا حبهم لهذا الوطن، وحلمهم بغذ أفضل ،وتألمنا ونحن نشاهد مناضلين شرفاء منهكين واقفين في قفص الاتهام يعاملون كالمجرمين. وقد جاءت المحاكمة ساعات قبل الإعلان عن الدستور الجديد المفعم بصبغة حقوقية وجاءت في سياق الحراك الاجتماعي الذي يعرفه المغرب عامة ومدينة بوعرفة خاصة ،والتي كانت دائما قلعة للنضال سواء في إطار تنسيقيات مناهضة الغلاء أو حركة 20 فبراير أو الإطارات الديمقراطية الحقوقية أو النقابية التي يريد المخزن إخراسها، ليتسنى له تمرير دستوره الممنوح بسلاسة . كان واضحا جدا أن المحاكمة محاكمة سياسية بامتياز وليست جنحية ،فقد تم حشو محاضر الشبان الثمانية بكل ما من شأنه توريط المناضل الصديق كبوري ،والدفع في اتجاه اتهامه بالتحريض هاته الكلمة التي اعترض عليها بعد قراءة المحضر واعتبر أن كلمة "تأطير"هي الكلمة المفروض كتابتها . من خلال ما عايشته في قاعة المحكمة لما يناهز 16 ساعة ،بدا لي جليا البعد السياسي للمحاكمة وسأحاول توضيح ذلك على ضوء ما رصده المحامون من خروقات قانونية وثغرات وكذا ما لمسته من خروقات كحقوقية. كانت عسكرة المحكمة وأبوابها أول ما يثير الانتباه ويشعر المرء أنه في ضيافة جبروت المخزن ،وليس في مؤسسة هاجسها العدل، فقد تم منع المواطنين من الولوج إلى المحكمة إلا البعض ممن دخلوا بالتحايل وبصعوبة شديدة، و يشكل حرمان المواطنين من الدخول خرقا لمسطرة القانون الجنائي الذي يعتبر العلنية عنصرا من عناصر المحاكمة العادلة حيث تشعر المتهمين بالطمأنينة، في حين أن الإنزال الأمني قد يكون مؤثرا على قرار المحكمة ،وينطوي على نوع من الترهيب ورسالة مفادها أن المخزن يبسط يده على المحاكمة . وتجدر الإشارة أن عناصر الأمن حضرت بأنواعها المختلفة و تبدو الهراوات من جيوب بعض عناصرها وهي واقفة وسط وفي مدخل القاعة ،في حين يجلس المواطنون وهيئة المحكمة حيث يجد المرء أحيانا صعوبة في رؤية منصة القضاة ،مما يبين أن المخزن فوق القانون القاضي باحترام هيبة المحكمة ،وقد بلغت قلة الاحترام هاته إلى درجة تعنيف شرطي أثناء استراحة لأحد المتهمين ،قيل انه يطلب شرب الماء وهذا يشكل خرقا سافرا لأبسط حقوق الإنسان التي ديس عليها بالأقدام منذ اعتقال المتهمين وصولا إلى المحاكمة. ودخل الشرطي بهستيرية في مشادة كلامية مع أحد المحامين ثم خرج من القاعة بعدها مرددا "عاش الملك". وقد حُرم المتهمون من الاستعانة بشهود الإثبات الذين من بينهم فتاة، أكدت لي أنها سمعت ضابط شرطة يتوعد المناضل الصديق كبوري في المستشفى بأنه سينال منه، وهو ما قد يعني ربما طبخ الملف له . كما سجل المحامون خرقا آخر يتعلق بعدم مناقشة حجج الاتهام علنا من طرف هيئة المحكمة . ومن الأمور التي أخذت وقتا طويلا في النقاش بالرغم من بساطتها ،وبالرغم من قدرة رئيس الجلسة البث فيها بحكم كون القانون يخول له التحكم في النظام داخل القاعة ،هو طلب المحامين جلوس المتهمين الذين كان يبدو عليهم الإنهاك، وقد كانت تنسحب هيئة المحكمة لمناقشة الطلب لأكثر من مرة ثم تعود رافضة الطلب ،مما يوحي بعقاب جماعي ينزل على المتهمين قبل حتى صدور الحكم وهذا مس لحقوق الإنسان وخرق حتى للتشريع المغربي الذي يسوق أن الاختيارات التجريمية والعقابية يجب أن تتم بتطابق مع المواثيق الدولية. من بين الخروقات أيضا كيفية الاعتقال التي استعملت فيها سيارة لا تحمل شارة الشرطة حسب إفادات المتهمين كما أن الشرطيين لم يكونا يرتديان بذلة تبين هويتهما كشرطيين ،وبالتالي فما تعرض له المتهمون يمكن اعتباره اختطافا كما أنه لم يتم إخبار ذويهم كما ينص على ذلك القانون . وقد وتمت الإشارة في المحاضر إلى حالة التلبس ،والحقيقة أن الشرطة لم تضبط المتهمين يقذفون حجرا أو يحملون سلاحا أو يحرضون على ذلك ،بل اعتقلتهم بعد ثمانية أيام من الأحداث الواردة في المحضر.ومن الأمور المثيرة للانتباه أيضا هي كون ضابط الشرطة الذي حرر المحضر هو نفسه المشتكي ،أي أنه خصم وحكم في نفس الوقت، وهذا يضع مصداقية المحضر موضع تساؤل. وقد كانت مقاطعة رئيس الجلسة للمحامين مثيرة للانتباه وذلك كلما حاول أحدهم وضع الأحداث في سياقها العام المتمثل في الحراك الاجتماعي الذي يعرفه المغرب . كما أنه لم يقف عند إفادات خطيرة للمتهمين الذين صرحوا أنهم تعرضوا للعنف اللفظي والجسدي من طرف شرطيين أحدهما اسمه "سعيد" والآخر "عزيز "،في حين كان القاضي يسهب في استفسار المتهمين حول قذف الحجارة على سيارة الأمن وحول ما إذا كانوا قد شاركوا في المظاهرة . وبعد قراءة بعض الفقرات من المحاضر على المتهمين نفوا معظم ما ورد فيها ،وأكد المتهمون الثمانية أنهم لم يطلعوا على المحضر بل وقعوا تحت الإكراه الجسدي والنفسي-تجويع ،تخويف وضرب- ،وقد كانت أم أحد المعتقلين- المسمى ياسين- قد أكدت لي أن ابنها أخبرها خلال الزيارة أنه وقع المحضر خوفا لأن زميله رفض فصدم الشرطي رأسه بالحائط . ونفوا أن يكون الصديق كبوري قد حرضهم على قذف الشرطة بالحجارة أو دحرجة الحجر من الجبل لسد طريق سيارات الأمن . وفي رد على ما نسب إليه رد الرفيق كبوري قائلا :"أنا كمناضل حقوقي ومواطن مغربي يتوق إلى مغرب الكرامة وحقوق الإنسان أتأسف لرفض المحكمة جلوسنا إذ أن هذا فيه خرق للإعلان العالمي لحقوق الإنسان "وهنا قاطعه رئيس الجلسة طالبا منه البقاء في الموضوع فاسترسل كبوري قائلا "رأيت تجمهرا أمام العمالة التحقت به كمسؤول نقابي وحقوقي ،وبمجرد وصولي رأيت النار مشتعلة في أحد المعطلين وقام أحد أفراد السيمي بإخمادها ". وأكد المناضل كبوري أن عملية الحرق جاءت حسب المعطلين كرد فعل يائس على حركة بذيئة قام بها أحد المسؤولين للمعطلين الذين تم رفض الحوار معهم .وإجابة على سؤال أوضح المعتقل المسار الذي أخذته المسيرة وأكد أنها جاءت عفوية وشاركت في تأطيرها مجموعة من الجمعيات ،مضيفا أنه مارس حقه الدستوري في التأطير كنقابي وكجمعوي ،مضيفا أن المعطلين كانوا معتصمين لمدة عشرين يوما قبل أن يقدموا على حرق ذواتهم .وهنا أيضا قاطع رئيس الجلسة المعتقل، وهو يتحدث عن استفزاز المعطلين باستمرار ووصف المعطلات بالعاهرات من طرف ضابط الشرطة، وسأله عن الوجهة الأخيرة للمسيرة فاسترسل المعتقل قائلا "نحن شكلنا سلسلة بشرية وعلى بعد أمتار خلفنا كان رجال السيمي وحين حاولت ثني رجل يحاول حرق نفسه انهالت علي هراوات السيمي من الخلف" وأكد أن الضابط الذي أشرف على التحقيق احتجت عليه الجمعية المغربية لحقوق الإنسان قبل مدة في وقفتين أمام مركز الأمن مما قد يلقي بظلاله على سير التحقيق بحكم انتماء المعتقل لهاته الجمعية. وأكد المناضل كبوري أن اعتقاله ومحاكمته اعتقال ومحاكمة سياسيين، موضحا أن خير دليل على ذلك هو التحري معه من طرف أربعة أجهزة أمنية من بينها جهاز الاستعلامات، وهو الأمر الذي لا مرجعية قانونية له ،حيث أن القانون لا يخول إلا للضابطة القضائية مهمة إعداد المحضر. وأضاف أن التحقيق فتح معه من طرف ستة عشر شخصا لساعات طوال، وتمحورت الأسئلة حول مواقفه من العدل والإحسان ومن النهج الديمقراطي ومن التعديلات الدستورية ،وهي أسئلة كلها ذات صبغة سياسية. وأكد أن القوات العمومية هي المسؤولة على العنف الذي اندلع ببوعرفة والذي وصل إلى حد اقتحام مدارس وضرب أطفال ذوي ثماني وعشر سنوات-وهدا كلام أكده لي بعض الأطفال خارج المحكمة قبل بداية الجلسة- ،وأكد كبوري أن الضرب الذي تعرض له كان عنيفا ،وقد تكون لدى المعنفين ربما نية تصفيته جسديا ،وردا على اتهامه بالتحريض على العنف وتخريب الأملاك العمومية أجاب أنه على العكس من ذلك كان يطلب من بعض الشبان عدم الرشق بالحجارة، كما أضاف أنه كحقوقي هو ينبذ العنف بجميع أشكاله ،بدليل عدم تسجيل أي عنف في الأشكال الاحتجاجية التي أطرها فيما قبل حتى إحدى الوقفات التي أطرها كحقوقي والتي نظمت في جنح الظلام بعد انقطاع الكهرباء على مدينة بوعرفة لسبعة أيام. كما أكد أنه كأستاذ كان دائما يعلم تلاميذه عدم تخريب طاولات وجدران المدرسة وعدم الكتابة فيها ،لأنه يعتبرها ملكا للشعب، فكيف له أن يحرض على التخريب؟وهنا تدخل المحامي لطرح سؤال حول اسم الضابط الذي هدده في المستشفى فأجاب بأن اسمه" محسن ".وتجدر الإشارة إلى أن رئيس الجلسة لم يكن يطرح هذا النوع من الأسئلة بتلقائية، بل بعد تدخل المحامي بالرغم من خطورة التصريحات التي أدلى بها المتهمون حول ما تعرضوا له من عنف جسدي ونفسي، يتنافى مع ما تنص عليه المواثيق الدولية .والخطير في الأمر أن مرتكبيها أشخاص من المفروض فيهم احترام القانون، والسهر على تطبيقه وحماية المواطنين . واعتبر المناضل كبوري الصديق أن اعتقاله من أمام المحكمة وهو يتحدث مع أحد المحامين وهو في مهمة حقوقية يعتبر خرقا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ونفى المناضل شنو المحجوب ما ورد في محضر اتهامه ، مؤكدا أن الشرطة القضائية تركت حيزا فارغا في المحضر الذي اطلع ووقع عليه، وعبأت الحيز الفارغ بأشياء أخرى لم يطلع ولم يوقع عليها ،كما أكد رواية كبوري حول الوقائع ونفى أن يكون هذا الأخير مارس أو حرض على العنف . ومن الأمور التي تؤكد خرق الحق في المحاكمة العادلة والذي ينص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان رفض هيئة المحكمة جميع الدفوعات الشكلية التي تضمن المحاكمة العادلة والتي تقدمت بها هيئة الدفاع وهي كالتالي: - السماح للمتهمين بالجلوس -استدعاء الشهود - تنقل القاضي لرؤية الأمن بالباب وهو يمنع دخول المواطنين إلى المحكمة -علنية الجلسة -التمحيص في المحاضر ومدى مطابقتها للمسطرة الجنائية - وصل إشعار العائلة -التصريح ببطلان المحاضر -وضع المحاكمة في سياقها الوطني.... كما أن النائب العام نسي أو تناسى في معظم أطوار المحاكمة أنه يمثل الحق العام ويمثل القانون، إذ انزلق إلى عبارات توحي بتشبيه الجمعيات بجمعيات الحيوانات كما أنه استشهد بحديث نبوي"ما اجتمعت أمتي على باطل"_ وهو يتحدث عن ما يدين المناضل كبوري في محاضر المتهمين الثمانية والتي نفوها_متناسيا أن المسيرة كان فيها المئات وليس مجرد ثمانية محاضر مزورة فلماذا ينظر إلى المشاركين فيها على أنهم اجتمعوا على باطل ؟.وتوج ملتمساته بملتمس غريب متمثل في "إبعاد المتهم كبوري من المنطقة القضائية لعشر سنوات"وهو ما يعني نفيه بلغة السياسة . ولابد أن أسجل أيضا أن رئيس الجلسة لم يقاطع النائب العام إلا مرة واحدة حين قام هذا النائب بمقاطعة أحد المحامين واحتجاج هذا الأخير ،في حين كان يقاطع هيئة الدفاع باستمرار كلما حاولت ربط ما يحدث بالحراك الاجتماعي الواقع في البلاد، أو كلما أسهبت في الحديث عن الخروقات القانونية والحقوقية لأفراد الأمن . في الختام أعيد جملة أعادها رئيس الجلسة أكثر من مرة ناسبا إياها للمناضل كبوري وأكدها وقد خاطب بها المتجمهرين أمام العمالة"سكان فيلاج الطوبة خرجوا لأجلكم ولأجل أبنائكم، وعوض الاستجابة لمطالبهم والإنصات لهم تم قمعهم فأحرق المعطلون أنفسهم لهذا سوف نحتج"يبدو أن هذا الكلام لا يحمل في طياته ما يدين المناضل كبوري بل هو كلام نؤمن به جميعا والاحتجاج والتظاهر السلمي كوسائل للتعبير هي حقوق تضمنها المواثيق الدولية ويتبجح بها حتى المشرع المغربي . لماذا لا يحاكم الذين يخرجون من الملاعب الرياضية في مظاهرات عفوية وعنيفة أحيانا وبدون ترخيص و يحدث فيها التخريب لممتلكات الدولة ؟ بدل إصدار حكم بسنتين ونصف على مناضلين شرفاء ومعاقبة الشعب في شخصهم ،لأنه يناضل لأجل انتزاع كرامته وحقه في العيش الكريم ،وعوض أن يتفاعل المخزن مع نبض الشارع يستغل مؤسسة قضائية لتركيع خصومه السياسيين، معتمدا كعادته مقاربة أمنية في حل مشاكل الشعب باعتقالات ومحاكمات تنتفي فيها شروط المحاكمة العادلة ،وتخرق بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية...