تقديم كتاب الصحراء المغربية أرض النور والمستقبل بدوسلدورف ألمانيا    من المسؤول عن تعطيل عملية تسليم الشقق للمنخرطين في مشروع القدس 1 المنتهية أشغاله بودادية النجاح للسكن بأكادير    المنتخب المغربي يصل إلى فرانسفيل    السياحة المستدامة والتحول الرقمي محور الدورة الثالثة لملتقى المقاولة بالحسيمة    "الفعل الاجتماعي" في المغرب .. مسؤولية الحكومة وانتظارات المواطن    المغرب والسعودية يتفقان على تسهيل عملية ترحيل المحكوم عليهم بين البلدين    مسؤول برئاسة النيابة العامة يوضح النطاق المحمي بمقتضى قانون الصحافة وموجبات تطبيق القانون الجنائي    الولايات المتحدة.. ترامب يعين ماركو روبيو في منصب وزير الخارجية    الناقد المغربي عبدالله الشيخ يفوز بجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي    جهة الداخلة تعزز الشراكة مع إسبانيا    هبات رياح قوية مع تطاير للغبار مرتقبة غدا الخميس بعدد من أقاليم المملكة    باليراريا" تنقل فرق مغربية ومعدات شفط المياه لدعم جهود الطوارئ في فالنسيا            رقم قياسي.. المغرب استقبل 14.6 مليون سائح حتى متم أكتوبر الماضي    أمن العيون يطيح بشبكة إجرامية تنشط في سرقة الأسلاك الكهربائية    تقرير: 16% فقط من المغاربة يعيشون حياة "مزدهرة" و69% يفكرون في تغيير وظائفهم    جمعية ثاويزا آيث شيشار تكتشف و ترصد دولمن مدفني بجماعة بني شيكر يعود لألاف السنين    لجنة المالية تصادق على مركزية الأجور والمناصب المالية وصفة موظف عمومي لمهنيي الصحة        المغرب يستقبل أكثر من 14 مليون سائح في 10 أشهر    في لقاء إعلامي قبل التوجه إلى الغابون : الركراكي يؤكد أن المنتخب الوطني يشهد تنافسية كبيرة وزياش يغيب بسبب ضعف الجاهزية    شاحنات مغربية تصل إلى إسبانيا للمساهمة في إزالة مخلفات "دانا" بفالنسيا    المغاربة يواصلون الاحتجاج ضد الإبادة في غزة ومطالب بتوضيح حكومي حول سفينة متجهة لإسرائيل    لأول مرة.. "حزب الله" يعلن استهداف وزارة الدفاع الإسرائيلية بتل أبيب    تقديم 21 شخصا أمام وكيل الملك بتارودانت على خلفية أحداث شغب مباراة هوارة وأمل تزنيت    المغرب يحتضن المرحلة الأولى من الدوري الإفريقي لكرة السلة    أخنوش يبرز تجربة المغرب في "كوب29"    فيضانات جديدة تجتاح جنوب وشرق إسبانيا    هذا ما قرره وكيل الملك بتارودانت في حق المتورطين في أحداث شغب ملعب هوارة    بعد قطع عملية الإعدام الأولى .. إعدام رجل شنقا "للمرة الثانية"    "ذي غارديان" تتوقف عن نشر محتوياتها على "اكس"    ظاهرة "السليت والعْصِير" أمام المدارس والكلام الساقط.. تترجم حال واقع التعليم بالمغرب! (الجزء2 فيديو)    بمناسبة اليوم العالمي لداء السكري…كيف نقي أنفسنا من داء السكري؟ غزلان لحرش تجيب عبر "رسالة24"    الركراكي يستدعي رضا بلحيان لتعويض أمير ريشاردسون المُصاب        ملف الطالب بدر يعود للمحكمة وهذه تفاصيل أولى الجلسات    صندوق النقد الدولي يشيد ب"التقدم المطرد" الذي يحققه المغرب    الدوري السعودي يضم 7 لاعبين بين أعلى الأفارقة أجرا عالميا ب 2.9 مليون إسترليني أسبوعيا    وليد الركراكي: لن نبكي على أحد.. من يريد تمثيل المغرب عليه بالصبر    حميد زيان ينهي تصوير الشريط التلفزيوني "بنت العم"    فيلم "مورا يوشكاد".. يجوب قاعات السينما المغربية ويكشف مآساة الاستغلال القسري للعمال المغاربة بفرنسا    واقعة الصفعة تحيل الفنان عمرو دياب إلى محكمة الجنح    احتفاء بالمنتخب الوطني للملاكمة بعد احرازه بطولة إفريقيا بكنشاسا    فوز البريطانية سامانثا هارفي بجائزة بوكر الأدبية العريقة للعام 2024    اختبار أول شبكة اتصالات تجمع الذكاء الاصطناعي وتقنية الجيل الخامس    إفريقيا تعتمد اختبار "بي سي آر" مغربي الصنع للكشف عن جدري القردة    أسعار صرف العملات العالمية مقابل الدرهم .. التحليل الكامل    كابوس النظام الجزائري ماركو روبيو.. المرشح الأبرز لمنصب وزير للخارجية الأمريكية في إدارة ترامب    "أجيال" ينقل الجمهور إلى قطاع غزة    حملة توعية بضرورة الكشف المبكر عن سرطان الرئة    تقارير.. المغرب من أكبر مستوردي الأدوية الروسية في إفريقيا    دراسة: تناول الدهون الصحية يقلل من احتمالات الإصابة بالسرطان    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في نقد الحاجة إلى الليبرالية
نشر في لكم يوم 19 - 06 - 2011


الإيديولوجيات وتغييب الحرية
كل النزعات والإيديولوجيات التي أخدت بها المجتمعات الإنسانية على الأقل خلال المائة وخمسين سنة الماضية سلبت الإنسان حريته وشخصيته وإنسانيته إلا الليبرالية. الفاشية اعتمدت على نوع من "استتقة"(aesthetization) السياسي فطهّرت المجتمعات عرقيا وجعلتها تقول بنوع من ميثولوجيا الأصل وقدر الوطن المحتوم. دور الفرد في المجتمعات التي حكمتها النازية أو الفاشية الايطالية صار فقط اكسيسوارا في لوحة متناغمة للقبيلة الأصلية الطاهرة، إن لم يقم بدوره كحجرة صغيرة في بنيان عملاق فإنه يصير حبة عالقة في رحى التاريخ يجب التخلص منها. محاولة تدمير اليهود (ولو كان العرب آنذاك في أوروبا لنالوا نفس المصير لأن هتلر كان يعتبرهم أدنى درجة من اليهود) جاءت نتيجة الهوس الجماعي بطهارة الأصل وقذارة الاختلاف التي ألهمت النازيين الألمان حتى قبل تربعهم على عرش الرايخ الثالث. الحرية بالنسبة للفاشية هو تيه فرداني عن سكة التاريخ وقدر الأمة. ما وقع في البلقان خمسين سنة بعد اندحار الفاشية ما هو إلا إعادة إنتاج لنفس الميثولوجيا في إطار تضارب القوميات وإعادة إحياء النزعة الصربية الممجدة للماضي المتخيل والملكومة بتمزق الوطن. القومية ينتهي بها الأمر إلى خلق نوع من الاستيلاب أو "التشيوء" التاريخي يكون بمقتضاه الوطن أهم من الفرد والأمة أهم من حياة الأشخاص.
أما الشيوعية فإنها غلّبت فكرة المصلحة الجماعية على مصالح الأفراد و لكنه انتهى بها الأمر إلى أن مصلحة الجماعة أصبح يجسدها إما القائد الثوري (ماو وستالين وبول بوت وكاسترو) أو مجموعة من "الأبارتشيك" يستعملون مصلحة الجماعة المفترضة ضد الجماعة وضد الشعب. حين سجن ستالين الآلاف في الغولاغ في سيبريا وحين أشعل ماو وتشوان لاي لهيب الثورة الثقافية ضد العائلة والثقافة التقليدية وحين قتل بول بوت حوالي مليوني كمبودي ليطهّر المجتمع، كانت الثورة قد انقلبت على أولادها وعوض أن تكون مصدر الخلاص كما نظّر لذلك ماركس وانجلز ولينين، صارت كابوسا حقيقيا قمع المجتمعات وأدخلها في نفق صمت جماعي سرمدي لم تستفق منه إلا بعد عقود وعقود. الشيوعية قمعت الفرد والجماعة والنزعة القومية والدين والعائلة والثقافة التقليدية وكل ذلك من أجل مصلحة جماعة بدت في الأخير فكرة متخيلة لا توجد إلا في عقول مجموعة ضيقة من الأبارتشيك وجلادي الثورة و جواسيسها.
الاشتراكية كما تم القول بها في كثير من المجتمعات اعتمدت على ما أسميه بمقولة " الدولة الأم الحنون" وهي مقولة تقول بوجوب وضع الكل في يد الدولة وهذه الأخيرة هي التي ستوزّع وتنصف وتأخذ بيد هذا أو ذاك. الاشتراكية ولّدت الاتكالية والخنوع والانتظارية وتحقير المبادرة الفردية وتدهور أخلاقيات العمل. كثير من الانتظارية التي نجدها في المجتمع المغربي الحالي تأتي من نزعة التعويل على الدولة التي خلقها خطاب اشتراكوي على مر العقود. بالنسبة للاشتراكيين فالدولة غدت مخلوقا عجائبيا يفرّق الحنان والشغل والقانون والتكفل لشعب لا حول ولا قوة له بدونها. الدولة تصير أداة سحرية تعالج كل شيء وتُصلح كل اعوجاج. رغم علمانيتهم فالاشتراكيون ألّهوا الدولة وقدّسوها وأعطوها أكثر مما تستحق أو تطيقه. خلقوا رأسمالية للدولة متعفّنة وبيروقراطية وغير منتجة صار بموجبها الفرد تائها في ردهات مؤسساتها حاملا بطاقات الانخراط والائتمان يقف في الصف ينتظر أن تجود عليه الدولة برفقها وخيرها. الاشتراكية خلقت ما اسميه " أمأمة" (motherization) الدولة و جعلت الفرد طفلا خالدا ينتظر عطفها و يصبو إلى الدخول تحت جناح رحمتها.
النزعة الثيولوجية أوالأصولية اعتمدت على تغليب الحقيقة الميتافيزيقية على الواقع. على الواقع أن يمتثل للفكرة العليا والمتعالية وإن لم يقدر فوجب قمعه وتهذيبه حتى يقترب أكثر من صورة المجتمع الرباني والمؤمن. لهذا نجد هوس الأصولية بامتثال الفرد لقوانين غير قابلة للنقاش لأنها غير إنسانية. المشكل بالنسبة للأصولية، هي أن القوانين الربانية يتم التوسط لها من طرف بشر لشرحها وتدليل سبلها، وما دام هؤلاء لا سبيل لهم للولوج إلى الحقيقة الربانية فإنهم يستعملون إنسانيتهم لشرح النصوص و القوانين. المفارقة هي أنهم يظنون أن شرحهم رباني وغير إنساني أي أنه غير قابل للنقاش. هكذا تغيّب الأصولية إنسانية التعامل مع النصوص واختلاف هذا التعامل من فرد إلى فرد ومن مجموعة إلى مجموعة. عدو النزعة الأصولية الثيولوجية هو الاختلاف لأن حرية الشرح وحرية التعامل مع النصوص والطقوس تحد في منظورها من قوة الحقيقية الربانية. لا يمكن للأصولية أن تتصور ممارسة للدين تكون فيها للأفراد حرية التفسير وحرية اختيار الطقوس وحرية النقد وحرية التجريب.
النزعة المحافظة بدورها تغيّب الفرد ولكن في إطار نوع من التركيز على أهمية التقليد وسيادة ثقافة المجموعة وقدسية النظام الاجتماعي السائد. المحافظون يكرهون الثورة لأنها تخلخل أسس النظام الذي يحمي قيم التقليد من سيادة دور العائلة ( خصوصا الأب)، واحترام تعاقب الأجيال، وقدسية التراتبية الاجتماعية وتقسيم الأدوار بين الفقراء والأغنياء والذكور والإناث. لا يستفيد في المجتمعات المحافظة إلا من لهم السلطة، سلطة القرار التي يخوّلها لهم النوع والسن والثروة، ولكنهم مقتنعون بأن منفعتهم هي السبيل الوحيد لضمان منفعة الشعب. لهذا نجد في المجتمعات المحافظة تحالفا وطيدا بين الابيسية (patriarchy) والنظام السياسي والطبقة المسيطرة والمتقدمين في السن. عدو المحافظين هم الشباب لأن هؤلاء ينزعون إلى الثورة على القيم والتقاليد وأولئك يعتبرون أنه بدون هذه القيم ستندثر المجتمعات. النزعة المحافظة تدمّر المبادرة والحرية والانعتاق والقدرة على الخلق وتخلق في غالب الأحيان مجتمعات شيزوفرينية (schizophrenic) تتظاهر بالمحافظة ولكنها غير ذلك في العمق وأحسن مثال على ذلك المجتمع المغربي الحالي.
أما النزعات الاستبدادية والتي كانت نظام الحكم الغالب في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وجنوب شرق آسيا لفترات طويلة من القرن العشرين فإنها لم تكن شمولية كالنزعات الفاشية أو الشيوعية أو الأصولية ولكنها مع ذلك غيّبت الحرية الفردية والحرية السياسية باسم عقل الدولة ( raison d'Etat) أو قدسية الحاكم (lèse majesté ). غالبا ما تتحالف أوليغارشيات ذات أهداف اقتصادية اوشوفينية أو قومية مع العكسر والرأسمال الاحتكاري لخلق نظام سياسي مبني على الولاء التام للنظام وعلى الزبونية والريع في العلاقات الاقتصادية. قد يبقى المجال الاجتماعي في منأى عن تدخل الأنظمة الاستبدادية ولكنه يتأثر بطريقة أو أخرى بالتدخل السافر للنظام والدولة لفرض توجه سياسي معين كما حصل مع جل الأنظمة الديكتاتورية في أمريكا اللاتينية والعالم العربي وجنوب شرق آسيا.
هكذا نرى أن جل الإيديولوجيات والنزعات التي تم العمل بها على مر قرن ونيّف من الزمن لم تسمح بانعتاق حقيقي للأفراد والجماعات ولم تسمح بخلق مجتمعات حرة ومسؤولة، مجتمعات تؤمن بقدراتها اللامتناهية في الخلق والإبداع والتجريب في إطار وعي تام بمحدودية قدرة المحيط والبيئة على تحمل النشاط الإنساني، أي مجتمعات مبدعة إبداعا مسؤولا يضمن استدامة الحياة وحقوق من هم آتون في المستقبل. جل الإيديولوجيات إما لجأت إلى قمع الشعب من أجل الشعب، أي أنها جعلت منه طفلا قاصرا غير راشد وجب تهذيبه، أو لجأت إلى محاولة تدليله عبر" مسكنته" مما أدى إلى خلق جو من التبعية والاتكالية والانتظارية، أو استغلته لخدمة مصالح فئات محدودة أوليغارشية أو عسكرية أو رأسمالية أو مجموعات ذات توجه قومجي أو شوفيني. الليبرالية وحدها هي التي تبدو القادرة أكثر من غيرها على ضمان نمو الأفراد والجماعات وذلك لأنها تركز على الحرية والانعتاق والفردانية وحرية الأجيال المستقبلية وكذا على المسؤولية والتقاول والإبداعية والخلق والإيمان بقدرات الإنسان.
تحدي الحرية: الليبرالية هي الحل
إن كانت هناك نزعة أو إيديولوجية تركّز على الحرية فهي الليبرالية. الحرية تعني انتفاء وجود الخوف والتسلط والقمع وتعني سيادة روح المبادرة لدى الأفراد والجماعات. والحرية تهم الفكر حيث لا نهاية لمدى تيه العقل والوجدان في رحاب المفاهيم والمقولات والخطابات والتعبيرات. كلما تحرر الفكر من قيود التقليد والسلطة والقيم المعيارية كلما سبر أغوارا جديدة وجرَّب آفاق أخرى تتيح للإنسان فضاءا فكريا مختلفا. لولا حرية تفكير عظماء أمثال سقراط وابن رشد وسبينوزا وهيجل وكانط وشوبنهاور ونيتشه واينشتاين وفرويد ودريدا وفوكو وغيرهم لما وصل الفكر الإنساني إلى قمم المعرفة الحالية ولما تطورت العلوم والفنون والمعارف بشكل مذهل في فترة لا تتعدى ألفين وخمسمائة سنة وهي فترة جد قصيرة بالنظر إلى تاريخ الإنسانية.
وتهمّ الحرية كذلك الإيمان والعقيدة والتعبّد حيث لا وجود لسلطة تُرغم الفرد أو الجماعة على الامتثال لقيمة أو فكرة أو مُثل عليا رغما عنه. الحرية في الإيمان كانت هي أساس أديان مثل المسيحية والإسلام ولكنه سرعان ما تم تغييبها بعد سيطرة فكر لاهوتي كنسي على الأولى وفكر محافظ "أبيسي" على الثانية. هاتين المنظومتين فرضتا إيديولوجيا معينة على الدين وتفسير النصوص حيث أعطى رجال الدين لهذه الايدولوجيا الملتصقة بحقبة معينة ( فلسطين القرن الأول للميلاد والجزيرة العربية في بداية القرن السابع) وبثقافة معينة بعدا ما فوق تاريخي وما فوق زمني. لهذا تحولت المسيحية والإسلام من ديانتين تحرريتين في بداياتهما إلى ممارسات تغلّب الفكرة العليا على الاختيار والحقيقة المطلقة على الحقيقة النسبية التي يحددها الأشخاص في علاقاتهم مع الواقع والأمور الغيبية.
تهم الحرية كذلك إطلاق العنان لزخم التعبير والممارسة الثقافية حيث لا يوجد هناك معيار للتعبير إلا معيار تمكين الذات من تمثل نفسها في علاقتها مع الواقع والذكرى والزمن والوجود والمجتمع، تمثلا متغيرا وبطريقة راديكالية. لولا الحرية لما استطاع شكسبير أن يجسد في مسرحياته الخالدة مفارقة الوجود الإنساني في أكبر تجلياته. لولا جرأة القدرة على التعبير لما استطاع دوستويفسكي وتولستوي وتوماس مان وجيمس جويوس وسامويل بيكيت وغارسيا ماركيز والعشرات من أمثالهم أن يتمثلوا المغامرة الإنسانية في قوالب أخَّاذة تظهر الإنسان في ضعف إنسانيته ونبلها في الوقت ذاته. لو لم يطلق فنانون أمثال دافنتشي ورامبراندت وبيكاسو وميرو ودالي العنان لخيالهم لما تم إثراء تراث الإنسانية بروائعهم الخالدة. هؤلاء الفنانون تاهوا بحرية في بحر المغامرة الفنية دون رقيب أو سلطة فكانت النتيجة أنّ عبقريتهم أتحفت ذوق العام والخاص بشكل قوي وغيّرت نظرته إلى الفن بطريقة لا رجعة فيها.
لهذا فلأن الليبرالية كأفق ونسق تعتمد الحرية كأساس فهي الثقافة والايدولوجيا التي تضمن انعتاقا أكثر للشعوب والمجموعات والأفراد. كثير هي الحركات التحررية التي سرعان ما انقلبت على نفسها وأولادها لأنها إما اعتمدت إيديولوجيات اشتراكية أو شيوعية أو استبدادية أو خليط من هذا القبيل. هناك تضارب أساسي بين هذه الإيديولوجيات وهدف الانعتاق والتحرر الحقيقي. الشعوب التي حققت تطورا مذهلا في اسكندنافيا وأوربا الغربية وأمريكا الشمالية وشرق آسيا أدركت أنه لا سبيل لانعتاقها إلا عن طريق الحرية الشمولية على النمط الليبراليِ (رغم غلبة طابع الرفاه الاجتماعي على البعض منها). هناك تلازم أساسي بين الحرية والازدهار، بين إحساس الأفراد والمجموعات بأنهم أسياد وسيدات قدرهم من جهة وانعتاقهم من قبضة الطغيان والجبروت والفقر والظلم من جهة أخرى.
لهذا فأساس المجتمعات الليبرالية هو الفرد كفرد لا المجموعة سواء كانت عائلة أو قبيلة أوأمة بالمفهوم القومجي لذلك . السبب هو أن الفرد هو الوحدة العاقلة الوحيدة في المجتمع. التجمعات لا تفكر بينما الفرد يفكر أو بالأحرى المجموعات تفكر بعواطفها، وشعورها وغرائزها بينما يمكن للفرد أن يعقل ما هو غريزي لصالح ما هو مفكر فيه . الليبرالية تحبذ المواطنين العاقلين، العارفين، الراغبين لا الذوات المنصهرة في جماعات يتحدد سلوكها أكثر على المستوى "الليبيدي". المواطنة لا تتأتى إلا بوجود أفراد أحرار في اختياراتهم ويستعملون عقولهم لاتخاذ قرارات تتناسب ومصالحهم المفكر فيها بشكل موضوعي وعقلاني. الليبرالية هي مثالية شيئا ما من هذا المنظور لأنها تتصور مجتمعات مكونة من أفراد لهم معرفة كاملة بقضاياهم، ويستعملون عقولهم للبحث عن الحلول، ويتناقشون ويتطارحون في نسق تواصلي يسوده الاختلاف واحترام الرأي، ويختارون الحلول المناسبة بحرية وعقلانية. هذا المجتمع الشبه أفلاطوني هو مثال يجب الوثوق إليه وأفق يجب تقريب الواقع منه. إنها رؤيا للمستقبل يلعب فيها الفرد والعقل والحرية والاختلاف أدوارا أساسية في خلق المجتمع الحر العادل المنشود.
الليبرالي الحقيقي هو الذي يضمن كذلك حرية الآخر في اتخاذ القرارات المناسبة. والآخر هذا هو المنافس والخصم السياسي والآخر النوعي والأقلياتي والديني، ولكنه هو كذلك الآخر الآتي، الوريث للأرض ومواردها. الأجيال القادمة لها الحق في اتخاذ قرارات حرة في وسط محيط مناسب لا محيط مصاب بالتلف و الانهيار البيئي جراء العمل الإنساني. إن تركنا أرضا يبابا لأبنائنا وسماء ملبّدا بالغازات ومطرا يسقط أكسيدا على البلاد والعباد وبحرا ملوثا وبدون سمك وأرضا قاحلة عوض الغابات ووديانا تصير فيضانا قاتلا جراء انجراف التربة، فإننا لم نترك لهم حرية الاختيار وحرية اتخاذ القرار في ظروف ملائمة ومناسبة. الحرية المستقبلية أساسية في التفكير الليبرالي الذي يفترض مجتمعات نامية بطريقة مستديمة. حرية الحاضر تنتهي حين تبتدئ حرية الأجيال المقبلة.
الحرية بدون مسؤولية ليست حرية. من طالب بحقوقه بدون القيام بواجباته لا يمكن له أن يكون مواطنا صالحا في المجتمع الليبرالي المنشود. المسؤولية تعني الامتثال للقوانين المعمول بها، والقيام بالواجبات المخولة للفرد عن طواعية وتحمل تبعات القرارات التي نتخذها كأفراد. هناك من يرى في الحرية شيئا منافيا لتطبيق القانون؛ بينما تطبيق القانون هو ما يضمن أن يكون الأفراد أحرارا، لأن القانون هو السقف الذي يعمل في إطاره الأفراد وبدون قانون منظم ومتفق عليه ستسقط المجموعات في غياهب قوانين طبيعية تجردهم من إنسانيتهم. ولكن المسؤولية التي تؤمن بها الليبرالية تقتضي كذلك أن يقوم الأفراد بواجباتهم بدون رقيب أو مقايضة. القيام بالواجب هو من صلب الإحساس بدور الفرد في بناء المجتمع الحر والعادل. المسؤولية تقتضي كذلك أن الأفراد يتحملون نتائج قراراتهم وأفعالهم. ما دام أنه يشترط فيهم أن يكونوا عاقلين ولهم حرية الاختيار فاختيارهم يُلزمهم كما أن نتائج اختياراتهم تُلزمهم.
بصفة عامة يمكن القول بأن الليبرالية تركّز أساسا على حرية الفرد و إبداعيته و قدرته على خلق الخيرات. الليبرالية تؤمن بقدرات الإنسان على أخد قدره وحاضره ومستقبله على عاتقه و قدرته على ضمان حريته وحرية الآخرين . الليبرالية لا تضع حدودا للتعبير إلا تلك التي يحدّدها القانون الوضعي ولا تضع حدا لقدرة الإنسان على الابتكار والخلق إلا تلك التي يمليها الوازع الأخلاقي الذي يحدده الأفراد أنفسهم لا الدولة أو السلطة أو المجتمع. والليبرالية لا تضع قيودا على ما يؤمن به الإنسان أو ما يفكر به ولا تكره أن يخلق الثروات لأن هذا هو أساس ازدهار الشعوب وسبب رقيّها.
خلق الثروات من المنظور الليبرالي
هناك تضارب عميق بين الرأسمالية في شقها الاحتكاري المتوحش ونزعة التقاول ومفهوم خلق الثروات التي تقول بهما الليبرالية. النزعة الاحتكارية الرأسمالية طغت في الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وفي جل دول العالم الثالث خلال القرن العشرين من خلال اقتصاد الريع والزبونية و"الكارييرية " ( carriérisme) الاقتصادية لكثير من رجال السياسة والإدارة. الرأسمالية الاحتكارية تنبذ التنافس والتنافسية وتعمل ما في وسعها من أجل ضرب المتنافسين من خلال حرب الأسعار والتروستات والكارتيلات. تتحالف الرأسمالية الاحتكارية مع الساسة من أجل الحصول على ترخيصات ومعلومات تفيد طرفا دون الآخر. الخاسر الأكبر حين يسيطر الرأسمال الاحتكاري هو المستهلك والذي قد يستفيد لفترة قصيرة من جراء حرب الأسعار لكنه سرعان ما يرى أثمنة المواد ترتفع بصور صاروخية حين تسيطر شركة واحدة أو تكتل شركات على الإنتاج. غالبا ما تتجه الشركات الاحتكارية إلى محاولة السيطرة على جميع مراحل الإنتاج والتوزيع لإحكام سيطرتها على السوق وفرض الأسعار التي تريد. هكذا فإن الرأسمالية الاحتكارية سرعان ما تصير متوحشة لا تحتكم لأي قانون إلا المضاربة وحرب الأسعار وضرب المتنافسين وإثقال كاهل المستهلك. الحقوق والحريات وحرية التقاول تتراجع إلى الوراء في العهد الاحتكاري ليحل محلها إنتاج غير مضمون الجودة وتوزيع شبه مافيوزي وأسعار لا تنضبط إلى قانون العرض والطلب.
الحرية الإقتصادية وحرية التقاول تعني أن الأفراد هم فاعلون في النسيج الاقتصادي لمجتمعاتهم أي أنهم يخلقون المقاولات لتحقيق أهداف معينة مادية ومعنوية. التقاول أساس المجتمعات الليبرالية الحقة. المقاولة ليست فقط بقرة حلوب نجني من ورائها أرباحا، أو شغلا أو ضرائب. إنها نمط في التفكير والحياة والتعامل مع المحيط. المقاولون يضعون أهدافا محددة، ويدرسون المحيط والمتنافسين، ويتربصون بالفرص السانحة، ويخاطرون وذلك من أجل تحقيق ذواتهم. المقاول ليس بالضرورة إنسانا رأسماليا. صاحب حانوت أو مخدع هاتفي أو محلبة هو مقاول إن توفرت فيه شروط رسم الأهداف وتصيّد الفرص والبحث والمخاطرة. لهذا فالتقاول هو نظرة خاصة للعالم وإن توفرت بشكل عريض لدى فئات كثيرة من المجتمع فإن هذا الأخير سيحقق الثورة المقاولاتية أي أنه سيصير كله ديناميا تتوفر فيه كل السلوكات التقاولية التي تمت الإشارة إليها أعلاه. ما يميز مجتمعا مثل المجتمع الأمريكي هو سيادة روح المقاولة إلى درجة أنها صارت جزءا من الثقافة اليومية والحياة العادية ولأن الأمريكيين أدركوا أهميتها في خلق الشغل والثروات والدينامية الاقتصادية فإنهم شجعوها إلى حد التقديس.
خلق الثروات مفهوم لا تجده في الإيديولوجيات التي تعطي للدولة أو العائلة أو الدين أو الزعيم أو النظام أو الجماعة دورا أكبر من الأفراد ولكنه مهم في النزعة الليبرالية. هناك مجتمعات تنظر إلى الثروة بعين الريب وهناك مجتمعات تبدع الوسائل لإخفاء ثرواتها وذلك لأنها لا ترى فيها إلا تكديسا بشعا للأموال. غير أن النظرة الليبرالية تنظر إلى الثروة على أنها إضافة ايجابية ومحمودة لما هو موجود لأنها تخلق الشغل و الرواج و تدر الضرائب على خزينة الدولة و تشجع على الاستثمار والاستهلاك. لهذا فتشجيع خلق الثروات هي من ركائز السياسة الاقتصادية للحكومات الليبرالية. تُعتبر الشيوعية و الاشتراكية من أعداء خلق الثروات لأنهما لا تفرّقان بين الرأسمالية و خلق الثروات، أي بين تكديس الأموال لخلق رأسمال يُستعمل من أجل السيطرة على وسائل الإنتاج (حسب التعريف الماركسي) وبين توفير أكبر عدد ممكن من إمكانيات الاستثمار والاستهلاك والمعاملات التجارية.
قد يتساءل المرء هل هناك بالفعل في المغرب وجل بلدان العالم الثالث أخد جدي وحقيقي بالليبرالية كما تم تحديدها أعلاه. لا أظن ذلك والعكس هو الذي نلاحظه. مثلا في المغرب هناك خطاب حول الليبرالية ولكن السياسات الاقتصادية هي عكس ذلك بكثير. أنا أظن أننا لم نجرّب الليبرالية بعد بطريقة جدية. محيط الأعمال لا زال مكبّلا بقيود سواء فيما يخص خلق المقاولة أو إعطاء الرخص أو إنهاء عقد الشغل أو الوقت الذي تستغرقه القضايا أمام المحاكم. الحرية السياسية تنمو ولكن القانون والدستور لم يؤسسا لهذا النمو بطريقة لا رجعة فيها. حرية الصحافة عرفت تطورات إيجابية ولكن الصحافة لازالت تُعتبر عدوا للسياسي وأخيرا سيادة القانون لازالت في بداياتها الأولى. السبب في ذلك هو أن من سهروا على السياسات الليبرالية في السنوات الأخيرة هم إما اشتراكيون أو وطنيون خططوا لمشاريع ليبرالية رغم أنفهم لأن الاختيارات الكبرى كان قد تم تحديدها حتى قبل ولوجهم الحكومة. لهذا فرغم خطاب الليبرالية ورغم الحديث عن المسؤولية والمساءلة وعن روح المقاولة فإن ثقافة الاتكالية والانتظارية والتعويل على الدولة (وهي قيم اشتراكية حتى النخاع) لازالت تسيطر على البنيات الذهنية في المجتمع المغربي.
بدون ثورة في الذهنيات والعقول وبدون خلق ثقافة جديدة مبنية على الجدية وأخلاقيات العمل والمحاسبة وحرية التعبير والتقاول -- بل بدون ثورة جديدة في المفاهيم والقيم-- سيبقى المجتمع الليبرالي حلما يحتاج إلى ليبراليين حقيقيين لتجسيده على أرض الواقع . محنة الليبرالية هي أن الكثير يجني ثمارها ولكن القليل يعمل بقيمها. الليبرالية ليست فقط وسيلة لتنظيم العلاقات الاقتصادية ولكنها فلسفة في الحياة وثقافة يجب أن تصير نبراس الجميع لتجاوز الإتكالية والتبعية والتعويل على الدولة والانهزامية التي ولّدتها الإيديولوجيات الاشتراكية والوطنية في نفوس المغاربة. كل الذين يندبون حظهم ويعيشون أسى مزمنا تجاه الآمال التي تبخّرت بعد الاستقلال والطموحات التي صارت سرابا بعد فشل الثورات (الحقيقية منها والبلانكية) هم من ضحايا إيديولوجيا الاتكال والكسل الفكري والاقتصادي، متقوقعين في فضاءات مملة وركيكة يعيدون اجترار الفشل منذ عقود. التعويل على الذات والإيمان بقدرة الأفراد في التحكم في قدرهم (حاضرا ومستقبلا) هي قيم قمينة بزرع الأمل في أوساط الأجيال الصاعدة لكي يبنوا غدا أفضل هم أنفسهم دون التعويل على الدولة أو الحكومة أو الدين أو القبيلة أو العائلة. الليبرالية هي النزعة الوحيدة التي تمكّن الأفراد من أن يدركوا أنهم حقا أحرارا وأسياد وسيدات قدرهم وحياتهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.