هذا النص لتوني جوديت الذي نقدمه مترجما في ثلاث حلقات لقراء الجريدة حول »المتقادم والمتجدد في الاشتراكية الديموقراطية« ،يستعيد بشكل سلس ومكثف أجواء النقاش العام الذي عرفته الاوساط الفكرية والسياسية على امتداد السنتين الاخيرتين على إثر الازمة المالية العاتية التي تفجرت في كبريات البلدان الغربية خريف سنة 2008، وأعادت مجددا الى الواجهة التفكير في ادوار الدولة ووظائفها ،لا فقط من حيث الضبط الاقتصادي ولكن كذلك وبالاساس على مستوى التحكيم والتوجيه الاجتماعي، وذلك طبعا بعد ان عصفت ايديولوجيا التفكيك بلا حدود - او كادت - بمدخرات عشرات الملايين من البسطاء من الناس. النص أيضا إبحار في غاية الافادة في المياه الساخنة والمضطربة للقرن العشرين، ابحار في غاية الافادة في الملابسات الفكرية والايديولوجية، بل والمنطلقات الفلسفية التي قادت الى تبلور منظومة الاشتراكية الديموقراطية ودولة الرعاية الاجتماعية التي كانت اكبر انجاز سياسي - اجتماعي عرفه القرن. يستعيد جوديت النقط الجوهرية في ذلك الصراع الشهير بين فريدريك هايك وجون ماينار كينز في موضوع دور الدولة ومدى ملاءمة ومشروعية تدخلها في المجال الاقتصادي. لقدا نتهى ذلك الخلاف بانتصار الاطروحة الكينزية واكتساحها الشامل، بحيث أضحت الكينزية في العمق وما يرافقها من اختيارات اقتصادية ورؤى اجتماعية بمثابة القاسم المشترك بين كل الديموقراطيات، الاشتراكية منها والليبرالية الاجتماعية الوسطية على حد سواء. يبرز جوديت تلك المفارقة المتمثلة في ان نجاح دولة الرعاية الاجتماعية التي اصبحت جزءا من المشهد السياسي والاجتماعي العادي في الديموقراطيات الغربية هو في ذات الوقت السبب الرئيسي في تقليص النفوذ الايديولوجي للاشتراكية الديموقراطية ضمن الاقطار المتطورة! مؤكدا، والحالة هاته، ان الاحزاب الاشتراكية الديموقراطية مدعوة الى التفكير بعمق في اعادة اكتشاف و تحديد دور الدولة، بعد ان خرجنا من قرن جعل فيه بعض »المصلحين« الاغراء قويا بجعل الدولة تسن بشكل دوغمائي ما يتوجب على الافراد القيام به و مالا يجب. جوديت الذي يذكرنا بآفة الزمن الحالي المتمثلة في كون الاقتصاد والحساب الاقتصادي البارد صار محور الحياة الاجتماعية، يثير الانتباه الى العودة القوية اليوم للاتكافؤ وعودة الفكر الذي يمجد الغنى، وطغيان مشاعر الاحتقار ازاء الفقراء والمحتاجين والمستفيدين من المساعدات العمومية، بما يذكر بما كان قد رصده الروائي الكبير تشارلز ديكنز في رائعته اوليفر تويست في القرن التاسع عشر. ينبه توني جوديت من المخاطر التي قد تترتب عن هدم تلك الحواجز الواقية التي بنتها دولة الرعاية الاجتماعية بعد جهد وعراك وتضحيات طويلة، حواجز واقية ضد الفقر والهشاشة، نقلت المساعدة العمومية من دائرة او منطوق الصدقة الى مفهوم حق المواطن، المعزز للكرامة والضامن للتماسك الاجتماعي. مؤكدا كذلك ان المردودية لا يمكنها ان تنفصل عن حساب الكلفة الاجتماعية، وأن هذه هي المعضلة الكبرى لليبرالية الطامحة الى الانفلات من كل ضبط كما اثبتت مجريات الازمة المالية الأخيرة. ماذا بعد هذا؟ قد يكون نموذج دولة الرعاية الاجتماعية بالشكل الذي نظر له كينز في أربعينيات القرن الماضي ومورست مقتضياته في الميدان لعقود متلاحقة، قد يكون هذا النموذج منهكا بعض الشيء بفعل تطورات مجتمعية تثير الانتباه الى تحدياتها حتى الاحزاب الاشتراكية الديموقراطية ذاتها، كما حدث خلال مؤتمر حزب العمال البريطاني صيف 2010، لكن ماذا عنا نحن في مجتمعاتنا العربية، التي تعيش على مستوى الاختيارات الاجتماعية الحاسمة ما يمكن ان نسميه بنموذج الدولة المتقاعسة (في مقابل نموذج دولة الرعاية الاجتماعية). تذكرنا الهزات القائمة في العالم العربي على كل حال بأن لا مستقبل ممكنا لنموذج الدولة المتقاعسة. وفق استطلاعات ودراسات انصبت حول اتجاهات الرأي العام، يود الامريكيون اليوم لو توفرت لهم تغطية صحية شاملة وبتكاليف معقولة، يودون لو تطورت الخدمات العامة، وحينما تقول لهم بان هذه المكتسبات متوفرة في النمسا والبلدان الاسكندنافية وهولندا، ولكنها قائمة هناك، جنبا الى جنب مع وجود ضرائب اكثر ارتفاعا مما هو موجود في الولاياتالمتحدة، ودور تدخلي اكبر للحكومات، يجيبك نفس الامريكيين: »واذن فهي الاشتراكية» لا، اننا لا نريد تدخل الدولة في قضايانا، ولا نرغب بصفة خاصة ان نؤدي مزيدا من الضرائب». إنها حقا حالة غريبة، مفارقة غريبة، غير ان لهذه المفارقة قصة طويلة. فقبل قرن من الزمن تساءل السوسيولوجي الالماني ويرنر سومبار، لماذا لا توجد اية صيغة من الاشتراكية في الولاياتالمتحدة الأمريكية؟ هناك إجابات متعددة حول هذا السؤال الاشكالي: البعض من هذه الاجابات له صلة بحجم البلد ذاته، فمن الصعب تنظيم ومتابعة تنفيذ اهداف مشتركة على مستوى بلد بحجم امبراطوري، وهنالك ايضا عوامل ثقافية، ومنها مثلا، ذلك التوجس، ذو الطابع الامريكي الخاص، من كل حكم مركزي. وليس صدفة أن تجد الاشتراكية الديموقراطية فرصة ازدهارها، وما رافق تطورها من بروز لدولة الرعاية الاجتماعية، في بلدان صغيرة منسجمة حيث لا وجود لتلك التوجسات، فان تكون مستعدا للاداء من اجل تمويل خدمات يستفيد منها اشخاص اخرون، معناه انك تنطلق من فكرة او قناعة مفادها ان الاخرين بدورهم سيتصرفون ازاء وازاء ابنائك بنفس الطريقة لأنهم يشبهونك في كل شيء ويرون العالم بنفس النظرة والطريقة. وعلى العكس من تلك، فحينما تغير الهجرة والاقليات العرقية من ديموغرافيا بلد ما، فان ذلك يضاعف نوعا ما من التوجس تجاه الاخرين ويؤدي الى اضعاف الحماسة تجاه مؤسسات دولة الرعاية الاجتماعية. من المحقق ان الاشتراكية الديموقراطية ودولة الرعاية الاجتنماعية تواجهان اليوم تحديات عملية في غاية الخطورة، لا يتعلق الامر بمساءلة جذرية لوجودها ذاته، ولكن يبدو كما لو ان نوعا من الشك بدأ يغمر الناس حول مستقبلهما قياسا الى الماضي القريب. تاريخ و مسار حكم قيمة ما السبيل لتفسير هذه الصعوبة في تصور نمط آخر او تصور آخر للمجتمع في ذات الوقت الذي نعبر فيه عن احساسنا بالانزعاج والضيق من الفوارق. والتغييرات التي يعرفها مجتمعنا الحالي؟ يبدو كما لو أننا فقدنا القدرة على وضع الحاضر موضع تساؤل، ناهيك عن تصور بدائل له. والسؤال الذي يتداعى من ذلك هو لماذا نبدو عاجزين لهذا الحد عن تصور نموذج مجتمعي بديل لما فيه صالحنا المشترك؟ تكمن نقطة ضعفنا الكبرى - واسمحوا لي هنا في استخدام اللغة الجامعية المتحذلقة - في الممارسة الخطابية: إننا لانعرف، بكل بساطة، الحديث عن تلك الاشياء. ولتفسير ذلك لابد من العودة شيئا ما الى الوراء. لقد لاحظ جون ماينار كينز ذات يوم أن »تحرير العقل يمر بالضرورة عبر دراسة تاريخ الرأي opinion« وهكذا فلكي نتوصل الى تحرير العقل، لابد لنا من أن نتوقف بعض الوقت لدراسة حكم قيمة: أقصد اللجوء المعمم والعالمي اليوم الى النزعة الاقتصادية، أي تلك النزعة التي تستحضر الاقتصاد ولغة الاقتصاد في كل نقاش عمومي. خلال الثلاثين سنة الاخيرة، وفي جزء كبير من العالم الانجلوساكسوني (وبدرجة أقل في أوربا القارية ومناطق أخرى)، حينما يطرح موضوع دعم مقترح ما او مبادرة ما، فإننا في العادة لانتساءل عما إذا كانت جيدة ام سيئة، وعوض ذلك، فإننا نهتم الاساس بما إذا كان لتلك المبادرة أو ذلك المقترح ما يكفي من الفعالية والنجاعة، وعما إذا كانا يساهمان في زيادة الناتج الداخلي الخام! وهذا الميل العام الى تلافي كل ماله صلة بالاعتبارات المعنوية والاخلاقية، والانحسار في الدائرة الضيقة للربح والخسارة، وهي قضايا اقتصادية بالمعنى الضيق للكلمة، لايجد مصدره، كما قد يقال، في أية طبيعة إنسانية عفوية مفترضة. إنه ميل مكتسب. لقد عرفنا شيئا من هذا في السابق، ففي سنة 1905 تساءل الشاب وليام بيفردج ، الذي شكل تقريره لسنة 1942 في ما بعد الاساس الذي قامت عليه دولة الرعاية الاجتماعية، تساءل أثناء محاضرة ألقاها بجامعة أوكسفورد لماذا يقع تغييب الفلسفة السياسية لحساب الاقتصاد في النقاشات العمومية؟ والحقيقة ان التساؤل الذي طرحه بيفردج يحتفظ براهنية كبيرة. لنشر أولا الى أن هذا الغياب للفكر السياسي لايستمد جذوره إطلاقا من كتابات كبار المفكرين الاقتصاديين الكلاسيكيين، وهكذا مثلا فإن ماكان يسميه آدم سميت في القرن الثامن عشر بالمشاعر الاخلاقية كان يندرج لديه، وبدون مواربة، في صميم الانشغالات الاقتصادية. والحقيقة كذلك أن إغراء حصر السياسة العامة في مجرد حساب اقتصادي بارد كان منذ البدء مصدر قلق للعديد من رواد الفكر الليبرالي ذاته، فهذا على سبيل المثال الماركيز دو كوندورسيه، أحد أكبر محللي دينامية الرأسمالية المركانتيلية في بدايتها حصافة، يستشرف بنوع من التقزز «»بالنسبة لأمم يحركها الطمع، فإن الحرية لن تكون اكثر من شرط ضروري لحماية المعاملات المالية»«. لقد واجهت الثورات السياسية خطر الخلط بين حرية الحصول على المال، والاغتناء، وبين مفهوم الحرية بحصر المعنى. لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا بإلحاح اليوم هو »كيف أمكن الوصول الى هذه الوضعية، التي أصبحنا فيها نفكر بمنطق اقتصادي خالص وشبه حصري، ولماذا أصبحنا عاجزين الى هذه الدرجة عن تصور منظومة مغايرة أو شكل آخر من التنظيم (بالمعنى الشامل) يستجيب لمصالحنا المشتركة؟ إن الاغراء الذي تمارسه اللغة الاقتصادية المنمقة لم يأت من فراغ، فنحن نعيش تحت تأثير وتحديات نقاش لايعرف الناس عموما الشيء الكثير عن مرجعيته المؤسسة: ولو حاولنا التعرف على المفكرين الاجانب الذين ولدوا خارج البلدان الانجلوساكسونية التي مارسوا فيها أكبر التأثيرات، فإننا سنجد أربعة أسماء أساسية: لودويك فون ميس، فريدريك هايك ، كارل بوبر، وبيتر دروكر، الاولان يعتبران الابوين المؤسسين لمدرسة شيكاغو الشهيرة في مجال التنظير لاقتصاد السوق، وبوبر عرف بدفاعه عن المجتمع المفتوح ونظريته حول الشمولية التوتاليتارية، اما دروكر فإن كتاباته حول فنون وتقنيات التسيير، مارست تأثيرا هائلا لما يعرف بالسنوات السمان 1975/1945 لما بعد الحرب العالمية الثانية. ومن بين المفكرين الاربعة المذكورين، فإن ثلاثة منهم ولدوا وترعرعوا في فيينا، اما الرابع فقد ولد في مدينة ليمبرغ النمساوية (المسماة اليوم لفوف)، وكلهم تأثروا بشكل مهول بالكارثة الكبرى التي حلت ببلدهم في ما بين الحربين: فبعد الهزة الكبيرة للحرب العالمية الاولى، والتجربة القصيرة للتسيير الاشتراكي البلدي في مدينة فيينا، تعرض البلد لانقلاب رجعي سنة 1934، ثم بعدها بأربع سنوات كان الغزو، ثم الاحتلال النازي. وقد أدت هذه الاحداث مجتمعة الى دفعهم جميعا الى الهجرة خارج بلدهم، وكانت كل كتاباتهم - وينطبق الامر بشكل خاص على هايك - تندرج ضمن ذلك السؤال الذي هيمن على التفكير وقتها: »لماذا انهار المجتمع الليبرالي وأخلى السبيل للفاشية؟ على الاقل في النمسا؟ وكان جوابهم ان محاولة اليسار الماركسي في فترة ما بعد 1918 في النمسا، اعتماد تخطيط مركزي من طرف الدولة، واحتكار البلدية للمرافق والخدمات العامة لم يظهر فقط حدودهما القصوى باعتبارهما كانا محاولات واهمة في اتجاه المجهول بل ان تلك الاجراءات والسياسات، علاوة على ذلك، أدت الى تولد ردود فعل دراماتيكية. ان التراجيديا الاوربية، وفق هذه التفسيرات تبدو كما لو أنها تجد مصدرها في اليسار الاوربي ذاته، أولا لأنه لم يتمكن من الوصول الى أهدافه، وثانيا لأنه لم يتمكن من الدفاع عن نفسه والدفاع في نفس الآن عن إرثه الليبرالي. وهكذا استخلص الجميع، جميع أولئك المفكرين، ولو بطرق وعبر مسارات فكرية متباينة، ان أحسن وسيلة للدفاع عن القيم الليبرالية الاصيلة، وأقوم الطرق للدفاع عن المجتمع المفتوح والحريات المحايثة له هو جعل الدولة تنأى بنفسها عن التدخل في الشؤون الاقتصادية: فإذا ما نحن حافظنا على مسافة معقولة بيننا وبين التسيير الاقتصادي المباشر، ومنعنا السياسيين - حتى ولو بدت بواعثهم نبيلة - من التخطيط والتسيير الاقتصادي وأنواع المناورة السياسية التي تستتبع ذلك، فإننا سنتلافى بنجاح بروز التطرف سواء بصيغه اليمينية أو بأشكاله اليسارية. لقد واجه كينز نفس التحدي: ما السبيل لفهم ما حصل وكيف نمنع حدوثه مرة أخرى؟ لقد ازداد الاقتصادي الانجليزي الكبير سنة 1883، وترعرع في كنف بريطانيا مزدهرة، قوية وواثقة من نفسها، ومن موقعه المريح كملاحظ مميز للخزينة العامة ومشارك في مفاوضات السلام بفرساي، رأى هذا العالم الجميل ينهار أمام أعينه وتهوى وتتساقط معه يقينيات ترتبط بثقافته هو وطبيعته الاجتماعية. وقد طرح كينز نفس التساؤل الذي طرحه هايك وزملاؤه النمساويون، ولكن اجابته عن ذلك السؤال كات جد مختلفة. نعم، لقد أكد كينز فعلا ان انهيار أوربا الفيكتورية كان تجربة فاصلة في حياته، ولكن مساهمته الاساسية في النظرية الاقتصادية تجلت تحديدا في الاهمية التي أولاها لمعطى اللايقين كمعطى أساسي، فعلى عكس الوصفات العلاجية التي آمن الاقتصاد الكلاسيكي والنيوكلاسيكي بفضائلها، أكد كينز على طابع اللاتوقع الذي يحيط بالقضايا الاقتصادية، فإذا كان هناك من درس يتوجب استخلاصه من الازمة الاقتصادية ممثلة بالانكماش والكساد، ومن ظروف الحرب، ومن ظهور الفاشية، فهو الدرس المرتبط بمعطى انعدام اليقين، والذي قد يرتفع الى درجة الخوف الجماعي وفقدان الشعور بالامن. إن الخوف الجماعي وفقدان الشعور بالامن شكلا تلك القوة المزحزحة التي هددت، وبإمكانها مجددا ان تهدد العالم الليبرالي، ولهذا ففي كل أعماله حرص كينز على إعطاء دور أكبر للدولة لضمان الأمن الجماعي وذلك اعتمادا على التدخل الاقتصادي اتنقاء لتقلبات الدورة الاقتصادية، اما هايك فقد اتجه في المنحى المعاكس تماما، وفي كتابه »»الطريق الى العبودية» (1944) كتي ما يلي: »لايوجد وصف ما، بعبارات عامة بإمكانه ان يقدم فكرة دقيقة عن حجم الشبه القائم بين جزء كبير من الثقافة السياسية الانجليزية سنة 1944 وبين تلك الاعمال التي أدت الى تحطيم الثقة في الحضارة الغربية في ألمانيا، وأفسحت المجال للاكتساح النازي« ومؤدى هذا الكلام أن هايك كان يتوقع أن وصول العماليين إلى الحكم في بريطانيا سيحمل معه نذر الفاشية، لكن الذي حصل خلافا لتوقع هايك، هو أن العماليين نجحوا فعلا في الانتخابات، ولكن نجاحهم ترافق مع اعتماد وتبني سياسات استلهمت الجزء الأكبر من منطلقاتها من الفكر السياسي و الاقتصادي الكينيزي، وخلال الثلاثة عقود اللاحقة، فإن النموذج البريطاني، الذي جرى تعميمه في الجزء الأكبر من العالم الأوربي اعتمد أساسا على الفلسفة الكنيزية في هندسة وتنفيذ السياسات الاجتماعية. نجاح دولة الرعاية الاجتماعية الأوربية. لقد انتقم النمساويون كما نعرف من ذلك الماضي المرعب، ويجدر أن نترك محاولة الجواب عن سؤال لماذا وقعت الكارثة هناك بالذات إلى فرصة أخرى، غير أنه وكيفما كانت الاجابة، فإننا ندرك أننا نعيش اليوم رجع صدى خافت يشبه ضوء نجمة تنطفئ لنقاش يعود إلى سبعين سنة مضت، نقاش ساهم فيه أشخاص ولد معظمهم في نهاية القرن التاسع عشر. ومن المحقق أن الاطار الاقتصادي الذي نحن مدعوون للتفكير بداخله لا يرتبط البتة بأجواء وظروف تلك الخلافات السياسية الحادة بين كينز وهايك، ولكن عدم الوقوف عندها ومعرفتها يجعلنا نبدو كما لو أننا نتحدث لغة لا نفهم ألفاظها! لقد كان سجل الدولة الرعاية الاجتماعية حافلا بكل المقاييس، ففي بعض البلدان اتخذت هذه الدولة شكل النموذج السوسيال ديمقراطي المؤسس على برنامج طموح للتشريعات الاجتماعية وفي بلدان أخرى (بريطانيا مثلا) استندت دولة الرعاية الاجتماعية إلى سلسلة من السياسات البراجماتية التي استهدفت التخفيف من وطأة الحاجة وكذا التخفيف من غلواء الغنى الفادح والحد من آثار الفقر والهشاشة. وقد تمثل النجاح الأساسي للحكومات النيوكينزية لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في التخفيف الكبير من حدة الفوارق، فمنذ اللجوء إلى المقاربة بين الفقراء والأغنياء في أوربا القارية، كما في بريطانيا والولاياتالمتحدة، وسواء جهة الدخل أو بمنظور الرأسمال، فإننا نجد أن الفوارق ما انفكت تتضاءل نسبيا، بالطبع خلال الجيل الذي أعقب سنة 1945. وبالطبع فإن فوائد هذا الميل إلى التكافؤ ترافق تبلور فوائد ومزايا أخرى ذلك أنه مع مرور الوقت توارى الخوف من الرجوع إلى سياسات مبعثها اليأس أو عدم الاستقرار أو الكراهية السياسية المعممة ، وبذلك دخل العالم الغربي المصنع في فترة رخاء ناعم واستقرار طويل وبصورة جعلت الناس يشعرون أنهم باتوا يتوفرون على ما يكفي من الأسباب والحوافز لمواجهة المستقبل بثقة متزايدة. المفارقة الكبيرة التي ظهرت بعد ذلك هي أن النجاح الباهر لنموذج دولة الرعاية الاجتماعية على مستوى كل الحكومات السوسيال ديمقراطية وحتى ( الحكومات المسيحية الديمقراطية في أوروبا) ثم استقرار هذا النموذج في الزمان، قللا من جاذبيته، لأنه أضحى مكتسبا عاديا ضمن واقع سياسي عادي، والجيل الذي يتذكر أهوال سنوات الثلاثينيات كان - يمكن أن نتوقع - الجيل الأكثر تصميما على المحافظة على الخدمات الاجتماعية العامة والنظم الحياتية وأنواع الحماية الاجتماعية التي كانت تعتبرها بمثابة ضمانات كبرى لتلافي عودة أهوال الماضي، ولكن الأجيال الجديدة في بلد كالسويد مثلا بدأوا بالتشكيك في الأسباب التي دفعت إلى اختيار النموذج الحمائي الذي توفره دولة الرعاية الاجتماعية. ان الاشتراكية الديمقراطية هي التي ربطت الطبقة الوسطى بالمؤسسات الليبرالية بعد الحرب العالمية الثانية، ونستعمل هنا لفظ الطبقة الوسطى بالمعنى الاوربي. وفي عدد من الحالات فقد استفادت هذه الطبقة الوسطى من نفس الإعانات و المساعدات و الخدمات الاجتماعية التي استفادت منها الطبقات الفقيرة في المجتمع: تعليم مجاني، خدمات صحية بأسعار مناسبة أو بالمجان، تقاعد مريح إلخ. وهكذا وجدت الطبقة الوسطى الاوربية نفسها خلال الستينيات متمتعة بمداخيل جد مرتفعة قياسا إلى السابق، اعتبارا لكون جزء من تكاليف الحياة جرى تمويلها بواسطة الضرائب، وهكذا فإن الطبقة التي كانت الأكثر عرضة لنوازع الخوف وعدم الاستقرار أضحت في ظل النموذج الكينزي مندمجة بالكامل في التوافق السوسيال ديمقراطي التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. العودة المدوية للاتكافؤ خلال نهاية السبعينيات جرى تحول معاكس لذلك الاتجاه العام، انطلق بالسياسات الجديدة في مجال الضرائب والتشغيل على عهد تاتشر وريغان، ثم بعد ذلك من خلال تحرير القطاع المالي، وانطلاقا من هذه التواريخ المفصلية أصبحت الفوارق مجددا مشكلا جديا في المجتمع، فبعد أن انخفضت مستوياتها سنة 1910 و1960، فإن مؤشر الفوارق ما انفكت تتزايد خلال العقود الثلاثة الماضية. في الولاياتالمتحدة اليوم يتساوى مؤشر جيني الذي يقيس الفارق بين الاغنياء والفقراء مع ما هو موجود في الصين، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الصين كبلد في طور الاقلاع، سيعرف بدون شك تعمق الفوارق بين الاغنياء الجدد والفقراء القادمين، فإن تساوي مؤشر جيني مع ما هو موجود في هذا البلد يعني أن الولاياتالمتحدة تراجعت أو هي بصدد التراجع قياسا إلى التطلعات السابقة. لنأخذ في سبيل توضيح ذلك قانون المسؤولية الفردية والعمل لسنة 1966 في الولاياتالمتحدة يصعب أن نتصور عنوانا أكثر أوريولية نسبة إلى الكاتب أورويل الذي صدر خلال مرحلة كلينتون والذي استهدف نسف الويلفر ستايت دولة الرعاية الاجتماعية، وهذا القانون يذكرنا من بعض الوجوه بقانون صدر في انجلترا منذ مائتي سنة تقريبا 1834، كان يعرف بالقانون الجديد للفقر . وقد عرفنا الروائي الكبير تشارلز ديكنز بمقتضيات هذا القانون من خلال رائعته أوليفر تويست، ففي المقطع الشهير الذي يتنذر فيه كلاييول بالصغير أوليفر ينعته بالمشغل، فإنه كان يعني ما نفهمه اليوم حينما يعبر بنوع من الازدراء عن المستفيدين من خدمات الرعاية الاجتماعية بأمراء الرعاية. لقد كان ذلك القانون قطعيا فيما سنه من اجراءات، فلقد فرض على الفقراء والعاطلين الاختيار بين العمل بأي أجر مهما دنى مستواه، وبين قبول وضعية الاحتقار من خلال الاقامة في ملاجئ الفقراء. وبالنسبة لكل أشكال المساعدة العمومية في القرن التاسع عشر، والتي كانت توصف بالصدقة، فإن مستوى المساعدة جرى احتسابه لكي يكون أفظع من أي عرض موجود. وقد تأسست هذه المنظومة أصلا على النظريات الاقتصادية الكلاسيكية التي كانت تنكر أي إمكانية لوجود بطالة ضمن سوق فعالة، وبمقتضى هذه النظريات، فإذا ما انخفضت الأجور بشكل كبير ولم تتوفر بدائل عن العمل مشجعة، فإن كل الناس سيجدون فرصة عمل بكل تأكيد. وخلال المائة وخمسين سنة اللاحقة يسعى المصلحون إلى تغيير ذلك النوع من الممارسات المشينة التي أسست لها تلك النظريات، وبذلك فإن الحق في تعويضات عمومية في شكل مساعدات اجتماعية عوضت القانون الجديد للفقر وما شابهه من تشريعات في البلدان الأخرى. وهكذا، فإنه لم يعد ينظر إلى المواطنين في وضعية بطالة وكأنهم الأقل استحقاقا للمساعدات العمومية، ولم يعودوا موضع نظرة تحقيرية كانت تصل إلى حد التشكيك في انتمائهم للمجتمع، بل أكثر من ذلك ففي منتصف القرن العشرين أصبح من غير المعقول إطلاقا ربط الوضعية المدنية للشخص انطلاقا من مشاركته الاقتصادية فقط. واليوم في الولايات، حيث يزداد معدل البطالة يبدو أن المرأة أو الرجل العاطلين عن العمل لا ينتمان فعلا إلى المجموعة الوطنية وحتى من أجل الحصول على تلك التعويضات الهزيلة عليهما أولا أن يقوما بالبحث عن العمل، وأثناء ذلك وعند وجود أية فرصة عمل مهما كان مستوى الاجر متدنيا أو ظروف العمل سيئة، عليهما القبول بذلك، وآنذاك فقط يمكنهما نيل احترام مواطنيهم.